يبحث جميعنا عن علاقات مريحة سلسة نشعر فيها بتقارب مع الطرف الآخر؛ علاقات نستثمر بها ونرى ثمار ذلك شاعرين بدعم مَن نحبهم وحاضرين لدعمهم في كل وقت.
لكن العلاقات لا تسير دائماً بهذا النمط، فهناك العديد من العوامل التي تؤثر إيجاباً أو سلباً في جودتها وقوتها ومدى استمرارها. ومن أهم هذه العوامل طبائع طرفيّ العلاقة التي يمكن أن تجعل منها نبتة تنمو وتزدهر بالتقارب، أو تذبل بالجفاء.
وفي حين يظهر بعض هذه الطبائع التي تؤثر سلباً في العلاقات كأمور يمكن معالجتها والتعامل معها، تظهر اضطرابات الشخصية كأنماط يصعب تغييرها؛ حيث تتشابك أسبابها ويمكن أن تستمر لوقت طويل ما دامت غير معالَجة، وأحد هذه الاضطرابات التي تؤثر كثيراً في جودة العلاقات هو اضطراب الشخصية الانعزالية.
مَن هو الشخص الانعزالي؟
يُعد اضطراب الشخصية الانعزالية أحد اضطرابات الشخصية المعروفة بانطوائها على أنماط ثابتة للسلوك، لا تتماشى مع الأعراف الثقافية التي تسبب معاناة للفرد أو مَن حوله.
على الرغم من رغبتهم في التعامل مع الآخرين؛ فإن الأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الانعزالية يتجنبون المواقف الاجتماعية بسبب الخوف من الرفض أو حكم الآخرين عليهم لمعاناتهم من شعور مزمن بعدم الملاءمة أو الكفاءة.
ولأن الخسارة والرفض مؤلمان للغاية لهؤلاء الأشخاص، فهم يفضلون الوحدة بدلاً من المخاطرة بمحاولة التواصل مع الآخرين.
ومثل اضطرابات الشخصية الأخرى؛ قد تظهر أعراض اضطراب الشخصية الانعزالية في مرحلة الطفولة لكن لا يتم تشخيصها عادة قبل سن 18 عاماً؛ حيث يجب أن يكون هناك دليل على أن أنماط السلوك هذه دائمة وغير مرنة ولا تتلاشى بسهولة مع مرور الوقت، وغالباً تبدأ في خلق شعور بعدم الراحة في مرحلة المراهقة أو بداية البلوغ.
ما الذي يسبب اضطراب الشخصية الانعزالية؟
ما يزال السبب الدقيق لاضطراب الشخصية الانعزالية غير معروف، ومع ذلك يُعتقد أن للعوامل الوراثية والبيئية والاجتماعية دوراً مهماً في تطور هذا الاضطراب.
كما تؤدي طريقة التربية دوراً أيضاً، فغالباً يُبلغ الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب عن التجارب السابقة لرفض الوالدين أو الأقران والتعرض للإساءة العاطفية أو النقد أو السخرية أو التعامل بجفاء من قبل الوالدين؛ ما يؤثر سلباً في تقدير الشخص لذاته وشعوره بالدونية.
ما أعراض اضطراب الشخصية الانعزالية؟
وفقاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)؛ تشمل العلامات الشائعة لاضطراب الشخصية الانعزالية ما يلي:
- الحساسية الشديدة تجاه النقد أو الرفض.
- قلة الأصدقاء المقربين -إن وجدوا- والتردد في الانخراط مع الآخرين ما لم يكونوا متأكدين من أنهم محبوبون بالنسبة إليهم.
- المعاناة من القلق الشديد والخوف في الأوساط الاجتماعية وفي العلاقات؛ ما يؤدي بهم إلى تجنب الأنشطة أو الوظائف التي تنطوي على التواصل مع الآخرين.
- الشعور بالخجل والارتباك في المواقف الاجتماعية بسبب الخوف من فعل شيء خاطئ أو إحراج الآخرين لهم.
- الميل للمبالغة في المشكلات والصعوبات المحتمَلة.
- عدم الرغبة في المخاطرة أو تجربة أشياء جديدة لأنها قد تكون محرجة.
- الشعور بعدم الكفاءة الاجتماعية أو الدونية أو عدم الجاذبية للآخرين.
- التحلي بضبط النفس المفرط، حتى في العلاقات المقربة.
كيف يختلف اضطراب الشخصية الانعزالية عن القلق الاجتماعي؟
في مقاله عن الفرق بين الشخصية الانعزالية والشخصية التي تعاني من قلق اجتماعي، يشير استشاري الصحة العقلية أنتوني سميث (Anthony Smith)، إلى اشتراكهما في بعض السمات كالخوف وتجنب المواقف الاجتماعية إلا أن لكل منهما جذوراً مختلفة.
حيث ينتج اضطراب القلق الاجتماعي من الخوف من قول شيء قد يؤدي إلى الإحراج أو فعله، بينما يكون اضطراب الشخصية الانعزالية مدفوعاً بدرجة أقل من قلق الأداء وأكثر من التقييم الذاتي السلبي مقارنة بالآخرين.
ويُعتبر تدني احترام الذات مكوناً أساسياً في اضطراب الشخصية الانعزالية، ومثلما لا يحب الأشخاص المصابون باضطرابات الشخصية الانعزالية أنفسهم، فإنهم يفترضون أن الآخرين سيرفضونهم أيضاً.
كيف يتم تشخيص اضطراب الشخصية الانعزالية؟
يستخدم المعالجون واختصاصيو الصحة النفسية أدوات مقابلة وتقييم مصممة خصيصاً لتقييم الحالة؛ حيث يقوم اختصاصي الصحة النفسية بتشخيص الحالة بناءً على المعايير المدرَجة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) مثل:
- تجنُّب الأنشطة التي تنطوي على الاتصال الاجتماعي.
