إذا كان الشعور بالذنب يقف حاجزاً أمام رغباتنا فإن له دوراً إيجابياً في الوقت ذاته عندما يكون صحياً، فعدم الشعور بالذنب مطلقاً يعني التجرد من الضمير الأخلاقي، أما السماح له بالسيطرة علينا فيعني تحوّل حياتنا إلى معاناة حقيقية، فكيف نفرق بين الشعور الصحي بالذنب وذاك المدمر للنفس؟ نتعرف إلى ذلك من خلال السطور التالية.
في واحد من أفضل الرسوم الكاريكاتورية المنشورة على موقع "نيويوركر" (New Yorker) الذي كانت مجلة "بسيكولوجي" (Psychologies) قد نشرته بدورها، يقول نزيل في أحد السجون لآخر: "نعم أنت مذنب لكن هذا ليس سبباً لتشعر بالذنب". اتجهت الثقافة في العقود القليلة الماضية نحو تشجيع الناس على تحرير أنفسهم من الشعور المتعاظم بالذنب،
ذلك أن الاستسلام لهذا الشعور يعني أننا سنجد أنفسنا مذنبين بشأن كل صغيرة وكبيرة في حياتنا اليومية، ومن أمثلة ذلك: طفلك الذي يتكاسل في السرير صباحاً وينفجر باكياً بسبب عدم رغبته في الذهاب إلى المدرسة، أو ملابسكِ التي أصبحت أضيق قليلاً من ذي قبل بسبب اكتساب بعض الوزن، أو الملف الذي كان يجدر بك بدء العمل عليه منذ البارحة ولم تفعل، أو الصديق الذي يتصل بك متسائلاً عن سبب غيابك طوال الفترة الماضية.
فكم مرةً سيطر عليك الشعور بالذنب ومنعك من أن تقول لنفسك ببساطة: "لا ذنب لي في ذلك" أو "ليس الأمر بهذه الخطورة"، فهل يُعد هذا الإرهاق النفسي الناجم عن الشعور بالذنب "عقوبةً" عادلةً ننزلها بأنفسنا؟
كيف تخفف من الشعور بالذنب؟
يقف الشعور المستمر بالذنب عائقاً في وجه تحقيق الذات لذلك فإنه من الضروري أن نحد منه، ولما كان التخلص من هذا الشعور بالكامل غير ممكن فإنه يمكننا تعلّم كيفية التعايش مع ما يتبقى لدينا منه بطريقة أفضل.
في معظم الأحيان لا يتناسب الشعور بالذنب مع الخطأ المفترَض، ومثال ذلك الأبناء الذين يلومون أنفسهم على صراعات الوالدَين أو حتى انفصالهما، أو الآباء اللذين يلومون أنفسهم على الصعوبات التي يواجهها الأبناء في المدرسة. إن شعور الإنسان الكبير بالذنب يرتبط بوهم القدرة المطلقة الطفولية وفكرة أنه مركز العالم، لذا فإن التواضع هو أحد مفاتيح تخفيف هذا الشعور.
من جهة أخرى فإن تخفيف الشعور بالذنب يساعد الفرد على تذوق نكهة الحياة، فالتربية التي تلقيناها لم ترسخ فينا كيفية الاهتمام بالنفس بصورة صحيحة والاستفادة من ثمار هذا السلوك عوضاً عن تركيز الاهتمام على الآخرين طوال الوقت.
وعلى الرغم من أن الاهتمام بالآخرين أكثر من الذات هو نوع من التعاطف الذي يسرنا رؤيته ينتشر بين البشر؛ ولكن عندما يكون مصدره هو الشعور بالذنب فإن هذا السلوك الإيثاري يفقد معناه وهدفه، فبدلاً عن أن يمثل رغبةً عفويةً يصبح عبئاً ومصدر قلق لصاحبه.
ومن الضروري معرفة أن الشعور بالذنب لا يولّد مشاعر إيجابية، ففي معظم الأحيان يؤدي شعور الفرد المستمر بالذنب إلى اعتبار نفسه مسؤولاً عن كل ما يحدث حوله ومن ثم فإنه يحاول تخفيف هذا الحِمل الذي يثقل كاهله بإلقاء جزء منه على أحبائه، ولذلك فإن فهم الأسباب وراء عجزنا عن التخلص من الشعور بالذنب يسمح لنا بالتعايش معه بصورة أفضل.
إن عيوبنا التي لا تُحصى هي أحد أسباب الشعور بالذنب ومن ضمنها التخاذل أو الكسل الذي قد نشعر به في مواجهة مواقف معينة من الحياة اليومية، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه العيوب ليس ذاتيةً بالمطلق بل ترجع أيضاً إلى الأساليب التربوية المتوارَثة التي تتمحورحول السعي الدؤوب إلى النقاء والكمال وهي معايير غير واقعية ويصعب تحقيقها.
ترتكز ثقافة أي مجتمع على قواعد تفرض قيوداً محددة ويميل الإنسان بطبيعته إلى خرقها، وفي حين أن بعض الأشخاص قد يظنون أنهم تغلبوا على خوفهم من الصعود في وسائل النقل العام دون تسديد قيمة التذاكر مثلاً، فبمجرد أن تصلهم رسالة مسجلة يشعرون بتشنج في المعدة ويثار لديهم الخوف من رجل الشرطة مجدداً.
من الملاحَظ أن عتاة المجرمين في أغلب الأحيان هم أبعد ما يكون عن الشعور بالذنب فهل يمكننا أن نثق ثقةً تامة في شخص لا يُبدي أي علامات على الشعور بالذنب أو الندم؟
ولكن على الرغم من ذلك فإن الإنسان لا بد أن يشعر بالندم بصورة أو بأخرى، فالمجرم الذي يغتصب ويقتل دون أن يُظهر أي ندم على فعلته هذه قد يشعر بالندم في الوقت ذاته بسبب الألم الذي سببه لوالدته.
الشعور الصحي بالذنب
تختلف الطريقة التي نشعر بها بالذنب باختلاف سماتنا الشخصية، لذلك فإن النظر إلى الحياة بطريقة أكثر واقعية يتطلب من الإنسان إدراك ذاته ومسؤولياته ونقاط ضعفه وما هو مقبول بالنسبة إليه وما ليس كذلك.
ومن ثم سيتمكن من تخفيف شعوره بالذنب تجاه كل ما لا أهمية له، وسيتعلم التساهل مع نفسه، وهذه العملية ضرورية للحد من التوترات الدفينة في داخلنا التي يصعب علينا في كثير من الأحيان تحديد أصلها والتي تعود في الحقيقة إلى "الخطيئة الأصلية" (خطيئة آدم في جنّة عدَن).
تعلّم كيف تسامح نفسك
للمفارقة؛ يمكن أن يكون جَلد الذات مريحاً أكثر من مسامحتها لأن المعاناة تمنح الإنسان شعوراً بأنه يكفّر عن ذنبه لكن قد تكون لهذا السلوك المتصلب آثار ضارة، ذلك أن عدم مسامحة الفرد لنفسه يرسخ لديه فكرة أنه إنسان سيئ بالمطلق ما قد يمنعه من محاولة تعويض من تسبب له بالأذى فيلازمه الشعور بأنه مدين له إلى ما لا نهاية. وكما قال الفيلسوف فلاديمير يانكلفيتش في كتاب "الغفران" (Le Pardon): "الغفران يكسر قيود الندم لأنه في حد ذاته يحرر النفس"، فعندما نتخلص من ثقل أخطائنا سنسمح لأنفسنا بالعيش بحرية مجدداً.