نواجه في حياتنا بعض المواقف الصعبة مثل أن نفصل من وظيفتنا، أو نخسر أموالنا، أو ننفصل عن شريك حياتنا، ويختلف تعامل أحبائنا في خِضمّ هذه المواقف، فهم يريدون دعمنا لتجاوز الأزمة. ومنهم من يندفع بحسن نية لمحاولة تهوين هذا الوقت الصعب بترديد عبارات مشهورة مثل: "لا تقلق كل شيء سيكون على ما يرام"، أو "الوضع كان يحتمل تصورات أكثر سوءاً، انظر إلى الجانب المضيء". يُعرف ما يفعله هؤلاء الأشخاص بـ "الإيجابية السامة"، ودافعه وفقاً للاختصاصية النفسية بمستشفى بريغهام بأميركا نتالي داتيلو (Natalie Dattilo)، الرغبة في إبراز التجارب العاطفية الإيجابية على حساب التجارب السلبية. تشير داتيلو إلى أن التعامل بإيجابية مع المواقف الصعبة يعد آلية قوية للتأقلم؛ إلا أن الإيجابية السامة تنطلق من اعتبار الطريقة المثلى لمواجهة اللحظات العصيبة هي الابتعاد عن رؤية سلبياتها وتحويلها إلى تجربة إيجابية بالمطلق.
متى تصبح الإيجابية سامة؟
تعرف المعالجة النفسية تاشا بيلي (Tasha Bailey) الإيجابية السامة بأنها افتراض التعامل الدائم بإيجابية رغم المعاناة من آلام عاطفية أو جسدية. لذا تعدّها تصرفاً غير واقعي لأنها توهمنا بتجاوز آلامنا بينما هي في الحقيقة تُشعرنا غالباً بتدهور حالتنا وتكبت مشاعرنا الحقيقية.
تشرح لنا أستاذة علم النفس في جامعة ميشيغان الأميركية ستيفاني بريستون (Stephanie Preston) انعكاس ذلك على حياتنا، فهي ترى أن المشكلة لا تكمن في الأشخاص المفرطين في التفاؤل؛ إنما في إجبارهم الآخرين على التعامل بإيجابية مثالية في مواجهة مواقف تحتاج إلى علاج حقيقي لن تنجح الكلمات المتفائلة في التغلب عليها؛ بل على العكس ستؤدي إلى نتائج سلبية.
لا تقع المسؤولية على عاتق هؤلاء المتفائلين بإفراط فقط، فبحسب الاختصاصية النفسية سامارا كوينتيرو (Samara Quintero)؛ يميل معظم الأشخاص إلى تجنب النظر إليهم باعتبارهم يعرقلون حياتهم وحياة من حولهم، مؤكدة أن ذلك يظهر عند تخييرهم بين أن يتحدثوا بشجاعة وصدق عما يعانون منه، أو يتظاهروا بأن كل شيء على ما يرام، فحينها غالباً ما يفضلون الاختيار الأخير.
يرتبط ذلك بحسب تحليل الطبيبة النفسية كارولين كارول (Carolyn Karoll) بميل الإنسان إلى الشعور بالعار عندما يجد نفسه في موقف أليم. هذا ما جعل الطبيب النفسي جايم زوكرمان (Jaime Zuckerman) يعتبر الإيجابية السامة استراتيجية تجنب مستخدَمةً للتخلص من أي مشاعر مزعجة؛ لكنها في الحقيقة تؤدي لأضرار مضاعفة لاحقاً.
إذاً هل نحذف التفاؤل من قاموس حياتنا؟
حتى لا يختلط علينا الأمر فنظن أن الإيجابية بمجملها تؤدي لانعكاسات ضارة في صحتنا النفسية؛ يرشدنا أستاذ العلوم النفسية بجامعة ملبورن بروك باستيان (Brock Bastian) إلى فهم أن المكون الأساسي للإيجابية السامة ليس الإيجابية نفسها؛ إنما كيفية استخدامها في المواقف الحياتية الصعبة.
وذلك لأن جميع الأشخاص معرضون لاحتمالية أن يفشلوا أو يخسروا أو يعيشوا أوقاتاً يشعرون فيها بالاكتئاب أو الخوف أو القلق. المهم هو كيفية تعاملهم مع هذه التجارب، ومدى تقبلهم لها، وعدم تجنبهم المشاعر الناتجة عنها.
