ما الذي يجعلك تصدر أحكاماً ظالمة لقلة معلوماتك؟ وكيف تتجنب ذلك؟

4 دقيقة
الاستدلال التعسفي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

تذكر معي، كم مرة افترضت صفة سلبية في شخص ما بناءً على تفاعل عابر؟ أو قررت عدم شراء منتج لمجرد أن غلافه بدا "غير مناسب"؟ قد يبدو من المفارقات أن تصدر أحكاماً دون الاستناد إلى معلومات كافية في ظل عالم يعج بالمعلومات، إلا أنه في الواقع نتيجة الوقوع في فخ ما يُعرف في علم النفس بالاستدلال التعسفي (Arbitrary Inference)؛ وهو تشوه معرفي يميل فيه الدماغ البشري إلى سدّ الفجوات المعرفية بالافتراضات أو التحيزات أو المنطق الناقص. وعلى الرغم من أن هذا السلوك قد يُفيد أحياناً، فهو غالباً ما يأتي بنتائج عكسية، مُؤدياً إلى سوء الفهم واتخاذ قرارات خاطئة. فما الذي كان يدور في ذهنك عندما أصدرت هذه الأحكام المتسرعة دون معلومات كافية؟ وكيف تتوقف عن ذلك؟ إليك الإجابة.

ما هو الاستدلال التعسفي؟

يحدث الاستدلال التعسفي عندما تصدر أحكاماً أو تستخلص استنتاجات دون أدلة كافية، أو حتى بما يتعارض تماماً مع الأدلة المتاحة. وغالباً ما يؤدي هذا التشوه المعرفي إلى تفكير خاطئ وسوء فهم، ومعتقدات غير منطقية.

إنه سمة مميزة للإدراك البشري، يمكن وصفه بطريق مختصر يستخدمه الدماغ عندما لا تتوفر لديه بيانات كافية للعمل بها. وبينما يساعدنا أحياناً على اتخاذ خيارات سريعة، فهو في الواقع يضللنا في أحيان أكثر. يتجلى الاستدلال التعسفي في مواقف مختلفة، غالباً دون أن ندرك ذلك. على سبيل المثال، قد تُكوّن رأياً غير عادل حول شخص جديد تعرّفت عليه بناءً على مظهره فقط أو بسبب عبارة جانبية تفوّه بها. وفي مثال آخر، قد يُصدر مدير التوظيف أحكاماً تعسفية على المرشحين بناءً على عوامل سطحية، مثل طول سيرتهم الذاتية أو الجامعة التي التحقوا بها، بدلاً من مؤهلاتهم الفعلية. ليس ذلك فحسب، بل يمكن أن يؤثر الاستدلال التعسفي في كيفية اختيار الناس للمنتجات؛ مثل شراء منتج ما لمجرد أنه مصنف ضمن "الأكثر مبيعاً" دون التحقق من جودته الحقيقية.

على سبيل المثال، في أثناء جلوسك في غرفة انتظار، قد تلاحظ شخصين يهمسان، فتفترض في الحال إنهما يتحدثان عنك، لكن هذا التفسير قد يكون غير صحيح تماماً، إذ ربما يدور حديثهما حول موضوع خاص بهما لا علاقة لك به.

اقرأ أيضاً: الانحيازات السلوكية: ماذا تفعل تجاه العيوب التي تشوب طريقتك في التفكير؟

4 أسباب نفسية للاستدلال التعسفي

ينشأ الاستدلال التعسفي من عدة عوامل نفسية وظرفية تؤثر في كيفية معالجة الأفراد للمعلومات وإصدار أحكامهم، من أهمها:

  1. التحيزات المعرفية: يمكن أن تؤدي التحيزات المعرفية، مثل استدلال التوافر (الاعتماد على المعلومات المتاحة بسهولة)، وتحيز التأكيد (تفضيل المعلومات التي تتوافق مع المعتقدات السابقة)، إلى تشوّه الإدراك وعملية اتخاذ القرار والتفكير التعسفي.
  2. العوامل الاجتماعية والثقافية: يمكن للأعراف الاجتماعية والتقاليد والروايات الثقافية أن تُشكل نمط التفكير، ما يؤدي إلى إصدار أحكام تعسفية تتوافق مع توقعات المجتمع ومعاييره بدلاً من التحليل الموضوعي.
  3. متلازمة المحتال: غالباً ما يشكك الأشخاص المصابون بمتلازمة المحتال في قدراتهم ويشعرون بأنهم مُحتالون على الرغم من الأدلة على كفاءتهم. قد يؤدي هذا الشك الذاتي إلى تفكير تعسفي، حيث يُفسرون المواقف بصورة سلبية دون أدلة كافية. على سبيل المثال، قد يرفضون الإطراء باعتباره مجاملة غير صادقة، أو يعزون نجاحاتهم إلى الحظ بدلًا من المهارة.
  4. اضطرابات نفسية: يشير المختص النفسي عبد الله آل دربا، إلى أن أكثر ما قد يعاني منه مريض الاكتئاب هو الاستدلال التعسفي. كما قد يشيع انتشار الفكر الاستدلالي لدى الذين يعانون من:
  • القلق.
  • الاضطراب الثنائي القطب.
  • تشوه صورة الجسم.
  • المعتقدات الوهمية.
  • السعي إلى الكمال.
  • اضطراب ما بعد الصدمة.
  • الذهان.
  • الميول الانتحارية.

