هل الإنسان خيّر أم شرير بالفطرة؟

5 دقائق
الخير الفطري

في زمن نشهد فيه المذابح والهجمات الإرهابية والحروب والكثير من الأحداث المأساوية الأخرى فقد بات من الصعب علينا تصديق أن الخير يغلب على الشر في الإنسان، وهي فرضية يدعمها مختص علم النفس جاك ليكومت (Jacques Lecomte)، ويحاول الرد من خلالها على مختص في التحليل النفسي واثنين من الفلاسفة.
لدى البشر القدرة على أن يكونوا أخياراً أو أشراراً على حد سواء فإلى جانب الميول العدوانية المحتمَلة (التي لا أسعى إلى إنكارها بأي حال من الأحوال) ثمة نزعات نحو التعاطف والإيثار والتعاون. وعلى الرغم من أن هذا الكلام قد يكون مستغرَباً في عصرنا هذا فإنه يمثل محور فرضية أستاذ علم النفس جاك ليكومت التي تناولها في كتابه "الخير البشري" (La Bonté Humaine).

من الصعب للوهلة الأولى التفكير بهذا الكلام دون أن تخطر في بالنا الهجمات الإرهابية وجرائم الإبادة الجماعية من كمبوديا إلى رواندا وكل المآسي الأخرى التي لحقت بالبشر والتي تفوق التصور. كيف يمكننا التحدث عن الخير الفطري لدى الإنسان في حين أن مجرد مراقبة ملاعب كرة القدم تكفي لنلاحظ أبشع صور الشر والإذلال التي يمارسها البشر تجاه بعضهم بعضاً؟

وكيف يمكننا تجاهل أبحاث تشارلز داروين حول بقاء الأنواع، أو أبحاث كونراد لورينز حول التاريخ الفطري للشر، أو نظريات سيغموند فرويد حول دوافع الموت والحياة، أوتحليلات الفيلسوفة حنّة آرنت في هذا الخصوص التي عنونتها بـ "تفاهة الشر" (Eichmann in Jerusalem)؟ إن الأمثلة على العنف الفطري لدى الإنسان والرغبة في إلحاق الأذى بالآخرين، تُعد فلا تحصى.

إحياء أفكار روسو حول فطرية الخير لدى الإنسان

ومع ذلك، فإن جاك ليكومت ليس الشخص الوحيد الذي طرح فكرة الخير الفطري لدى الإنسان متأثراً بفكر جان جاك روسو. وبناءً على دراسات نفسية وسلوكية، فقد سلّط عالم الأنثروبولوجيا دوغلاس فراي في عام 2005 الضوء على فكرة أن الإيثار والتعاطف هما من جوهر النفس البشرية وذلك ضمن كتابه "قدرة البشر على تحقيق السلام" (The Human Potential for Peace)، وهو الاتجاه الذي يتخذه مؤيدو تيار علم النفس الإيجابي مثل الطبيب والمعالج النفسي تييري جانسن. وعلى الرغم أنه من المطمْئِن تبني هذه النظرية لكن هل هي صحيحة؟

العنف استجابة مخالِفة لفطرة الإنسان

أستاذ علم النفس جاك ليكومت (Jacques Lecomte).

على الرغم من التناقض الكبير الذي تنطوي عليه ثنائية الخير والشر وإمكانية ممارسة البشر كل منهما فإن احتمال تحلي الإنسان بالطيبة والتعاطف يبقى أكبر بكثير. أظهرت الدراسات أن الأطفال في السنة الأولى من عمرهم الذين بدؤوا للتو في المشي يميلون بصورة عفوية إلى مساعدة البالغين الذين يواجهون صعوبة في تحريك قطعة أثاث مثلاً؛ كما يُظهر علم الأعصاب أن التعامل مع الآخرين بسخاء يحفز مناطق المكافأة والشعور بالرضا في أدمغتنا.