يرى باستيان أن الاستجابة لهذه المشاعر بدلاً من محاولة الدخول معها في صراع عامل أساسي لنعيش بسعادة، مشيراً إلى أن الانزعاج منها ومحاولة تحجيمها باستخدام الإيجابية السامة استراتيجيات غير فعالة. الطريقة الأفضل أن نصل لنقطة نشعر فيها بالتقبل لتلك المشاعر التي نحاول إبعادها، ومن ثم نبحث عن اختيارات للتعامل معها، ونتخذ قرارات صحية فعالة تجاهها.
لا يعني الحذر من الإيجابية السامة إلغاء التفاؤل من الحياة بحسب المعالجة النفسية تاشا بيلي، فهي تعتبره عاملاً مهماً يزيد ثقتنا في أن نحظى بمستقبل أفضل، ويجعلنا نأمل في تغيير الأمور السلبية؛ لكنه لا يعني تجاهل مشاعرنا الناتجة عن المواقف الصعبة التي نعيشها.
5 علامات تشير إلى معاناتك من الإيجابية السامة
رغم أن الإيجابية السامة في الغالب تتخفى وراء شعارات القدرة على مواجهة الحياة وعدم التأثر بالصعاب؛ إلا أن هناك علامات تؤكد معاناة الشخص منها وفقاً للاختصاصية النفسية كندرا شيري (Kendra Cherry). نذكر منها:
- تجاوز المشكلات بدلاً من العمل على حلها بجدية.
- الشعور بالذنب تجاه مشاعر الحزن أو الغضب أو الإحباط.
- إخفاء المشاعر الحقيقة وراء الاقتباسات التي ينشرها الشخص على حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي ليشعر بالرضا والقبول الاجتماعي.
- التقليل من المشاعر السلبية للآخرين ووصمهم بالعار إذا لم يكن لديهم موقف إيجابي تجاه تلك المشاعر.
- التعامل مع المشاعر المؤلمة بالقسوة على النفس لتحملها، أو تجاوزها أحياناً دون علاج.
ليست مبالغة: الهروب من مشاعرك السلبية يضرك جسدياً
يؤكد الطبيب النفسي جايم زوكرمان أن تأجيل علاج المشاعر السلبية بشكل فعال في الوقت المناسب يؤدي إلى مضاعفات لا تحصى، تشمل المعاناة من النوم المتقطع، واحتمالية تعاطي المخدرات، والإصابة بالتوتر الحاد، والحزن لفترات طويلة، ويصل الأمر أحياناً إلى حد المعاناة من اضطراب ما بعد الصدمة.
تصف لنا دراسة أجرتها جامعة ستانفورد الأميركية تأثير تجاهل المشاعر السلبية دون علاجها، فقد قسم الباحثون العينة البحثية إلى مجموعتين عرضوا عليهم أفلاماً متنوعة، وطلبوا من أفراد المجموعة الأولى إظهار المشاعر التي تطرأ عليهم مباشرة، بينما وجهوا أفراد المجموعة الثانية إلى كبت مشاعرهم والتصرف كأن لا شيء يحدث بداوخلهم.
ولاحظ الباحثون الاختلافات الفيزبولوجية التي تظهر على المشاركين؛ مثل معدل ضربات القلب، واتساع حدقة العين، وإفراز العرق. وكانت النتيجة أن من كتموا مشاعرهم عانوا من مستويات أعلى من الإثارة الفيزيولوجية ليتحول برودهم الظاهري إلى نار أُضرمت بداخلهم لتحرقهم.
اقرأ أيضاً: هل يخفف البكاء من الضغط النفسي؟
الإيجابية السامة تحوّل البشر إلى دمى
يساهم الدعم المتبادل خلال المواقف الصعبة في تقوية العلاقات الاجتماعية وجعلها تصمد أمام الزمن. وذلك لا يتحقق مع الإيجابية السامة، لأنها بحسب الاختصاصية النفسية سامارا كوينتيرو تجعلنا غير متواصلين مع ذاتنا الحقيقية، ومن ثم لا نستطيع تقديم أنفسنا بصورة صادقة للآخرين، وذلك يجعلهم غير قادرين على التواصل معنا، فنحن نظهر لهم بكوننا غير قابلين للكسر، وصامدين أمام صعاب الأيام؛ بينما في حقيقة الأمر نعيش هشاشة داخلية لا تُحتمل.
