إن أسهل حل لمواجهة وضع متأزّم يتمثل دائماً في إلصاق التهمة بالآخر أو لعب "دور الضحية"؛ لكن تحمل المسؤولية يُعَدّ الخطوة الأولى نحو إحداث فرق إيجابي. بضع حصص لمجموعة علاج نفسي، قدمت مثالاً على ذلك.
بغض النظر عن موقعنا في الأسرة أو مكانتنا في المجتمع، فإننا جميعاً نعتبر أنفسنا ضحية شخصٍ ما، قد يأخذ هذا الشخص شكل الأب الذي لا يفهمنا، أو زميلنا في العمل المستعد للدوس علينا في سبيل خطف الأنظار، أو الموظف الإداري المُتعنِّت. جميعنا متأهب للبحث عن مذنِب حين تظهر أزمة أو نتلقى اللوم، فحين يلقي أحد بالاتهام على شخص فيما الآخر ينكره، فإنهما بطبيعة الحال يحتدَّان ويتمسكّان بموقفهما.
يرتكز عمل المعالج النفسي والاختصاصي في حلّ الأوضاع المتأزّمة، شارل روجزمان على الأحياء المهمشة لإعادة إحياء التواصل الذي يعتقد البعض أنه انقطع بلا رجعة. لم تتغير أساليب "العلاج الاجتماعي" التي يُتّبع منذ ما يزيد عن 15 سنة؛ إذ يدعو كل الأطراف الموجودة لتبادل أطراف الحديث (حارس العمارة والشرطي و ربة البيت والتاجر وطالب الثانوية والمُدَرِّس...). عملية تمتد لأكثر من سنة، بمعدل يوم أو يومين كل شهر، وهو الوقت الذي يلزم للعبور من "وضع الضحية" إلى مُساءلة النفس. والوقت الذي يكفي أيضاً كي يتحرر كل طرف من رداء الضحية ويتجاوز المخاوف والأحكام المسبقة وتتغير نظرته إلى الآخر ونفسه.
البورتريهات الآتية تخص ثلاثة مشاركين ضمن مجموعة العلاج الاجتماعي بإحدى الضواحي الباريسية، متتبعة أثر تطور مهدي وسيلڤي وريتشارد (أسماء غير حقيقية) على مدار عشرات الحصص.
مهدي أو العنصرية
مهدي ميكانيكي يبلغ من العمر 31 عاماً، متزوج وأب لطفلين.
في بادئ الأمر، كان مهدي عدوانياً وحاد الطباع، يُلقي باللوم على كلّ السلطات الحكومية لـ "رميها" إياه وأشباهه إلى هذا الحي المهمش، والأهل الذين "لا يستطيعون الاعتناء بأطفالهم" وكذلك الشرطة التي "تسعى إلى المشاكلات". يعتبر مهدي نفسه ضحية العنصرية ولا يظن أن بوسع كلمته أن تكون مسموعة بأي شكل من الأشكال. "بسبب أصولي العربية، أنا مُخطئ إلى أن يثبت العكس. عليّ أن أترك هذا المكان". في أثناء العلاج، تعلم مهدي أن يقدر مهنة ريتشارد التي كان يبغضها في البداية.
ورغم تحمُّله مسؤولياته، ظل يشير إلى العنصرية التي مورست عليه إلا أنه لم يعد يفكر في الهرب. "الواقع ليس بتلك السوداوية" ثمة بنايات جميلة وضمان اجتماعي ونظام تدفئة. المشكلة؛ كلّ المشكلة تكمن في تدهور الأوضاع". ويضيف قائلاً: "يمكن أن نحظى بعيشة جيدة هنا، فقط ثمة جهود ينبغي أن تُبذَل من الطرفين".
سيلڤي أو الدعوة للسلام
سيلڤي مُدرِّسة تبلغ من العمر 42 عاماً، وأمّ لطفل واحد.