وعلى العكس من ذلك تتحفز مناطق الشعور بالنفور والاشمئزاز عندما نشهد الظلم، فالعصبونات المرآتية تجعلنا نشعر بآلام الآخرين وتعزز تربية الفرد وثقافته هذه الركيزة ومن ثم فإن العنف في العلاقات بين البشر يمثل سلوكاً مخالفاً لطبيعتهم.

عندما نلقي نظرة فاحصةً على الحروب سنعرف أن النظرية القائلة بأن الاقتتال بين البشر هو سلوك فطري غير صحيحة؛ إذ إن نفس الإنسان تمانع القتل بشدة، وعندما يُقدِم عليه فإن ذلك يؤدي عادةً إلى شعوره بالذنب، ولذلك فإن العنف بين البشر ينتج من عوامل محددة كخضوعهم لسلطات تجبرهم على ممارسته أو تدربهم عليه أو وقوعهم تحت تأثير الكحول والمخدرات، وغيرها.

تكمن خلف النزعة إلى العنف غالباً رغبة في تجربة الأفعال والأحاسيس المرتبطة به ويمكننا مثلاً ملاحظة أننا إذا قدمنا للصغار من مدمني ألعاب الفيديو لعبةً تحفز نشاطهم وأحاسيسهم بالكامل لكنها غير عنيفة فإنهم سيحصلون على القدر ذاته من الرضا الذي تمنحهم إياه الألعاب التي تنطوي على العنف، وربما أكثر.

وعلى الرغم أن الميل إلى العنف الخالص موجود، فإن هذا الميل ينحصر في 1 أو 2% من البشر وهم من المعتلّين اجتماعياً (المصابين باضطراب الشخصية المعادية للمجتمع)، وخلاصة القول هي أن "الإنسان ليس ذئباً لأخيه الإنسان".

فطرة الخير تظهر لدى الفرد إذا استوعبنا عواطفه في مرحلة الطفولة

مختص الطب والتحليل النفسي سيرج تيسيرون (Serge Tisseron).

ظلَّ السؤال عن مدى فطرية الخير لدى الإنسان يطارد الفلسفة والأدب منذ نشأتهما، لكنه طُرح بصورة مختلفة في السنوات الأخيرة. إن تأثير ثقافة الإنسان فيه لا يقل عن تأثير فطرته، وثمة تخصص جديد وهو علم التخلُّق يدرس مدى تأثير بيئة الفرد في تعزيز ظهور جيناته أو على العكس الحد من ذلك.

ترتبط قدرة الفرد على وضع نفسه مكان الآخر ومعاملته كأخ له في الإنسانية بجوهر قيم التعاطف والتعاون المتبادل التي تنشأ لديه من خلال عنصرين اثنين هما تنمية الإدراك العاطفي والمهارات المعرفية، واستيعاب والديه لعواطفه في مرحلة الطفولة.

وبهذه الطريقة يتمكن من إنشاء علاقات مبنية على التعاطف المتبادل مع الآخرين واستيعاب أنهم يتمتعون بأحاسيس مثله تماماً وأنهم ليسوا مجرد كائنات.

وللأسف فإن الفرد الذي لم يستوعب المحيطون به عواطفه في مرحلة الطفولة لن يتمكن من خلق قيم التعاطف هذه في داخله لأنه سيعاني صعوبات في فهم مشاعره ومشاعر الآخرين ومشاركتهم ما يجول في نفسه، وعندما يشعر أنه أسيء فهمه، سيظن أن لدى مُحاوره نوايا خبيثة تجاهه؛ ما سيحفز لديه سلوكيات عدائية وعنيفة، فيكشف عن أكبر قدر ممكن من قسوته. إذاً هل الإنسان خيّر بالفطرة؟

نعم، شريطة أن ينشأ في بيئة تراعي مخاوفه المشروعة وتأخذها بعين الاعتبار، وحتى لو لم يتحقق له ذلك فإنه يمكن أن يصبح خيِّراً إذا كان يتمتع بحس فكاهة قوي منذ ولادته.

