لعنة المعرفة: هل كلما ازداد علمك قلّت سعادتك؟

5 دقيقة
لعنة المعرفة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: العلاقة بين المعرفة والسعادة معقدة؛ فمِن الناس مَن يقول إنه كلما ازدادت معرفتك قلت سعادتك، ومنهم من يقول العكس. فهل ثمة إجابة موحدة تنطبق على الجميع؟ سنتطرق في هذا المقال إلى وجهات النظر المختلفة حول ما يسمى "لعنة المعرفة".

"حينما يكون الجهل نعمة، فمن الحماقة أن تكون حكيماً"؛ جملة شهيرة للشاعر الإنجليزي، توماس غراي (Thomas Gray). إن لم تسمع به قبلاً، فمن المرجح أنك سمعت بقول الشاعر العربي المتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم"!

حسناً، لا يمكننا هنا إلا أن نسأل: هل المعرفة حقاً لعنة تؤذي صاحبها؟ وهل تنقص السعادة فعلاً كلما ازداد العلم؟ دعونا نناقش في هذا المقال مفارقة المعرفة والسعادة، وكيف تؤثر إحداهما في الأخرى.

اقرأ أيضاً: ما الاضطرابات النفسية التي تصيب الأذكياء؟ ولماذا تزيد إصابتهم بها؟

لماذا يُعد الوعي نعمة ونقمة في الوقت نفسه؟

قد يسبب الوعي البشري في حد ذاته علاقة متذبذبة مع تحقيق الرفاهية والسعادة، فالقدرة على التخيّل والتخطيط والتحليل واستخدام اللغة والرموز وفك شيفراتها والتواصل، فضلاً عن القدرة على التأمل الذاتي والتفكير في الماضي والحاضر والمستقبل بطرائق معقدة، هي سمة الوعي البشري؛ السمة التي مكّنتنا من أن نصبح كائنات بشرية ناجحة ومتكيفة ومبتكرة جداً.

لكن ما مِن شيء دون مقابل! فالحديث السلبي مع النفس واجترار الأفكار والقلق وانتقاد الذات والحكم عليها، من العواقب غير السارّة للوعي البشري، وهي عواقب قد تجعل الإنسان قلِقاً وتعيساً إلى حد ما.

فالوعي يمنحنا الكثير من الأمور التي ينبغي التفكير بأمرها والقلق بشأنها، ولسوء الحظ، يدور الكثير من هذه الأفكار حول المشكلات والمخاوف والأحكام السلبية أكثر مما يدور حول الجوانب الإيجابية. إنها الطريقة التي جُهزت بها أدمغتنا لتوقع الخطر وأخذ الحيطة والبقاء على قيد الحياة؛ لكن المشكلة تنشأ عندما ننشغل بهذه الأفكار السلبية إلى درجة أننا لا نلحظ مدى تأثيرها في عواطفنا وأجسادنا؛ ما يسبب العديد من المشكلات الشخصية والاجتماعية.

وعلى الرغم من أن الوعي في حد ذاته يُعد جانباً أساسياً من جوانب الإدراك البشري، ويتقاسمه الأفراد جميعهم؛ لكن يمكن القول إن بعض الأفراد قد يشعرون بالتحديات المرتبطة بالوعي على نحو أقوى أو أكثر كثافة؛ أي إن وعيهم بأفكارهم ومخاوفهم وشكوكهم حول المستقبل قد يكون ساحقاً أو مرهقِاً بالنسبة إليهم. إذاً؛ يتعلق الأمر بالتجربة الذاتية للفرد وكيفية تعامله مع تعقيدات وعيه الخاص، فماذا عن الذكاء؛ هل يساعد على نيل السعادة أم يعرقله؟

اقرأ أيضاً: دراسة علمية: ميلك إلى العزلة يدل على ارتفاع معدل ذكائك

هل كلما ازداد الذكاء قلّت السعادة؟

بدأ عالم النفس، لويس تيرمان (Lewis Terman)، في دراسة علمية عام 1926، بحثه عن "الدراسات الجينية للعبقرية"؛ وهي دراسة طولية تهدف إلى التحقق مما إذا كان الأطفال ذوو معدلات الذكاء المرتفعة أكثر صحة وسعادة ونجاحاً في الحياة، وما زال بحثه مستمراً حتى اليوم على يد علماء نفس آخرين.