ونتيجة انتشار الإيجابية السامة نرى في حياتنا اليومية أشخاصاً لا يسمحون للمشاعر السلبية أن تحضر في وجودهم، وينعكس ذلك على المحيطين بهم في تصنعهم طوال الوقت أن الأمور تسير على ما يرام حتى لو لم تكن كذلك، لينتهي بهم الحال بكتمهم لمشاعرهم الحقيقية والظهور بمظهر متفائل خادع، وتكون المحصلة النهائية عالماً مزيفاً لا مكان فيه سوى للصداقات السطحية المزيفة.
اقرأ أيضاً: كيف تدعم صديقك المفجوع بطريقة صحيحة؟
5 إرشادات عملية تجنّبك الإيجابية السامة
رغم تعرضنا لمواقف نصطدم فيها بأشخاص يمارسون تجاهنا تصرفات تتسم بالإيجابية السامة؛ إلا أنه توجد إرشادات عملية تجعلنا نسيطر على سير الأمور وتحمينا من الوقوع في هذا الفخ. نذكر منها:
1. احترم مشاعرك
توصلت دراسة علمية أجرتها جامعة كاليفورنيا الأميركية إلى أن التحدث عن المشاعر الشخصية مثل الحزن أو الغضب أو الألم، أو حتى تدوينها يقلل من حدتها. لذلك كن حريصاً في المرة القادمة على الاعتراف بمشاعرك السلبية، وأفسح لها المجال حتى لا ينعكس تراكمها عليك سلباً.
2. لا بأس أن تشعر بشعورَين متعارضَين
تكمن خطورة الإيجابية السامة في أنها تجعل الفرد يدعم الشعور الإيجابي بشكل كامل على حساب إلغاء الشعور السلبي تماماً. لكن يرى الطبيب النفسي جيمي لونع (Jamie Long) أنه من الصحي الاعتراف بالمشاعر الحقيقية بغض النظر عن نوعها. لذلك قد يكون عند الشخص شعوران متعارضان في الوقت عينه؛ مثل أن يشعر بالحزن لفقدان وظيفته لكن يظل متفائلاً بالعثور على وظيفة جديدة مستقبلاً.
3. تيقّظ لشعارات الإيجابية السامة
يلفت الطبيب جيمي لونغ أنظارنا إلى جانب مهم هو أن ننتبه قدر الإمكان إلى رسائل الإيجابية السامة الشائعة؛ مثل: "السعادة اختيارك"، أو "مهما حدث يمكنك تجاوز آلامك وصناعة نجاحك"، وغيرها من الشعارات التي لسنا مضطرين لقبولها لأنها ستجعلنا نتجاهل مشاعرنا الحقيقية.
4. تعامَل بواقعية في مواجهة الصدمات الحياتية
نتعرض في حياتنا لبعض المواقف العصيبة التي نشعر فيها بالتوتر أو القلق أو الخوف؛ لكن التعامل الصحي معها وفقاً للاختصاصية النفسية كندرا شيري يكون بعدم توقع إختفاء تلك المشاعر السلبية، وإيلاء الاهتمام للقيام بخطوات رعاية ذاتية تساعدنا على تحسين وضعنا.
5. احذر زَيف وسائل التواصل الاجتماعي
تساهم وسائل التواصل الاجتماعي في تسويق الإيجابية السامة بحسب الطبيب النفسي جايم زوكرمان، فالأشخاص لا ينشرون أخطاءهم أو يسلطون الضوء على قرارتهم السيئة، ومن ثم يصل إلينا شعور بأن الآخرين يديرون أزماتهم بشكل أفضل منا فنشعر بالإحباط. لذلك تذكّر دائماً أنه لا توجد حياة مثالية مثل التي تظهر لك في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي.
ربما تكون مشاعر الحزن أو الخوف أو القلق أثقل شعورياً وأشد تأثيراً فينا، وذلك يجعلنا نرغب في تجاوزها سريعاً. لكن تجاوز تلك المشاعر دون استيعابها جيداً والتعامل معها بصورة صحية لن يجعلها تختفي؛ بل ستتفاقم لاحقاً وتؤدي إلى ظهور آثار بالغة السوء، لذلك أفسح المجال لمشاعرك السلبية وأعطِها الأولوية حتى تتزن صحتك النفسية.