لا مجال للشك في أن التحضُّر قد خلق بيئات جديدة تماماً ومتطوِّرة في جميع أنحاء العالم، مليئة بوسائل الراحة والترفيه في عدة مجالات. إلا أن ذلك التحضُّر تسبب في بعض العواقب السلبية أيضاً؛ من أهمها افتقار الناس للاتصال بالطبيعة والتفاعل مع الحيوانات؛ ما نشأ عنه تزايد في أعداد الإصابات برهاب الحيوانات، خصوصاً "رهاب العناكب والأفاعي".
في حين يحسِّن الارتباط بالطبيعة الصحة، ويعزز الحالة المزاجية، والشعور بالسعادة، ويقلل التوتر؛ إلا أن المجتمع الحديث قد أخلّ بذلك الأمر، كما تشير دراسة حديثة منشورة بدورية "الناس والطبيعة" في 23 فبراير/شباط 2022، أجراها باحثون من جامعات بيكس بالمجر، وشولالونغكورن بتايلاند، وبورتو بالبرتغال، وتشارلز بالتشيك.
درس الفريق البحثي خلال هذه الدراسة ما إذا كانت زيادة الارتباط بالطبيعة يمكن أن تساعد أيضاً على تقليل الإصابة برهاب العناكب (Arachnophobia) أو الأفاعي (Ophidiophobia)، أو حتى الوقاية منهما.
رهاب العناكب
يشير هذا النوع من الرهاب المُحدّد (Specific Phobia) إلى الخوف من العناكب واللافقاريات الأخرى مثل العقارب. في حين يمكن أن تؤدي رؤية عنكبوت إلى الخوف بالنسبة للمصابين بذلك الرهاب؛ إلا أنه في بعض الحالات يمكن أن تؤدي مجرد مشاهدة صورة عنكبوت أو التفكير به إلى الشعور بالخوف والذعر – وفقاً لدراسة ألمانية منشورة بمجلة التطور والسلوك البشري (Evolution and Human Behavior).
اقرأ أيضا:
رهاب الأفاعي
هذا النوع من الرهاب هو أحد أكثر أنواعه شيوعاً، وغالباً ما يحدث نتيجة تجارب شخصية. تشير إحدى النظريات إلى أن الخوف من الثعابين والحيوانات المماثلة قد ينشأ عن خوف متأصل من المرض والتلوث. كما أن هذه الحيوانات تميل إلى إثارة استجابة الاشمئزاز؛ وهو ما يفسر سبب انتشار رهاب الثعابين بشكل كبير مقارنةً بالخوف من الحيوانات الخطرة مثل الأسود أو الدببة.
أعباء صحية واقتصادية للرهاب
على الرغم من أن الخوف عموماً هو استجابة تكيفية للمواقف التي تُهدد الحياة؛ ما يعني أن دوره إيجابي في الحفاظ على سلامة الإنسان؛ فإن الخوف غير المنطقي أو المنظم -مثل الرهاب- قد يسبب ضيقاً كبيراً ويتداخل مع الحياة اليومية للفرد.
وقد يتجاور ذلك التأثير العواقب الصحية ليشمل أعباءً اقتصادية ضخمة؛ حيث قُدِّرَت التكلفة السنوية الإجمالية لاضطرابات القلق في الولايات المتحدة وحدها في التسعينيات من القرن الماضي بين 42 و47 مليار دولار؛ بحسب بحث منشور بدورية الطب النفسي الأميركية.
ومن المثير للاهتمام أن سياقات انتشار رهاب الحيوانات تمتد لأبعد من تلك النفسية والبيولوجية، لتشمل العوامل الاجتماعية؛ مثل الدخل والبلد. حيث أظهر مسح لـ 22 دولة أن متوسط انتشار فوبيا الحيوانات كان (3.4%) في البلدان ذات الدخل أقل من المتوسط مقارنةً بالأعلى من المتوسط (4.4%) والدول عالية الدخل (3.7%).