لا يمكن للإنسان أن يكون خيّراً إلا بالعودة إلى جوهره الداخلي

الفيلسوف برتراند فيرجلي (Bertrand Vergely).

يوضح روسو أن الخير البشري موجود لأن البشر ليس لديهم رغبة فطرية في التعرض للمعاناة والتسبب بها، وإلا لكانت البشرية قد اختفت منذ فترة طويلة. يتسم البشر بالتعاطف فيما بينهم الذي يعرّفه ليفيناس (Levinas) بأنه: "طيبة الإنسان وقدرته على وضع نفسه مكان الآخر"، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه القدرة قد تلاشت فقد استبدل الإنسان رغبته في السلطة والثروة بهذه الطيبة.

لذا فإن المشكلة لا تكمن في عدم وجود الخير؛ بل بالأحرى في سبب غيابه. لقد أصبحت البيئة الاجتماعية مشبعةً بالعنف لدرجة أن تحديد الفرد لهويته أصبح قائماً على التنافس والتملك والعدوان، وهي مسألة تطرَّق إليها فلاسفة اليونان القدامى منذ زمن بعيد.

يثير روسو ورينيه جيرارد مسألة ظهور الحسد والعنف بمجرد أن يفقد البشر اتصالهم بجوهرهم الداخلي ويستعينون بمصادر خارجية لفهم ذواتهم من خلال مقارنة أنفسهم بالآخرين، لذلك تمثل عودة الإنسان إلى ذاته وإقباله على الخير حجر الأساس في رحلته نحو فهم جوهره ومن ثم إنقاذ البشرية.

كتب الفيلسوف ألكسندر جوليان هذه الجملة الرائعة: "مقارنة نفسي بالآخرين تجعل مني إنساناً ميتاً". إن إعادة الاتصال مع الذات تسمح للإنسان بعيش حياته الاجتماعية انطلاقاً من هذه القاعدة وتفسح المجال لحدسه ليوجهه وتجنبه الخضوع لما يخالف فطرته، فكما أن القسوة موجودة في هذا العالم، سنجد في كل مكان أمثلةً على الإخلاص والتعاطف والإيثار.

تسمح لنا رؤية روسو العميقة بصورة استثنائية بأن نحافظ على تفاؤلنا، فنحن جميعاً أخيار بالفطرة، وبهذه الرؤية سنتمكن من مواجهة سخرية القدر وخيبات الأمل.

الخير والشر ليسا فطريين، ويمكننا جميعاً أن نكون الأسوأ أو الأفضل

الفيلسوفة ميكيلا مارزانو (Michela Marzano).

أنا مقتنعة بأن الإنسان في جوهره ليس خيّراً ولا شريراً؛ إذ يتوقف تحديد ذلك على الزمن والظروف والبيئة الاجتماعية والاقتصادية فنحن جميعاً يمكن أن نكون الأسوأ أو الأفضل لأنه لا إنسان عصيّ على التغيير.

لفترة طويلة كان يُعتقد أن التعاطف فطري؛ لكن التحليل النفسي علّمنا أن الأمر ليس كذلك. فالثقافة مثلاً ليست حصناً كافياً ضد البربرية، وتُعد النازية خير مثال على ذلك؛ إذ إنها نشأت في واحدة من أكثر الثقافات رقياً، فالتعليم والثقافة ضروريان لكنهما ليسا كافيَين وهذا ما رمت إليه حنّة أرندت عندما تحدثت عما سمَّته "تفاهة الشر".

إن إدراك هذا الأمر هو الخطوة الأولى، فرفع وعي الشباب بهذه القضية ربما يجنبنا خوض الأسوأ مرة أخرى، ولأننا كائنات غريزية فإن العنف هو جزء لا يتجزأ منا، إنه جزء من الطبيعة البشرية لا يمكن القضاء عليه؛

بل ما يمكننا فعله هو التصالح معه وفهمه للحد منه بصرف النظر عن أسبابه إذ ثمة أسئلة كثيرة ما زلنا نجهل إجاباتها.

المحتوى محمي