خِضتُ نقاشاً مع أحد أصدقائي القدامى خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضية تطرقنا خلاله إلى تغيّر نمط العمل في السنوات الخمس الأخيرة، إذ أصبح معظمه أكثر تسارعاً ولا يتيح توازناً بينه وبين الحياة الشخصية إلا في أضيق الحدود، وفيما يبدو أن هذا النقاش أكده تقرير نشرته شركة غالوب الأميركية لاستطلاعات الرأي في أبريل/ نيسان 2025 عن حالة بيئة العمل العالمية، أوضحت من خلاله تراجع نسبة الموظفين الذين وصفوا حياتهم بأنها مزدهرة إلى 33%، مشيرة إلى انخفاض جودة الحياة لدى المدراء بالأخص، وكذلك كبار السن والنساء، مفسّرة ذلك بارتفاع التوتر والضغط الناتج عن قلة الموارد ومتغيرات سوق العمل، إلى جانب ضعف الدعم المؤسسي والتدريب، وغياب الرؤية المشتركة بين القادة والموظفين.
محتويات المقال
وقد أكد التقرير أنّ البيئة السلبية في مكان العمل تُسهِم في زيادة معدلات الإرهاق وتؤدي إلى الغياب عن العمل والرغبة في الاستقالة، وجميع ما سبق جعل غالوب تطلق صافرة الإنذار واصفة عام 2025 بأنه أشبه بنقطة الانهيار في سوق العمل!
وهنا يحضرني مقولة كثيراً ما سمعتها في نهاية الشكوى من بيئات العمل السامة تقول: "هذه وظيفة تقصّر العمر"، وهي من وجهة نظري ليست تعبيراً مجازياً فقد شاهدت مؤخراً العديد من النماذج الحية التي جعلتني أتيقن أن نوعية الوظيفة وبيئة العمل تتحكم إلى حد كبير في مدى استقرارنا النفسي، وتحدد أحياناً نوعية الأمراض التي قد تصيبنا، لذا من المهم أن نتعرف إلى كيفية الترابط بين وظائفنا وصحتنا، والعلامات التحذيرية التي تخبرنا بأننا نعمل في وظيفة سامة علينا مغادرتها في أقرب فرصة.
كيف يؤثر الرضا الوظيفي في صحتك النفسية والجسدية؟
توصلت دراسة علمية أجرتها جامعة ولاية أوهايو الأميركية (The Ohio State University) إلى أن رضاك عن وظيفتك في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من عمرك يؤثر بدرجة بالغة في المشكلات الصحية التي تتعرض لها لاحقاً في الأربعينات، وبالأخص تلك المشكلات المرتبطة بالصحة النفسية.
إذ اكتشفت الدراسة وجود علاقة بين انخفاض الرضا الوظيفي والإصابة باضطرابات نفسية أهمها الاكتئاب ومشكلات النوم والقلق، إلى جانب ظهور مشكلات في العلاقات العاطفية، أما المشكلات ذات الصلة بالصحة الجسدية فكان أهمها الإصابة بآلام الظهر ونزلات البرد.
ولفت أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية أوهايو هوي تشنغ (Hui Zheng) إلى أن بعض الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب تؤدي على المدى البعيد إلى الإصابة بمشكلات صحية مزمنة مثل أمراض القلب والأوعية الدموية.
اقرأ أيضاً: علمياً: غياب خطة لوظيفتك يُضعف رضاك وأداءك
8 علامات تؤكد عملك في وظيفة تؤذيك
يشير المعالج النفسي السعودي أسامة الجامع إلى أن بيئة العمل إما أن تكون مصدراً من مصادر جودة الحياة، أو مصدراً من مصادر التوتر، وذلك يرتبط بعدة أسباب منها وجود مشكلات في علاقات العمل أو ارتكاب أخطاء في التعامل مع الضغوط، موضحاً أنه في البداية يمكن للإنسان أن يتحمل هذا العبء لكن مع مرور السنوات وتصاعد المسؤوليات تظهر الآثار على الجسد وتنعكس على السلوكيات، لذا حتى تكون يقظاً لتأثير بيئة عملك في صحتك النفسية والجسدية إليك أهم العلامات التي تؤكد تواجدك في بيئة عمل سامة:
- لا تتعامل الإدارة معك على قدم المساواة إنما تقلل من شأنك وتمارس الاستبداد تجاهك.
- يوجد عدم اتساق بين قيم الشركة وقيمك الشخصية، ومعظم العاملين يتحدثون عن بعضهم بالسوء.
- غياب الاحترافية والالتزام، وشيوع الفوضى والعشوائية.
- تصطحب عملك إلى منزلك كثيراً وتعمل بعد أوقات الدوام باستمرار، وفي الوقت نفسه لا تتمكن من أخذ إجازة تلتقط فيها أنفاسك.
- أفق التطور في وظيفتك غائب فلا تعرف بالضبط ما الذي ينبغي عليك فعله لتترقى.
- كل شيء حولك في الشركة يحدث فجأة دون أن يكون لديك علم مسبق به، ما يعكس انعدام الشفافية.
- أصبحت أكثر عرضة للإصابة بالأمراض ولا تمنحك الشركة الوقت الكافي للتعافي.
- حياتك أصبحت عبارة عن مهام لا تنتهي وليس فيها مساحة للجلوس مع الأسرة أو لقاء الأصدقاء، أو ممارسة الرياضة والهوايات الممتعة.
اقرأ أيضاً: دليلك الكامل للحفاظ على صحتك النفسية في العمل
كيف تتصرف إذا كنت تعمل في وظيفة تستنزفك؟
لأكون أميناً ففي كثير من الأحيان لا تكون الاستقالة من الوظيفة السامة اختياراً متاحاً للكثير من الأشخاص، لذا يجب صنع طريقاً ثالثاً يتضمن التعامل مع تأثيرات تلك الوظيفة بوعي وحذر، ويمكنك تحقيق ذلك من خلال اتباع عدة خطوات:
- حاول قدر المستطاع أن تجد وقتاً في يومك تتوقف فيه عن التفكير في العمل حتى تقلل تأثير بيئته السامة في حياتك، وخلال هذا الوقت جرب ممارسة تمارين الاسترخاء أو الحديث مع أحد أفراد أسرتك أو صديق عزيز، المهم أن تصنع قوة إيجابية مضادة تواجه بها التدهور الذي تحدثه وظيفتك.
- لا تنساق وراء الضغوط غير المنطقية وحاول المناورة وفق طاقتك، فمثلما يقولون العمل لن ينتهي بينما حياتك لها مدى محدد، لذا ضع جدول مهام يومي فعال تؤدي من خلاله دورك المهني دون الوقوع في فخ الاستنزاف.
- ركز على إنتاجيتك وإتقانك لمهامك ولا تنشغل بمساحة القيل والقال، وفي الوقت نفسه كن لطيفاً مع الجميع وعاملهم باحترام.
- في حال لم تغير الخطوات السابقة التأثيرات السلبية لوظيفتك جرب التحدث مع معالج نفسي يرشدك إلى استراتيجيات مختلفة للتكيف، وفي حال لم تجدِ هذه الاستراتيجيات نفعاً وتأكدت أنك فعلت ما بوسعك فربما سيكون قد حان الوقت للبحث عن وظيفة جديدة تجعلك راضياً عن حياتك، لكن كن حذراً عند اتخاذ هذا القرار ونفذه وفق خطة تضمن أمانك المالي.
اقرأ أيضاً: كيف تصبح قائداً جذاباً؟ دروس من تجربة سام ألتمان