نتحدث في أيامنا هذه عن الحداد على فقدان أحد الأحباء كما لو كنا نتحدث عن حزننا لفقدان حقيبة يد، وهو أمر مخزٍ في ظل الهجمات المروعة التي تشهدها بعض مدن العالم. فهل يرجع ذلك إلى إساءة استخدام المصطلحات النفسية أم إلى القلق الذي نشعر به في مواجهة الموت؟
لقد أصبح من الضروري جداً فهم معنى مفهوم "الحداد" الذي غالباً ما يُساء استخدامه.
الاثنين 5 يناير/ كانون الثاني، وخلال محادثة صباحية عادية؛ تستمع كوثر شاردة الذهن إلى ليلى التي تخبرها عن عطلة نهاية الأسبوع. وفجأةً يتجهّم وجه كوثر عندما تبدأ ليلى بإخبارها عن سمكة ابنها الذهبية التي ماتت في الليلة الماضية، وحجم الألم الذي اعترى نفسه نتيجة لذلك. وتقول كوثر عما جرى آنذاك: "لقد قاطعتها على الفور قائلةً لها: "لا أعرف كيف يمكنكِ مساعدة ابنك في هذا الأمر، فأنا لا أعرف شيئاً عن الأسماك الذهبية!"، لقد انفجرتُ في وجهها قبل أن آخذ الوقت الكافي لأفهم ما تقوله حتى، وقلتُ لها: "لا يمكنكِ التحدث عن موت سمكة ذهبية كما لو كنتِ تتحدثين عن موت أحدهم!". وبدأتُ بإخبارها عن كل المآسي التي علمتُ بها والتي رافقت أحداثاً مثل تفجير محطة مترو سانت ميشيل في فرنسا وكارثة تحطم طائرة شرم الشيخ وأحداث 11 سبتمبر/ أيلول، واختتمتُ كلامي سائلةً إياها: "هل سيدخل ابنك في حالة حداد عندما يخسر في لعبة "الغيم بوي" أيضاً؟ كانت صديقتي ليلى مندهشةً من أسلوبي تماماً لكنني أدرت ظهري لها فقد كنت أغلي غضباً. وبينما كنت أفكر في المساء فهمتُ سبب غضبي، فقد عشتُ في طفولتي فجيعةً حقيقةً وليس موت سمكة ذهبية، ولم أحظَ بدعم أي أحد خلال ذلك".
الخميس 8 يناير/ كانون الثاني 2004 في البحر الأحمر قبالة شواطئ شرم الشيخ، بحار فرنسي يلقي إكليلاً من الزهور كتقليد لتكريم أولئك الذين فُقدوا في البحر، ثم يرمي الرجال والنساء الحاضرون زهوراً، أو شيئاً ما، أو أوراقاً كُتبت فيها كلمات لطيفة. يرى المراقبون أن هذه المراسم هي أولى إجراءات حالة الحداد التي يجب على عائلات الضحايا القيام بها.
الحداد تعبير شامل
رأينا حالتين تفصل بينهما أيام قليلة إحداهما كوميدية تماماً والأخرى تعبر عن مأساة حقيقة، ويُشار إلى كليهما بالكلمة ذاتها وهي "الحداد". لقد أصبح تعبير "الحداد" تعبيراً شاملاً ومنتشراً لدرجة أننا لم نعد نعرف ما الذي يستحق هذا الحداد: هل هو حداد على وفاة حيوان أليف، أم على ما نشاهده على شاشة التلفاز من سخافات، أم على الخيانة الزوجية؟ هل يمكن أن نسمع النساء غداً يتحدثن عن "حداد" على حقيبة يد مسروقة مثلاً؟ أو قد يصف شخص ما "حداده" على سيارته التي اختفت؟
يعبر الطبيب ومختص التحليل النفسي ورئيس جمعيتيّ علم النفس والحياة والموت ميشيل هانوس عن انزعاجه من ربط تعبير الحداد بإلغاء الموت الذي حصل. ويشير إلى أن ذلك يعبر دون وعي عن أحد شرور عصرنا وهو إنكار الموت وصعوبة تقبل النقص. كما أن ما يزيد الأمر تعقيداً هو النظر إلى حالة الحداد بحد ذاتها على أنها أمر تلقائي دون أن نعي أنه يجب علينا أن نعيش حدادنا هذا.
ويضيف: "إن مواقف المجتمع تجاه الموت هي مواقف معقدة ومتناقضة ومثيرة للدهشة. فعلى الرغم من أن هناك استبعاداً اجتماعياً للموت، حيث يسعى الإنسان دائماً إلى درئه، فإن الإنسان قد يعيد إحياء ذكراه أيضاً لمدة 10 سنوات. لقد مَثَّل ظهور مرض الإيدز من جهة وتطوير مرافق الرعاية التلطيفية من جهة أخرى علامةً فارقةً، فهما تياران متناقضان لكن لا يلغي أحدهما الآخر".
استعادة الحدث
ولولا عدم ملاءمة المقارنة لكاد المرء أن يجرؤ على اعتبار كارثة سقوط طائرة شرم الشيخ رمزاً لما تحدثنا عنه؛ 148 قتيلاً ولا جثث، إنها حالات موت غريبة. كما أن عبارة "اختفاء الضحايا" تفصح عن كل شيء ولا تعبر عن شيء في الوقت ذاته، ولا تتيح لأهالي الضحايا بدء عملية الحداد.
يحلل ميشيل هانوس هذه الحادثة كما فعل مع حادثة الهجوم على مركز التجارة العالمي ويقول: "في هذا النوع من الكوارث؛ يحتاج أهالي الضحايا إلى رؤية شيء ما حتى مع عدم وجود ما يمكنهم رؤيته، فإخبارهم أنه ليس هناك ما يمكنهم رؤيته لا يحسم المسألة بالنسبة إليهم. في حالة الاختفاء، وحتى لو كان لدينا كل الأسباب للاعتقاد بأن الضحايا قد اختفوا، فإننا نشعر أننا نجهل مصيرهم عندما لا نرى ما يدل على موتهم. لذلك يحاول أهالي الضحايا دائماً رؤية جثامينهم".
وهي وجهة نظر يتفق معها الطبيب والمعالج النفسي كريستوف فوريه؛ إذ يقول: "إحدى النقاط الأساسية بالنسبة لأهالي الضحايا هي استعادة ما حدث. فالذهاب إلى موقع الكارثة يعني تصوير الموت بصفته حالة عبثية وغير عادلة. لو لم يذهب هؤلاء الأشخاص إلى البحر الأحمر لكانوا تشبثوا لسنوات بأمل العثور على جثة في مكان ما؛ إذ لن يكون بمقدورهم اعتبار الشخص المختفي ميتاً. لذلك تُعتبر هذه المراسم السبيل لبدء الدخول في عملية معينة بالنسبة لأهالي الضحايا؛ حيث يكون بإمكان كل منهم أن يقول لنفسه: "يجب أن أتعلم كيفية العيش من دون هذا الشخص"، فهي عملية فكرية ثم عاطفية.
ويوضح كريستوف فوريه أنه غير منزعج من إساءة استخدام مفهوم "الحداد"؛ بل يعتبرها بدلاً عن ذلك علامةً على أن المجتمع يفتح أعينه و"يبدأ في إعادة اكتشاف ماهية الحداد وينتبه أكثر إلى هذه المرحلة من الحياة".
إضافةً إلى ذلك؛ يشير الحداد إلى التفاف الناس حول الأشخاص المفجوعين. كما عبر عن ذلك الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بطريقته الخاصة عندما قال: "أردت أن أخبركم جميعاً في هذه اللحظة المأساوية من تاريخ بلدنا؛ بأن جميع الفرنسيين يشاركونكم مشاعر الجزع ويقفون بجانبكم بكل تضامن وتعاطف".
الإجراءات القضائية وعملية الحداد
ترى مختصة علم النفس ورئيسة جمعية "علم النفس" ماري فريدريك باكيه أن الإجراءات القضائية تُعتبر حجر عثرة في عملية الحداد. وتعرب عن استيائها قائلةً: "اتخذت قضية تحطم الطائرة بسرعة مجرى الحديث عن مسؤولية الشركات مع عدم ذكر الضحايا بما فيه الكفاية".
إذاً ما دور الإجراءات القضائية كمرحلة في عملية الحداد؟ يقول ميشيل هانوس: "الغاية من العدالة هي إصلاح الضرر ومن الطبيعي أن يكون هنالك تعويض نتيجة الحادثة التي وقعت. لكن ذلك ليس جزءاً من عملية الحداد إلا لو كانت هذه العملية قابلةً للقياس مادياً، بينما هي تشير إلى حقيقة ما حصل والاعتراف الاجتماعي به".
هناك اتجاه واضح في محادثاتنا وصحفنا يشير إلى أن المحاكم هي آخر الأماكن التي يمكن أن يفكر فيها المرء ببدء عملية الحداد. وبالنسبة للعديد من القضاة فإن عملية الحداد لا تتعلق بتحقيق العدالة. دعونا نتذكر قضية ريتشارد دورن؛ هذا الرجل الذي ارتكب مجزرةً بتاريخ 26 مارس/ آذار 2002 في المجلس البلدي لنانتير قبل أن يلقي بنفسه من إحدى نوافذ مقر استجوابه. القاتل لم يعد موجوداً، أي ليس هنالك محاكمة. ومن ثم هل يمكن القول إنه لن يكون هنالك حداد؟ إنه اختزال مبالغ فيه نوعاً ما.