والدراسة الطولية، لمَن لا يعلم معناها، هي تتبُع ما يحدث للمتغيرات المحددة في المجموعة نفسها من الأفراد على مدى فترة زمنية طويلة. أما نتائج تيرمان فكانت مثلما توقع إلى حدٍّ ما، فالأشخاص ذوو معدلات الذكاء المرتفعة يميلون إلى أن يكونوا أكثر صحة وأطول عمراً وأكثر تكيفاً اجتماعياً من الأشخاص الآخرين.

ومع ذلك، لم يحقق أفراد المجموعة جميعهم توقعات تيرمان؛ إذ عمل الكثير من هؤلاء الأشخاص في مهن متواضعة؛ ما دفع تيرمان إلى استنتاج أن الذكاء والإنجاز غير مترابطين ارتباطاً تاماً، بالإضافة إلى أن الذكاء العالي لم يمنح السعادة الشخصية لمعظمهم، ولم يؤثر في جودة العلاقات والرضا عن الحياة.

قد تُعزى الأسباب إلى أن العديد من الأشخاص الأعلى ذكاءً يكونون أكثر ميلاً إلى الكمال ويمتلكون توقعات عالية عن أنفسهم؛ ما يؤدي إلى خيبة الأمل وعدم الرضا عن إنجازاتهم في الحياة؛ كما قد يكونون أكثر قلقاً وتفكيراً في الأحداث السلبية واجترارها، وأكثر عرضة إلى الإصابة بالاكتئاب والعزلة الاجتماعية.

ومع ذلك، لا يعني ما سبق أن العلاقة بين الذكاء وقلة السعادة علاقة سببية في الأحوال جميعها، فثمة الكثير من العوامل التي تؤدي دوراً أكثر أهمية في تحقيق السعادة من الذكاء؛ مثل سمات الشخصية ومهارات التأقلم والدعم الاجتماعي وظروف الحياة، فضلاً عن أن الذكاء قد يزيد الشعور بالسعادة في بعض الأحيان.

فقد وجدت دراسة منشورة في دورية الطب النفسي (Psychological Medicine) عام 2013، ارتباطاً كبيراً بين الاثنين؛ إذ أفاد الأشخاص ممن يتمتعون بمعدلات ذكاء منخفضة (بين 70 و99) عن مستويات أدنى من السعادة مقارنة بأولئك الذين يتمتعون بمعدلات ذكاء أعلى (بين 120 و129).

لكنها وجدت أيضاً أن كلاً من تعزيز فرص التعليم والتوظيف، وتحسين الدخل، والكشف المبكر عن مشكلات الصحة النفسية، يسهم في تحسين مستويات السعادة في مجموعة الذكاء المنخفض. وهذا ربما ما يفسر تأكيد الطبيب النفسي محمد اليوسف إن بعض الوعي قد يصيب الشخص بالإحباط والاكتئاب؛ لكن المزيد منه يقوده نحو السعادة.

اقرأ أيضاً: كل ما تريد معرفته عن متلازمة الموهوب

متى تصبح المعرفة لعنة؟

إن كانت طبيعة العلاقة بين الذكاء والسعادة غير واضحة تماماً، فماذا عن اكتساب العلم؟ هل يؤدي تحصيل المعرفة إلى زيادة البؤس؟ في الواقع، البشر فضوليون بطبيعتهم، ويتوقون إلى سد الفجوات المعرفية التي يمتلكونها؛ ما يدفعهم إلى تحصيل المزيد من العلم والمعرفة.

لكن ما يحدث أحياناً، أن الشخص عندما يحصِّل الكثير من المعرفة والخبرة، فإنه قد يفشل في فهم وجهات نظر الناس ممن لا يمتلكون القدر ذاته من المعلومات؛ وهذا ما يُسمى بـ "لعنة المعرفة". صاغ هذا المصطلح الباحثون كولين كاميرر (Colin Camerer) وجورج لوينشتاين (George Loewenstein) ومارتن ويبر (Martin Weber) في بحثهم المنشور عام 1989.

يشير المصطلح إلى تحيّز معرفي ينتج من عدم قدرة الناس على تجاهل المعلومات التي يمتلكونها عندما يحاولون التفكير في وجهات نظر أخرى، أو يتوقعون أن الأشخاص الآخرين يعرفون المعلومات التي يعرفونها ويمتلكون القدرة على معالجتها أيضاً. يمكن أن تسبب لعنة المعرفة فجوات في التواصل والتعاطف، وقد تصبح عائقاً أمام الإنتاجية والابتكار والنمو المهني؛ ما ينعكس على الرفاهية عموماً.