اقرأ أيضاً: ما متلازمة المحتال وكيف تتغلب عليها؟

اتبع هذه الخطوات للتغلب على الاستدلال التعسفي

على الرغم من أن التفكير التعسفي متأصل بعمق في الإدراك البشري، فالسيطرة عليه ليست مستحيلة. إليك استراتيجيات لتخفيف تأثيره:

1. الملاحظة والتصنيف

الخطوة الأولى للتغيير هي إدراك السلوك، إذ غالباً ما يتسلل التفكير التعسفي دون سابق إنذار، متجلياً في افتراضات سريعة أو ردود فعل عاطفية. بممارسة الوعي الذاتي، يمكنك ضبط نفسك وتصنيف الفكرة على حقيقتها عوضاّ من إصدار الأحكام. على سبيل المثال يمكنك ممارسة التأمل بانتظام في أنماط تفكيرك، والاحتفاظ بدفتر يوميات تدوّن فيه حالات الاستدلال التعسفي ومحفّزاته. لكن تذكر أن هدفك هو فهم أنماط تفكيرك، لا انتقاد نفسك عليها، لذا، عندما تخطر ببالك فكرة تعسفية أو لا أساس لها، قل لنفسك شيئاً مثل:

  • "أنا أتسرّع في الاستنتاجات مرة أخرى".
  • "هذا تفكير تعسفي يجب أن أتوقف عنه".

2. قيّم تفكيرك

بدلاً من قبول أفكارك الأولية على اعتبارها حقائق، خصص لحظة لتحديها. ينمو التفكير التعسفي عندما لا نشكك فيه، لذا فإن تقييم الأدلة والنظر في البدائل أمر ضروري لإعادة صياغة المواقف وتبني منظور أكثر موضوعية، والتحرر من فخ الاعتماد الكلي على الأحكام التعسفية أو المتحيزة.

ربما تستطيع طرح بعض الأسئلة على نفسك:

  • "هل أنا متأكد تماماً من صحة هذا الاستنتاج؟ ما الدليل الذي يغيب عني؟"
  • "ما هي التفسيرات الأخرى الممكنة لهذا الموقف؟"
  • "لو كنت متفرجاً موضوعياً، هل كنت سأتوصل إلى استنتاج مختلف؟"
  • "ماذا كنتُ سأقول لصديق مقرب لو كان يفكر بهذه الدرجة من التعسف؟"

اقرأ أيضاً: 10 تشوهات معرفية تفاقم توترك: إليك خطوات التخلص منها!

3. اجمع بعض البيانات والأدلة

غالباً ما تفترض عقولنا أن استنتاجاتنا الأولية (التفكير التعسفي) صحيحة حتى عندما لا تكون كذلك، لذا قد يساعد اختبار هذه الافتراضات من خلال جمع أدلة ملموسة على التخلص من التفكير التعسفي. إليك كيفية جمع الأدلة:

  • ناقش المواقف: ابحث عن الحقائق التي تتعارض مع استنتاجاتك الأولى. على سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أن شخصاً ما يكرهك، راقب أفعاله بموضوعية وتحقق: هل ثمة علامات تشير إلى عكس ذلك؟
  • خاطر: اختبر توقعاتك. إذا كنت تعتقد أنك ستفشل في مهمة ما، فجربها على أي حال ولاحظ النتيجة. غالباً ما تكشف هذه التجارب أن مخاوفك كانت بلا أساس.
  • احصل على ملاحظات: اطلب آراء الآخرين لتتحقق من توافقها مع افتراضاتك. على سبيل المثال، إذا كنت تعتقد أن زملاءك يعتبرونك غير كفء، فطلب ملاحظات بناءة منهم يمكن أن يوضح لك الحقيقة.
  • تأمل في تجاربك السابقة: اكتب قائمة بالمرات التي اتضح فيها أن استنتاجاتك التعسفية غير صحيحة. يمكن أن يكون هذا بمثابة تذكير بأن استنتاجك الأولي ليس دقيقاً دائماً.

4. قارن بين الإيجابيات والسلبيات

قد يبدو التسرع في الاستنتاجات مُرضياً في لحظته، لكنه غالباً ما يضر أكثر مما ينفع. من خلال سرد مزايا تفكيرك التعسفي وعيوبه، يمكنك تقييم تأثيره واختيار نهج بنّاء بوعي، حيث يمكنك اتباع ما يلي:

  • فكّر فيما إذا كانت افتراضاتك مفيدة. على سبيل المثال، قد يبدو التفكير "يعتقد زملائي أنني غير كفء"، بمثابة آلية وقائية، لكن الانغماس فيه لن يؤدي إلا إلى إعاقة أدائك وثقتك بنفسك.
  • قيّم النتائج. ما هي العواقب المحتملة للتصرف بناءً على أفكارك التعسفية؟ قارنها بفوائد التوقف وإعادة التقييم.
  • تحوّل إلى التفكير العملي. بدلاً من التركيز على افتراضات غير مؤكدة ركّز على ما يمكنك التحكم به لتحسين الموقف.

المحتوى محمي