ملخص: الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، إنه اللحظات والساعات والأيام التي تشكّل عمره وحياته. كثيراً ما نصف بعض أوقاتنا أو حتّى سنواتنا بالأيام الضائعة التي راحت ولن نتداركها مجدّداً. فهل هذا صحيح؟ ألا يمكن أن يتدارك الإنسان عمره الذي فات؟ وهل من حقّنا أن نصف الوقت الذي لا نفعل فيه شيئاً بالوقت الضائع؟ يقدّم المقال التالي إجابات فلسفية عميقة تسلّط الضوء على علاقتنا بالزمن الذي مضى والساعات التي رحلت من أعمارنا. لنتابع.
محتويات المقال
عندما تفقد شيئاً ما مثل مفاتيحك أو هاتفك أو قطعة من مجوهراتك فقد تلجأ أحياناً إلى مكان مخصّص لاستعادتها. يسمّى هذا المكان وفقاً للإدارات أو المؤسسات مكتب المفقودات أو مكتب الأشياء التي عُثر عليها.
وراء اختلاف الاسمين فلسفة حياة كاملة: يوحي الاسم الأول بالتحسّر على الخسارة، بينما يشير الاسم الثاني إلى أمل العثور على الشيء المفقود. لكن ما الذين يمكن أن نفعله عندما يكون هذا الشيء المفقود هو الزمن الذي "نسعى وراءه" على حدّ قول مؤلّف رواية "البحث عن الزمن المفقود" مارسيل بروست (Marcel Proust)؟
هل ثمة فائدة للوقت الضائع؟
تُزرع فكرة احتمالية ضياع الوقت في الإنسان منذ الطفولة. لا شكّ أنكّ تتذكر بعض تعليقات والدك وهو ينبّهك قائلاً: "ألا يمكنك أن تفعل شيئاً مفيداً بدلاً من هدر وقتك؟" أو عندما كان يقول بعد لقائه بأحدهم: "فلان أضاع وقتي". إذا كنّا نعتقد أن وقتنا يضيع فهذا يعني أنه يمكن أن يكون محسوباً ومربحاً، ونستطيع إدارته. وإذا كان ضياع الوقت ممكناً فهذا يعني أن ربحه ممكن أيضاً، ولذلك يجب أن يكون مثمراً ومفيداً. "أخيراً! ربحتُ بعض الوقت"، هكذا تقول في بعض الأحيان عندما تنجز عملاً ما بسرعة. لكن ما الذي نفعله بهذا الوقت الذي نربحه؟
يعتقد البعض أن النوم مضيعة للوقت بينما يراه آخرون فرصة للراحة والحلم وتجديد الطاقة. فهل تمثّل قراءة رواية أو مشاهدة فلم سينمائي أو ترديد بعض القصائد الشعرية أَو تأمل منظر غروب الشمس مضيعة للوقت أيضاً؟ وماذا عن اللعب بالهاتف أو تصفّح مواقع التواصل الاجتماعي؟ تساعدنا هذه الأنشطة في الانفتاح على العالم والاحتكاك بالآخرين، كما أنها تضحكنا أحياناً أو تثير حماسنا في أحيان أخرى. إنها تلبّي أيضاً حاجتنا الدائمة إلى استراحة مؤقّتة بأسلوب مختلف عمّا يفعله آخرون من خلال شرب فنجان قهوة مثلاً.
قد تحتلّ هذه الأنشطة حيّزاً كبيراً جدّاً في حيواتنا، لكن ألا تؤدي على الرغم من تفاهتها الظاهرية دوراً في الحدّ من شعورنا بالقلق أو ميلنا إلى التسويف مثلاً؟ هذا يعني ضرورة تحديد معنى الوقت الضائع أولاً. على سبيل المثال هل يمكن أن نعدّ وقت السفر أو الجلوس في قاعة الانتظار أو وقت أحلام اليقظة والتأمل وقتاً ضائعاً أم غنيمة ربحناها من جنون الحياة المتسارعة؟ لقد قضى زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا أكثر من ربع قرن في جحيم السجون، لكنّه كان يتحدّث عن هذه السنوات باعتبارها فترة تعلّمٍ كوّنت شخصية رجل تمتّع بكاريزما خاصّة، وندر حياته لخدمة النضال ضد نظام الميز العنصري من أجل تحقيق المصالحة والسّلم. فهل كانت سنواته هذه ضائعة أيضاً؟
أفكار أساسية
– البكاء على ما مضى يعني العيش في حالة ندم.
– فهم الماضي يضيء طريقنا نحو المستقبل.
– التعامل مع الحياة بوعي ويقظة يضفي على كلّ لحظة عمقها الحقيقي.
