متى تستسلم وتتخلى عن طموحك المهني الخاطئ؟

الطموح المهني
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: من الشائع أن التخلي عن الطموح المهني تصرف خاطئ على الأغلب، فالأجدر بك مطاردة أحلامك وتحقيقها؛ لكن هذا المقال يأتيك من الجانب الآخر تماماً ليوضح الجانب المظلم للإصرار على التمسك بطموحات قد تدمر حياتك.

في عالم يمجّد الطموح وقصص النجاح الشهيرة، قد يبدو من غير المنطقي التفكير في التخلي عن السعي الدؤوب نحو تحقيق الإنجازات؛ إلا أن كلاً من الارتفاع الملحوظ والمتزايد لمعدلات الإرهاق ومشكلات الصحة النفسية المرتبطة بالعمل وضغوط الوظيفة، يدعونا إلى إعادة النظر تجاه مفهوم تحقيق الطموح والنجاح وربطه بالقيمة الذاتية، فمتى تتخلى عن طموحك؟ ولماذا؟ هذا ما سنجيبك عنه.

متى يؤدي الطموح المهني إلى الإرهاق النفسي والاحتراق الوظيفي؟

في حين أن الطموح ليس أمراً سلبياً بطبيعته، فإن نتائجه وتأثيراته قد تعتمد على الدوافع الأساسية وراءه، فإذا كان مدفوعاً بأهداف مصيرية وذات مغزىً يمكن أن يكون إيجابياً؛ لكن قد لا تكون الحال كذلك إذا كانت دوافع مثل الثروة أو السعي وراء المكانة الاجتماعية هي التي تقود طموحك على نحو أساسي.

ومن الجدير بالذكر إن موظفين كُثُر يعانون الشعور بالضيق والإرهاق المستمرَّين؛ ما يؤدي بهم إلى إعادة تقييم أهمية العمل والنجاح الوظيفي في حياة كلٍ منهم، فيطرحون السؤال الشائك: “هل يستحقّ الطموح ذلك التعب والإرهاق كلّهما؟”؛ الأمر الذي يدفع بهم في نهاية المطاف إلى ترك وظائفهم والسعي إلى ممارسة مهنٍ أخرى توفّر لهم فرص تحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة.

ويُعرف هذا التحوّل الهائل في الوظائف باتجاه واسع باسم “الاستقالة الكبرى” (Great Resignation) أو “الاستقالة الصامتة” (Quiet Quitting) التي بدأت تظهر بوضوحٍ بعد الأزمة الصحية العالمية عام 2020؛ حيث قرّر العاملون من المنزل الذين أنهكهم العمل المفرط من منازلهم، التركيز على هواياتهم ومشروعاتهم الشخصية؛ بينما أدرك آخرون لاحقاً أن العمل الجاد والسعي وراء وظيفة الأحلام لا يضمن دائماً الاستقرار النفسي والأمن المالي، وبخاصة في ظلّ عدم وجود مساواة في الدخل. لذلك؛ من الضروري عدم التغاضي عن العوامل الثقافية الكبرى التي تسهم في الإرهاق وفقدان الرغبة في تحقيق الطموح؛ مثل أعباء العمل غير المستدامة وظروف العمل غير العادلة.

وتُعَد رافي إيفانز (Rafy Evans) واحدةً من الموظفين الأميركيين الذين نشؤوا في ثقافة تقدّس الطموح المهني وتكريس الحياة الشخصية للإنجازات المهنية؛ غير أنها نظرتها تغيرت على نحو كبير بعد قراءة كتاب جعلها تتساءل عن الإرهاق الشديد الذي سببه العمل المفرط في حياتها؛ ما أدى بها إلى ترك وظيفتها وأخذ إجازة للتعافي، فبدأت تعمل على إنشاء حدود صحية بين حياتها الشخصية ومسيرتها المهنية الجديدة.

اقرأ أيضاً: طموح أم مثالي أم متحدٍ: ما نوع شخصيتك؟

تحقيق الطموح والنجاح في الحياة الشخصية معادلة صعبة

تميل الثقافة السائدة إلى عدم تشجيع الرعاية الذاتية؛ حيث يضع الكثيرون عملهم فوق أي اعتبار؛ ما يسهم في إصابتهم بالإرهاق النفسي الذي يسيطر على نسبة ليست بقليلة من العاملين في وقتنا الحاضر.

إذ تشير تقارير من منصة “تهون” المتخصصة في مجال الصحة النفسية، إلى أن 64% من الموظفين السعوديين واجهوا تحديات تخص الصحة النفسية على مدار الـ 12 شهراً الماضية؛ ومعظمها مرتبط بالقلق والاحتراق الوظيفي والضغط العصبي. وعلاوةً على ذلك، يعتقد 57% من الموظفين أن صحتهم النفسية تأثرت سلباً بسبب ضغوط العمل.