لكن يمكن الحدّ من لعنة المعرفة بطرائق مختلفة؛ مثل زيادة الفهم والوعي بهذا التحيز، والتعرف إلى وجهات النظر الأخرى، وتحديد المعرفة المشتركة مع الآخرين وتلك التي يتميز بها الشخص دونهم، والحصول على تعليقات من الأفراد، وافتراض أن الآخرين لا يعرفون ما يعرفه الشخص أساساً، فيتجنب استخدام مصطلحات معقدة للتعبير عن أفكاره أو يوضحها مباشرة عندما يستخدمها.

في الواقع، أياً تكن نتائج اكتساب المعرفة على الإنسان، فإن البشر يفضلون اكتساب المعرفة أكثر مما يرغبون في تحقيق السعادة، فقد بينت دراسة منشورة في دورية العلوم النفسية (Psychological Science) عام 2016، أن حاجة المرء إلى تهدئة مشاعر عدم اليقين وإشباع فضوله تدفعه إلى الحصول على المعلومات، حتى لو علِم أن نتائج معرفته ستكون وخيمة.

ومع ذلك، قد يؤدي اكتساب المعرفة إلى نيل السعادة إذا تُلقيّت هذه المعلومات عن طيب خاطر وبالوتيرة المرغوبة، وإذا ما استُخدمت أيضاً على نحو إيجابي ونافع في تحسين الذات، وتقليل مشاعر عدم اليقين.

كيف يمكن للحكمة أن تجلب السعادة؟

على الرغم من أن الأبحاث العلمية التي تربط بين السعادة والذكاء لم تكن حاسمة، فإن ثمة أبحاثاً استطاعت إيجاد صلة بين الحكمة والسعادة. فقد توصلت دراسة منشورة في مجلة علم النفس التجريبي (Journal of Experimental Psychology) عام 2012، إلى أن التفكير المنطقي المتفوق الذي يتأثر بتجارب الحياة ويقع في سياق اجتماعي، أو ما يُسمَّى بـ "الحكمة"، يرتبط إيجابياً بالرفاهية.

وعلى وجه الخصوص، وُجد أن التفكير بحكمة يرتبط إيجابياً بزيادة الرضا عن الحياة، وانخفاض المشاعر السلبية، وتحسين الروابط الاجتماعية، وانخفاض الاجترار السلبي، واستخدام لغة أكثر إيجابية، وحتى زيادة طول العمر.

ومن المثير للاهتمام أن هذا الارتباط بين التفكير بحكمة والسعادة استمر حتى بعد مراعاة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والقدرات اللفظية والسمات الشخصية المختلفة؛ في حين أن الذكاء لم يُظهر أي علاقة مباشرة بالرفاهية في الدراسة؛ وهو ما يتماشى مع نتائج الأبحاث السابقة.

وقد تشابهت هذه النتائج مع نتائج دراسة أخرى منشورة في مجلة دراسات السعادة (Journal of Happiness Studies) عام 2011؛ إذ وجدت الأخيرة أن الحكمة والسعادة ليستا متعارضتَين مثلما قال بعض الفلاسفة والشعراء؛ وإنما توجد علاقة متناغمة بين الاثنتين، ويشير ذلك إلى أن امتلاك الحكمة يمكن أن يسهم في سعادة الفرد عموماً. أما الشخص الأكثر حكمة من وجهة نظر الفيلسوف الشهير سقراط؛ فهو الشخص الذي يستطيع أن يعترف بأنه لا يعرف شيئاً.

ختاماً، يمكن القول إن العلاقة بين الذكاء والسعادة تختلف من شخص إلى آخر، فقد يجد بعض الأشخاص أن علمهم وذكاءهم يجلب لهم السعادة والرضا؛ في حين يجد آخرون أنهم أكثر قلقاً وتعاسة. لكن لنفترض أن السعادة والمعرفة خطان متوازيان لا يلتقيان، فهل تختار الجهل المصحوب بالسعادة، أم المعرفة مع كل ما يترتب عليها من عواقب على صحتك النفسية؟