ما أفعله بوقتي يعكس شخصيتي
قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار (Jean Baudrillard) في كتابه "مجتمع الاستهلاك" (La Société de consommation) الصادر سنة 1970: "نحن نعيش في مجتمع يستحيل أن يضيع فيه الوقت". كلّ شيء في هذا المجتمع خاضع إلى منطق الكفاءة والإنتاجية. حتّى فترات الإجازات أصبحت رهاناً نريد أن ننجز خلاله إنجازاً ما. لِم لا، فنحن في غنىً عن إفسادها بإضاعة الوقت!
التحسّر على الوقت الضائع يعني الاعتقاد أنّنا نملك رصيداً من الساعات التي لا يجوز لنا هدرها. كأن هذه الساعات حفنة رمل في قبضة اليد تتسرّب حبّاتها من بين الأصابع. صحيح أن رصيد العمر ليس خالداً وأنّ الموت يتربّص بنا على رأس كلّ دقيقة نعيشها، لكن الحقيقة التي أدركها الفلاسفة هي أن شعور الفرد بضياع وقته دليل على أنه لم يعشه بوعي ويقظة.
كان الفيلسوف الرِّواقي الروماني لوسيوس سينيكا (Lucius Seneca) سبّاقاً قبل 24 قرناً إلى انتقاد الأشخاص الذين يشتكون من ضياع الوقت. يقول سينيكا: "كم من الوقت أخذ منك الدائن، كم من الوقت أخذ منك الزبون، كم من الوقت أخذت جدالاتك الزوجية، وكم من الوقت أخذ منك الذهاب والإياب في المدينة من أجل واجبات دنيوية؟ أنت تضيع وقتك كأنك تملك كنزاً لا يفنى، بينما قد يكون هذا اليوم الذي تخصّصه لرجل أو نشاط ما آخِر يوم في عمرك، همومك الدّائمة هموم مخلوق فانٍ وشهواتك المستمرّة شهوات كائن خالد".
بصرف النظر عن رأي سينيكا، من المؤكد أننا لا نملك غير أعمارنا، فمَن غيرُنا له الحقّ أصلاً في انتقاد ما نفعله خلالها؟ ما أفعله بوقتي يعكس شخصيتي وأولوياتي واختياراتي. عندما أحدّد أولوياتي فأنا لا أضيع شيئاً حتّى إن كانت هذه الأولويات تتجلّى في عدم فعل أيّ شيء أو التريّث والتأنّي قليلاً. وإذا أصغيتُ إلى أولئك الذين يقولون لي إنني أهدر أيامي وسنوات عمري لأنني مثلاً لم أغيّر شريك حياتي أو وظيفتي، فإنني أخرج من دائرة إيقاعي الزمني الشخصي.
هذا ما أشار إليه الكاتب الفرنسي بوريس فيان (Boris Vian) عندما قال: "الزمن الضائع هو الذي نكون فيه تحت رحمة الآخرين". إنه الوقت الذي لا نتحمّل فيه مسؤولية اختياراتنا، مثل ذلك الضيف الذي يتذمّر من عدم تناول الطعام، وينسى أنه أكل طعاماً من نوع آخر عندما انشغل بمحادثة ممتعة مع الشخص الذي كان يجلس بجواره في المائدة إلى درجة أنه لم ير الأطباق التي قُدّمت.
الوقت الذي مضى ليس ضائعاً إلا إذا كان مصدر ندم أو حسرة. ولا نشعر بالوقت إلّا إذا أخذ معنىً ذا صلة بالزمن الحاضر.
المستقبل يعتمد على الماضي
تمثّل الرغبة في تدارك الوقت الضائع انغماساً في الندم على ما لم يتحقّق. نحن لا نتحسّر على الوقت بل نتحسّر على الأمور التي كان من الممكن أن ننجزها خلاله. في هذا السياق أتذكّر قصة أحد المرضى. توفيت زوجته التي قضى معها عمراً طويلاً على الرغم من أنه لم يكن يحبّها كثيراً، وبعد أن قضى بضع سنوات وهو أرمل التقى بشريكة العمر. عندما التقيا في ظهيرة يوم من أسعد أيّامه وقرّرا أن يرتبطا إلى الأبد، كانت هي تبلغ من العمر 78 عاماً بينما كان عمره 83 عاماً.