أعربت سيلڤي منذ البداية أنها تجد متعة في العمل بقلب الحي السكني: "أحب تلاقح الثقافات". يظهر عليها الانفتاح والإصغاء والاستعداد لمساءلة نفسها؛ إلا أنها تعيش كمُضحيّةٍ بالوكالة، وذلك من خلال تطرقها لمعاناة الأسر المهاجرة. خطابها السلاميّ يرى العالم بمنظار الخير والشر؛ حيث أصحاب السلطة (الدولة والشرطة والمسؤولون المنتخبون) هم بلا أي نقاش تجسيد للشر. مع الوقت صارت تتحلى بدقّة أكثر وتضع يدها على مكمن الخلل عندها: "ربما لست متطلبة بما يكفي الكثير من التلاميذ، وأمرر إليهم أشياء كثيرة".
بدأت تدرك تداعيات دورها الخاص بقولها: "ليس لأن الإمكانيات المتوفرة لدينا شحيحة، ينبغي علينا الاستسلام".
ريتشارد أو عدم كفاءة الآخرين
ريتشارد شرطي يبلغ من العمر 39 عاماً، مُطلق.
اختير ريتشارد للمشاركة في مشروع العلاج من طرف رؤسائه في العمل. ومع حذَرِه يقول ثائراً: "لم آت إلى هنا لأُسْمِعكم الأكاذيب التي تنتظرونها مني أو أتملّق أحداً". لا يؤمن بالوقاية من العنف، يُفصح عن عنصريته دون لف أو دوران وينادي باتخاذ الإجراءات المباشرة: "قل ما تفكر فيه، وقُم بما ينبغي عليك القيام به". يعتبر نفسه ضحية عدم كفاءة الآخرين؛ أولئك "الذين يستفيدون مادياً من الوضع" أو "يستغلون المنظومة".
خلال الحصة، ظل ينصت بتأثر لما تعرّض له مهدي من إهانات، والبؤس الاجتماعي الذي نقَلَتْهُ سيلڤي. لم يتفطن بعدُ إلى رهاب الأجانب الذي يعاني منه؛ لكنه بدأ يدرك عيوبه: "أنا عنيد بعض الشيء، الأمور بالنسبة إليّ إما بيضاء أو سوداء". أسَرَّ فيما بعد أنه من القلائل في عمله الذين لم يتقدموا بطلب لنقلهم: "أريد أن أشهد تغييراً يحصل".
وجهة نظر شارل روجزمان
مساءلة النفس تعني مواجهة الأزمة
"وضعية الضحية هي طريق مسدود، فالإشارة إلى المذنب توهم بالوصول إلى منبع المشكلة. في الحقيقة؛ هي طريق محكومة بالفشل ذلك أننا لا نستطيع تغيير الآخر وبالتالي يصير العنف طريقة التعامل التي تحتاج كبش فداء. وفي المحصلة تكون النتيجة دائرة مفرغة من الأحقاد والأعمال الانتقامية. فتح الحوار إذاً ليس كافياً للبدء بمساءلة النفس؛ تنبغي أيضاً مواجهة الأزمة ومحاولة الحديث، حتى وإن كان ما سنقول لن يُقابَل بالموافقة. ذلك أن ما يغذي العنف هو ما يمر في صمت؛ أي تصورنا عن الآخر وما نتصور أنه يدور في رأس الآخر.
وعليه فإن تحمل المرء لمسؤولياته لا يتجسد فقط في معرفته لأخطائه؛ بل أيضاً جرأته في التعبير عما يخالجه والقدرة على قبول كلام الآخر، مهما كان مفاجئاً ومخيباً للآمال. وكذا اكتشاف قدرتنا الخاصة على أخذ ردة فعل، والتيقن بأن مجرد وجودنا شركاء في منظومة ما (الحي السكني أو الزواج أو الشركة مثلاً) يجعل منا جميعاً؛ ضحايا أعطابها والمتسبيين فيها في الوقت نفسه".