كان الاحتفال الرسمي الذي نُظم في ملعب نانتير؛ والذي قرأ خلاله الممثلون الرسائل التي بعث بها سكان المدينة إلى المسؤولين المنتخبين، ضرورياً.
تقول ماري فريديريك باكيه: "توفر المراسم الجماعية دليلاً للفرد على اعتراف المجتمع بمأساته. كما أنها توفر دليلاً على ذنب المجتمع المتمثل في تقصيره بحماية أفراده واعترافه بفقدان هؤلاء الأفراد. هذا هو الاعتراف الاجتماعي المهم، حتى مع مفارقة تردد الدولة في دعم الجمعيات التي تساعد الضحايا وأسرهم".
مراحل الحداد والتقبل البطيء
يوضح الطبيب والمعالج النفسي كريستوف فوريه أن عملية الحداد الواعية وغير الواعية تنطوي على 4 مراحل، وهي:
- مرحلة الصدمة والذهول والإنكار: تستمر هذه المرحلة من بضع ساعات إلى أسابيع قليلة.
- مرحلة البحث: ندرك خلالها ببطء أننا "نفقد" بالفعل من نحبه.
- مرحلة "التفكيك": وتستمر من 3 إلى 8 أشهر بعد الموت. وندرك خلالها ببطء أن الشخص الذي فقدناه لن يعود أبداً.
- مرحلة إعادة الهيكلة: بعد مرور سنتين أو سنتين ونصف على الفجيعة، فإننا نعيد تعريف علاقتنا مع الشخص الذي فقدناه ونتقبل غيابه.
غالباً ما يُطرح التساؤل في مرحلة الحداد عن مدى أهمية اللجوء إلى مختص في العلاج النفسي. يقول الطبيب النفسي: "الموت حدَثٌ طبيعي في الحياة؛ ولكن بالنسبة لبعض حالات الفجيعة المؤلمة (الانتحار، أو وفاة طفل صغير، وما إلى ذلك)، فإنه يمكن أن تكون مساعدة المعالج النفسي أو مجموعات الدعم مهمةً للغاية".
"بعد عام على اختفائه، كنت أقول لنفسي سيعود"
تلقت جوستين؛ وهي طبيبة نفسية شابة، مكالمةً هاتفية في سبتمبر/ أيلول 2002 أبلغتها باختفاء دان أحد أصدقائها المقربين في قرية في روسيا جرّاء حادثة انهيار جليدي بينما كان يصور فيلماً.
تقول جوستين: "صرختُ آنذاك ولم يكن بإمكاني تخيل أنه مات، وقلت لنفسي: "صديقي رائع؛ لقد كان قادراً بالتأكيد على الجري أسرع من الانهيار الجليدي".
وتتابع: "إن رد الفعل المتمثل بالغضب والصراع الداخلي والشعور بأننا على حق، أمور نهدف من خلالها إلى تنظيم فوضى أفكارنا".
التقينا مع الأصدقاء وعائلة دان وتحدثنا عن طفولته ونظرنا إلى صوره. لم تتحدث السلطات الفرنسية عن الحادث، كما التزمت الهيئات الاجتماعية الصمت أيضاً في ظل اضطراب أهالي المفقودين لبُعدهم عن مكان اختفائهم. بعد مرور عام على الكارثة؛ نظمت روسيا رحلةً لعائلات المفقودين وهي الرحلة التي كانت جوستين ستنضم إليها بكل تأكيد.
تقول جوستين: "كنت ما زلت أقول لنفسي: لقد اصطدم بحجر، وأصيب بفقدان الذاكرة، وهو الآن في قرية ما وسيستعيد ذاكرته. سيعود!".
عندما وصلنا إلى مكان الحادث عبّر الروس عن دعمهم ومواساتهم لأهالي الضحايا. تقول جوستين: "كنا راضين، وشربنا وأكلنا، ثم جاءت لحظة الوداع فكتبتُ له ملاحظةً على ورقة صينية صغيرة وأحرقتها. لقد كانت تلك هي كلمتي الأخيرة إلى دان، وطريقتي لأقول له: "سأتركك تذهب الآن، اسمح لي أن أتركك تذهب". لقد كان حفل وداع مليئاً بالعاطفة والعمق، وسمح لجوستين أن تبدأ المرحلة الثالثة من حدادها؛ وهي مرحلة تقبل رحيل دان ودمجه في حياتها حياً وميتاً.