سارت الأمور على أحسن ما يرام حيث تزوّجا واستقرّا معاً، وتشاركا حياتهما السعيدة يرقصان ويضحكان معاً، بينما كان أبناؤهما سعداء بزواجهما. لكن بدلاً من أن يستمتعا بكلّ لحظة من لحظات حياتهما ولا سيّما أن العمر لم يعد فيه متّسع طويل، انشغلا بالتحسّر على "الوقت الذي ضاع" قبل أن يلتقيا، فغرِقا في الأحزان وأفسدا اللحظات الجميلة التي كانت تجمعهما.
الوقت الذي مضى ليس ضائعاً إلا إذا كان مصدر ندم أو حسرة. ولا نشعر به إلا إذا أخذ معنىً ذا صلة بالزمن الحاضر. يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) في كتابه "الكينونة والعدم" (L‘Être et le Néant) الصادر عن دار النشر غاليمار (Gallimard) سنة 1976: "المستقبل هو الذي يحدّد إن كان الماضي حياً أو ميتاً، لأنّ الماضي يمثّل في الأصل مشروعاً وتوقّعاً، وهو يكتسب معناه من المستقبل الذي يرسم ملامحه الأوّلية، لكنّ الأمر كلّه يعتمد على حرية الفرد الحالية في تأكيد معنى هذه التوقعات من خلال تبنّيها والتصرّف وفقاً لها، أي من خلال توقع المستقبل ذاته الذي تنبّأَت به، أو إبطالها من خلال توقّع مستقبل آخر ببساطة".
في حبّ الزمن الضائع
كان الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان (Christian Bobin) الذي توفي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 مهتماً بالأمور "الصغيرة" و"الأشياء البسيطة ذات القيمة الكبيرة"، ومنشغلاً بالزمن "الضائع". صدر ديوانه الأخير "الهمسة" (Le Murmure) بعد وفاته، لكنّنا سنعود إلى تأمّل قصيدة شعرية أقدم بعنوان: "في حبّ الزمن الضائع" (L’Amour du temps perdu). يقول كريستيان بوبان واصفاً الخبز الفرنسي المحمّص المحضّر من بقايا الخبز التي يسمّيها الفرنسيون الخبز الضائع: "الزمن الضائع كالخبز المنسي على المائدة، كالخبز الجافّ. يمكنك تقديمه للعصافير، ويمكنك التخلّص منه. بل يمكنك أيضاً أن تأكله، مثل الخبز الضائع الذي كنّا نأكله في الطفولة: ننقعه في الحليب حتّى يلين، ثم نغطيه بصفار البيض والسكّر، ونطهوه في مقلاة، الخبز الضائع ليس ضائعاً، لأننا نأكله. والزمن الضائع ليس ضائعاً، لأننا نقترب من نهايته، ونحن نهزم موتنا في كلّ لحظة وكلّ لقمة. فالزمن الضائع زمن طويل يُثري النفوس".
لنعد إلى الرجل ذو الـ 83 عاماً. لقد اكتشف الحبَّ الحقيقي لكنّه كان يتحسّر على الوقت الذي مضى قبل أن يجد هذا الحبّ. وقد كان عليه في الحقيقة أن يتخلّص من هذا الندم والشعور بالذنب، لأن هذه السنوات التي قال إنها كانت تعيسة مع امرأة لم يكن يحبّها، كانت في الواقع سنوات الواجب والتضحية الطوعية وفاءً لقيمٍ شخصية مثل الإخلاص والالتزام ومرافقة الأبناء حتّى سنّ البلوغ، ثم مرافقة زوجته العجوز والمريضة.
لم تكن سنواته ضائعة كلّها، بل قضاها في خدمة قيم أخرى غير الحبّ الذي كان يرغب فيه. لقد كان في حاجة إلى إضفاء معنىً على هذه السنوات حتّى لا تظلّ في نظره مجرد أوقات ضائعة ومن ثمّ عديمة الفائدة. بل ربّما كان في حاجة إلى الاسترشاد بعِبَرها في قصّة حبّه الجديدة. في رواية "الأمير الصغير" (Le Petit Prince) التي ألّفها الكاتب الفرنسي الشهير أنطوان دو سانت إكزوبيري (Antoine de Saint-Exupéry) قال الثعلب للأمير الصغير الذي كان يبكي عندما رأى آلاف الورود التي تفوق وردته جمالاً: "الوقت الذي أضعتَه في رعاية وردتك هو الذي يجعل وردتك مهمّة إلى هذه الدرجة". من المحتمل إذاً أن نهدر المزيد من الوقت، لكنّ المؤكّد أننا لن نستطيع تداركه، فليس هناك وقت يمكن تعويضه، لذا؛ من واجبنا على الأقلّ أن نهدره فيما يستحقّ ذلك. لنهدر إذاً وقتنا لكن بمسؤولية وإفادة.
اقرأ أيضاً: