في الوقت الذي يمرّ فيه شخص من كل أربعةٍ بفترة حداد في فرنسا، لا يزال التطرق إلى هذا الموضوع يتمّ على استحياء في الأسر وبين الأصدقاء وعلى وسائل الإعلام. أما حين يتعلق الأمر بفقدان المرء لفلذة كبده، فالاختبار يكون عسيراً ولا ينفعُ معه أي إعدادٍ مسبق يقي من اجتيازه بلا ألم. يسلط فيلم وثائقي بعنوان "واخترتُ أن أعيش" (Et je choisis de vivre) الضوء برقّة على هذه التجربة الموجعة والعميقة إنسانياً في الوقت نفسه.
فقدت أموند طفلها غاسبر صبيحةَ عيد ميلادِه، وقد كانت تلك فجيعةً كبرى! فبعد مرور سنةٍ على هذه الخسارة ظلت الأمّ الجَريحة تشعر أنها لا تقوى بعدُ على استئناف حياتها رغم وجود غيلوم زوجها جانبها. ومن هنا جاء قرارها في الانطلاق في البحث عن أشخاص عايشوا التجربة نفسها واستطاعوا بعدها أن ينهضوا على أقدامهم ويخوضوا غمار الحياة من جديد. انطلقت مصحوبةً بصديقها المخرج نان ممتطيةً الحمار العنيد ماو، في رحلة دامت 12 يوماً في قلب مناظر منطقة دروم الساحرة على سفح جبل تروا بيك (Trois Becs).
صحيح أن دوافع رحلة أموند شخصية لكن الرسالة التي يوصلها هذا الفيلم كونية وتمسّ الجميع، وقد نجح الفريق الذي كوّنَته مع المخرجين وغيوم الذي يتابع المغامرة في عربة مقطورة، في أداء هذه الرسالة. "واخترتُ أن أعيش" فيلم يؤدي دور ساعي بريد ليوصل رسالة حُب من نوع آخر؛ إذ على ظهر هذه الرسالة كُتِب اسم مُرسل إليه واحد وبالخط العريض: الإنسان.
جميعهم مكلوم، جميعهم يتحاشى ذِكْر الأمر
تُقدر الإحصائيات أن حالة وفاة واحدة تحصل كل دقيقة في فرنسا، وأن شخصاً من أربعة يعيشون حالة حداد، وفي غضون خمس سنوات سيكون نصف هذا العدد لا يزال مكلوماً! أين تكمن أهمية هذا الموضوع؟ بينما تذرع أموند المسافات وتشارك لحظات ثمينة مع الأشخاص الذين يتقاطع طريقها معهم، تتفتح عينها على "جهلها العميق بكُنه موضوع الحداد" فتتصالح مع حياتها،
إلى درجة تستعيد معها قدرتها على الضحك، الصاخب أحياناً، وهي تتفاعل مع البهجة التي تبثها فيرونيك؛ المهرجة في المستشفى الجامعي بغرونوبل والتي تعمل مع جمعية "الشمس الحمراء، مهرجون في المستشفى" (Soleil Rouge, des clowns à l’hôpital). تختبر أموند رفقة غيوم سعادة فائقة تجعلهما يقضيان وقتاً ممتعاً ويرقصان طوال الليل؛ إذ بعد وفاة غاسبر لم يكونا فقط في حاجة إلى ترويض الوجع بل كذلك إلى فتح الباب للبهجة والسماح لها بالدخول. تُسرّ أموند في طريقها الجبلي: "كانت السعادة أحياناً تشقّ طريقها إليّ إلا أن الشعور بالذنب كان يعترضها، وهذا بالإضافة إلى نظرة التعاطف والشفقة التي يحيطنا بها الأقارب والتي لا نستطيع سوى التماهي معها وأن نكون حزانى لاستكمال الصورة التي وضعوها لنا".
الحديث عن الفقيد مرحلة مهمة من مراحل الحداد
حاورت أمود ضمن مَن حاورَت، الطبيب والمعالج النفسي المتخصص في المرافقة في الحداد والأيام الأخيرة في الحياة كريستوف فوريه (Christophe Fauré)، حيث يوجه حديثه إلى كل من يعيش خسارة شخصٍ عزيز عليه وهو يجيب عن أسئلة أموند قائلاً: "الحداد بلا أي معنىً؛ ذلك أنه يعني أن علينا أن نبدأ شيئاً ما وننهيه، فنفتح باباً ونغلقه ثم نعود إلى ما كُنا عليه، في حين ندرك عميقاً حين نفقد طفلاً إن حياتنا لن تعود إلى سابق عهدها وأن شيئاً ما داخلنا تغير للأبد وبلا رجعة". يتأسف الاختصاصي لعدم إحاطة المجتمع بمراحل الحداد بقوله: "كأن معاناة الفقد وحدها لا تكفي لتُضاف عليها معاناة تخبُّط الفرد وهو في قلب التجربة حين لا يملك الأدوات اللازمة التي تخول له مواجهة ما يمر به وفهمه".
تتلخص المرافقة النفسية للشخص المكلوم في الوجود بقربه في تلك الفترة لحثّه على التحدث عن الفقيد. طرح هذه الأسئلة: "مَن فقدت؟"، "ماذا حصل؟"، "ما شكل حياتك اليوم؟" وتكرار طرحها مرة تلو مرة، يساعد على التخفف شيئاً فشيئاً من الحمولة العاطفية الموجعة المرتبطة بتجربته، إلى أن يصير قادراً على الحديث عن الشخص الذي رحل طواعيةً ذلك أن أكثر ما يخشاه الشخص المكلوم أن ينقطع ذكر الشخص الذي رحل ويصير طيّ النسيان.
تفتح أموند طوال الفيلم الوثائقي قلبها على مصراعيه وتعرض على مرأىً من الجميع إخفاقاتها وضعفها وشكوكها ثم تتوالي اللقاءات، إذ يتشارك معها كلّ من ناديت غاليشيه وآرميل سيكس ولي كليرمون وأوندريه ريهل ومينّا غول ولورونس ديفور تجربتهم في هذا الصدد وما يعيشون وما يشعرون به. هذا الفيلم الوثائقي المهم، الذي يقطر صدقاً، يقدم نفسه كدرسٍ مذهل من دروس الحياة.