في السياق نفسه، تشارك الكاتبة والصحفية الإنجليزية، صوفي موريس (Sophie Morris) قصتها الشخصية حول إدراكها لأهمية الراحة وإعادة تقييم هوسها بالإنتاجية والإنجاز، بعد شعورها بالإرهاق الشديد والمرض بسبب مسيرة طويلة من العمل الصحفي والرحلات المخصصة لتقصّي الأخبار والدراسة الأكاديمية إلى جانب ذلك؛ إذ بدأت دراسة تأثير الطموح المستمر والثقافة الموجهة نحو النجاح في ظهور المزيد من الأشخاص الذين يعانون الإرهاق.

تدعو موريس التي تبنّت العمل المستقل بدلاً من الوظيفة، إلى جانب العديد من الكُتّاب والمختصين، إلى التحرّر من “أسطورة النجاح”، والسعي إلى تحقيق توازن صحي بين العمل والحياة؛ بحيث يتمكّن الأفراد من إعطاء الأولوية للوقت الشخصي والعائلة على السعي الدؤوب لتحقيق النجاح الوظيفي.

متى تتخلّى عن طموحك؟ وكيف تتخذ قرار التخلّي؟

يشير مختص العلوم السلوكية والاجتماعية، محمد الحاجي، إلى مصطلح “خطيئة الصملة” الذي يعبّر عن الجانب المظلم للإصرار على التمسّك بقراراتنا وطموحاتنا الخاطئة، فلا يعرف أشخاص عِدّة متى يتحتّم عليهم الرحيل والتخلّي عن طموحاتهم؛ إذ يُعَد الإصرار إحدى القيَم النبيلة التي تفسّر قصص نجاح عالمية أثّرت في ملايين الناس ولذلك يصعب تقبّل وجود أيّ جانبٍ سلبي له.

الانحياز إلى بعض قرارتنا قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة؛ لذلك يدعو محمد الحاجي إلى إعادة التفكير في مفهوم التخلّي بوصفه خطوة إيجابية أحياناً. فعلى الرغم من الخوف من المستقبل الذي يميّز الطبيعة الإنسانية، فالمقدرة على تقييم الحاضر والتنبؤ قليلاً بالمستقبل تمكّننا من اتخاذ خطوة التخلّي بناءً على مبدأ القيمة المستقبلية المتوقعة.

فإذا طبقّنا هذا المبدأ على الوظيفة على سبيل المثال؛ يقترح الحاجي استخدام السؤال: “بعد سنة من الآن، كم احتمالية أني سأبقى تعيساً في شركتي الحالية؟” كتمرين ذهني يساعدك على اتخاذ القرار.

ثمّ سَل نفسك مجدّداً حول الخيارات الأخرى المتاحة لديك: “إذا انتقلت إلى شركة معيّنة، كم ستكون نسبة تعاستك حينئذٍ؟”. ستكون احتمالية الرضا والطمأنينة في العمل الجديد على الأغلب أفضل من عملك القديم الذي سبّب تعاستك في المقام الأول؛ لكن كيف تحدّد نسبة تلك الاحتمالات؟ يقترح الحاجي 3 طرائق كالتالي:

  • السفر إلى المستقبل: بالاستفادة من خبرات الآخرين ممَّن سبقوك في هذه النوعية من القرارات؛ مثل أن تسأل الموظفين في الشركة الجديدة عن ثقافة المكان وضغط العمل والعلاقة بين الزملاء.
  • تقييم واقعك وحاضرك الآن: إيجاد أي مؤشرات منطقية تدل على أن أوضاعك ستتحسن بعد انتقالك إلى الشركة الجديدة، أو إذا ما كانت ثمة أي تحسينات يمكنك القيام بها في عملك الحالي قبل اتخاذ قرار التخلي عنه.
  • السفر إلى الماضي: بالاستفادة من تجاربك الشخصية وقراراتك السابقة، فإذا مررت بتجربة الانتقال من عمل إلى آخر سابقاً، وواجهت صعوبة في التكيّف، فالأغلب أن قرار التخلي عن وظيفتك الحالية لأجل أخرى قد لا يجلب لك السعادة المنتظرة؛ بل قد يضاعف تعاستك.

وعلى الرغم من صعوبة هذه الأسئلة، فمن الضروري التحلي بالصراحة مع النفس والحكمة. وعوضاً عن التمسّك بالصملة الخطأ، يمكنك توجيه إصرارك إلى فرص بديلة تدرسها على نحو جيّد خارج أوقات الأزمات؛ لأن الأشخاص يميلون إلى اتخاذ قرارات خاطئة خلال الأزمات، ويشمل ذلك قرار التخلي عن طموح مهني معين كلّفك صحتك النفسية.

اقرأ أيضاً: لماذا نقارن أنفسنا بالآخرين؟

ختاماً، يمكن أن يقودنا الجانب السلبي للتمسّك بالطموح والإصرار عليه إلى خسارة فرص بديلة كان بالإمكان استثمار وقتنا وجهدنا فيها لتحقيق الرضا والطمأنينة. فالطموح ليس سلبياً بطبيعته؛ ولكن الإصرار على تحقيقه بأيّ ثمن، وإن شمل ذلك صحتنا النفسية واستقرارنا الأسري، قد يؤدّي إلى التهلكة. لذلك؛ يجب التحرّر من عبء الطموح والمطاردة الدائمة للإنجازات، وإيجاد فرص جديدة توفّر لنا حياة أكثر توازناً.