- الانشغال بالتعرض للنقد أو الرفض.
- تقييم تاريخ عائلة المريض والتاريخ الطبي.
اقرأ أيضاً: احذر هذه الشخصيات في العلاقات طويلة الأمد!
كيف يؤثر اضطراب الشخصية الانعزالية في الزواج؟
يشير اختصاصي علم النفس السريري سيث مايرز (Seth Meyers) في مقاله، إلى كيفية تأثير اضطراب الشخصية الانعزالية في العلاقات الرومانسية بأن الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب غالباً يفضلون الاعتماد على أنفسهم وتجنُّب الاعتماد على أي شخص آخر، سواء كان صديقاً أو أحد أفراد العائلة أو شريكاً رومانسياً.
كما أنهم قد يعانون من عدم القدرة على تنظيم عواطفهم والتواصل الجيد في العلاقات، وقد يعزلون أنفسهم وبخاصة في أوقات التوتر؛ ما يجعل من الصعب الحفاظ على العلاقات الرومانسية.
لذلك يعاني شركاء الأفراد ذوي الشخصية الانعزالية كثيراً عند التواصل معهم، ويصعب عليهم فهمهم، ويشعرون بالارتباك والحيرة ولا يعرفون ما يجب عليه القيام به.
كما تزيد القيود الشديدة المفروضة على العلاقة الرومانسية من قبل الشريك ذي الشخصية الانعزالية من صعوبة الأمر. تتمثل هذه القيود في صعوبة التقارب العاطفي أو التواصل المنفتح والطلاقة في التعبير عن الأفكار والمشاعر الشخصية؛ ما يحرم الشريك من الشعور بجوهر العلاقات العاطفية - التقارب.
كذلك يعمل هؤلاء الأفراد بشكل مستقل قدر الإمكان في الحياة، ولا يسعون فقط إلى تجنب الاعتماد على الآخرين عاطفياً؛ بل لا يريدون من الطرف الآخر الاعتماد عليهم عاطفياً أيضاً.
يشرح الباحث في علاج الأزواج وعلم الأعصاب والبيولوجيا النفسية بجامعة كاليفورنيا، ستان تاتكين (Stan Tatkin) هذه الديناميكية بإيجاز في الاستعارة التالية: "أريدك في منزلي، فقط ليس في غرفتي؛ إلا إذا طلبت منك ذلك!" لاعتبار الشخص الانعزالي التقاربَ في العلاقات أمراً فوضوياً ومهدداً.
بالنظر إلى هذه التحديات الشاملة للعلاقة الرومانسية مع الشخصية الانعزالية، فإن الغالبية العظمى من الأفراد ستجد أن العلاقة مع مثل هذا الفرد محبِطة وغير مرضية.
ومع ذلك يمكن للبعض إقامة علاقات مع هذه الشخصيات؛ وهم الأفراد الذين لا يريدون أو يحتاجون إلى مستوى عالٍ من الألفة العاطفية والتقارب مع شركائهم. قد يكون هؤلاء الأفراد راضين عن العيش مع شخص ما دون الحاجة إلى مستوىً عالٍ من التواصل حول الأفكار والمشاعر.
ويضيف إن هناك سؤالاً، قد يبدو بسيطاً إلا أنه يوضح مدى الارتباط الذي تنشده من العلاقة مع الطرف الآخر؛ وبالتالي يسمح لك بمعرفة إذا كان يمكنك التعايش معه أو لا، وهو: "إلى أي مدىً أريد أن أشعر بالقرب من شريك رومانسي؟".
إذا كنت تريد شريكاً تشعر معه بالارتباط العاطفي فربما لا تكون الشخصية الانعزالية مناسبة لك؛ ولكن إذا كنت مستقلاً للغاية ولست بحاجة إلى الكثير من المشاركة العاطفية أو التواصل، وتميل إلى قبول ظروفك الحالية بطريقة مقنعة، فقد تتمكن من الحصول على علاقة مرضية أو شبه مرضية معه.
كيف يتم علاج اضطراب الشخصية الانعزالية؟
يُعد علاج اضطرابات الشخصية أمراً صعباً لأن الأشخاص الذين يعانون من هذه الاضطرابات لديهم أنماط عميقة الجذور في التفكير والسلوك موجودة منذ سنوات عديدة. ومع ذلك يمكن للأشخاص المصابين باضطراب الشخصية الانعزالية الاستجابة للعلاج لأن اضطرابهم يسبب لهم ضائقة كبيرة في حياتهم اليومية، ويرغب معظمهم في تطوير العلاقات.
يمثل العلاج النفسي العلاج الرئيسي لاضطراب الشخصية الانعزالية لمساعدة المريض في التغلب على مخاوفه، وتغيير عمليات التفكير والسلوكيات، ومساعدته على التعامل بشكل أفضل مع المواقف الاجتماعية.
كما يمكن استخدام الأدوية مثل مضادات الاكتئاب أو الأدوية المضادة للقلق، للمساعدة على إدارة القلق الذي يشعر به الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب. وللحصول على أفضل النتائج؛ يجب إجراء العلاج الدوائي جنباً إلى جنب مع العلاج النفسي.
وأخيراً؛ تجب الإشارة إلى دور المقربين في زيادة فعالية العلاج من خلال دعم المريض في أثناء هذه المرحلة، ومساعدته على تجاوز حالة الخوف الشديد من التعامل مع الآخرين والاندماج في الأوساط الاجتماعية وتعزيز ثقته بنفسه.