كما أبلغت النساء عن المعاناة من ذلك النوع من الرهاب بصورة متكررة أكثر من الرجال. في حين يأتي الخوف من الثعابين في المرتبة السادسة بين النساء، فإنه يحتل المرتبة 21 بين الرجال؛ وفقاً لدراسة من جامعة جامعة بوردو كالوميت الأميركية.
الارتباط بالطبيعة يخلق تجاربَ إيجابية
تُظهر نتائج الدراسة المذكورة؛ والتي بحثت في مدى تأثير الارتباط بالطبيعة على تقليل الخوف من الأفاعي والعناكب أو الوقاية منه، أنه كلما زاد شعور الناس بالارتباط بالطبيعة، قل خوفهم من الحيوانات؛ ما يعني أن وجود ارتباط بالطبيعة يمكن أن يؤدي دوراً حيوياً في تحديد ما إذا كان شخص ما يُمكن أن يُصاب برهاب الزواحف.
كذلك؛ وجد الباحثون أن الأشخاص الذين يقضون وقتاً أطول في الطبيعة يميلون إلى تذكُّر التجارب في البيئة الطبيعية على أنها تجارب إيجابية. علاوة على ذلك؛ يمكن أن يؤدي اختبارهم تجارب ممتعة في الطبيعة إلى زيادة الشعور بالمسؤولية البيئية.
تجارب الطفولة تتنبأ بالإصابة بالرهاب
تشير الدراسة أيضاً إلى أهمية تجارب الطفولة في التنبؤ بالإصابة بـ "رهاب العناكب والأفاعي". كما يُرجّح أن يبدأ ذلك الرهاب في مرحلة عمرية مبكّرة جداً - في عمر 5 أو 6 سنوات.
يوضح الباحثون أن التفاعلات مع الطبيعة تؤثر جيداً على الأفراد، وتخلق ردود أفعال إيجابية تجاهها كبالغين، خاصةً عندما يكون التفاعل نشطاً (زراعة الزهور) مقارنة بالسلبي (زيارة حديقة).
وعلى الرغم من أن أنواع ذلك الرهاب المُحَدَد غالباً ما تبدأ في مرحلة الطفولة؛ فإنها تصل لذروتها خلال منتصف العمر والشيخوخة. كما أنها تستمر لعدة سنوات أو حتى عقود في 10-30% من الحالات، وهي تتنبأ بقوة بظهور اضطرابات القلق والمزاج – وفقاً لمراجعة للدراسات حول الرهاب المُحَدّد أجراها باحثون من جامعة الاتحاد بالنمسا وكلية جونز هوبكنز بأميركا.
كما قد يؤدي الارتباط بالطبيعة دوراً حيوياً في الوقاية من الرهاب المُحدَّد؛ حيث أكدت المراجعة على أن الأفراد الذين نشؤوا في المناطق الريفية لديهم مستويات أعلى من الارتباط بالطبيعة؛ الأمر الذي ينتج عنه تحكُّم سلوكي ملحوظ تجاهها.
كيف يمكن خلق ارتباط بالطبيعة؟
على غرار اكتساب الخوف؛ يمكن تعلُّم المواقف الإيجابية تجاه الطبيعة من خلال التعرُّض المباشر والنمذجة والمعلومات غير المباشرة. فالتعرُّض البسيط والمتكرر للمواقف المحايدة يمنح الناس إحساساً بالسيطرة؛ وبالتالي يمنع المخاوف والرهاب من التطور، حتى بعد تجربة سيئة في المستقبل.
يمكن أيضاً أن يساعد الآباء أطفالهم الصغار في المناطق الحضرية على تطوير احترام للطبيعة من خلال التثقيف حول ما يأكلونه، ومشاهدة الأفلام الوثائقية عن الطبيعة، بالإضافة إلى زيارة الأماكن الريفية بشكل متكرر.
وأخيراً؛ ينبعي عدم ترك الآثار السلبية للتحضُّر والحياة الحديثة تلتهم ارتباطنا بالطبيعة الأم، لتزيد من الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والقلق؛ بل علينا العودة للاستمتاع بالطبيعة والحفاظ عليها.