الصمت حكمة ومهارة، اعرف كيف تطورها؟

4 دقائق
التزام الصمت

يتسم بعض الأشخاص بأنهم كثيرو الكلام إلى درجة عدم قدرتهم على التزام الصمت حتى عندما يتطلب الموقف ذلك. وليس من المفاجئ أن هذا السلوك يضع صاحبه في حالة من العزلة ويبعده عمن حوله؛ إذ إن الثرثرة تصيب الناس بالضجر، فما الذي قد يجعل المرء كثير الكلام؟ وكيف يمكنك تعلُّم التزام الصمت دون الشعور بالضيق؟

ما سبب كثرة الكلام؟

تقول سوزانذات الـ 35 عاماً: "في اليوم الذي ولدت فيه طفلتي، سألتني الممرضة: "هل يجب أن أضع شريطاً لاصقاً على فمكِ لكي تصمتي؟". وتتابع سوزان: "لقد كانت محقة فحتى عندما كنت مستلقية على سرير المستشفى لم أستطع التوقف عن الكلام". على الرغم من أن حكاية سوزان تبدو مضحكة إلى حد ما، فإن مختص الطب والتحليل النفسي بيير ليفي سوسان يوضح أن هذا السلوك الطريف يمكن أن يكون دلالة على معاناة نفسية حقيقية، ويقول: "يعجز الشخص الثرثار عن التحكم في كلامه أو التزام الصمت عندما يتطلب الموقف ذلك، وتصبح كثرة الكلام هي طريقته الوحيدة للتواصل مع العالم من حوله". وتؤكد سوزان كلام المختص، فتقول: "أنا أعجز عن التزام الصمت عندما يكون ذلك ضرورياً، فالكلام يساعدني على تهدئة نفسي". لكن تهدئة النفس من ماذا؟ يوضح المختص أن الإجابة تختلف باختلاف الظروف الشخصية لكل فرد، ومع ذلك فإن القاسم المشترك بين جميع الأشخاص الذين يثرثرون هو عجزهم عن التزام الصمت، ويرجع ذلك إلى أن الشعور بالفراغ يثير هلعهم فيحاولون ملئه بكثرة الكلام.

الحاجة إلى التقدير

يوضح المعالج النفسي ومدرب التواصل اللاعنفي، توماس دانسيمبورغ أن الفرد الذي يزعجنا بكثرة كلامه يعبر في الحقيقة عن حاجته إلى التقدير واستماع الآخرين إليه، وافتقاره إلى تأكيد ذاته. وترجع جذور هذه المشكلة غالباً إلى شعوره بنقص الحب والتقدير في مرحلة مبكرة من طفولته، وقد يظهر لديه شعور النقص هذا بصورة أوضح في سن الرشد من خلال علاقاته العاطفية والاجتماعية. وتخبرنا لمى ذات الـ 37 عاماً عن إحدى صديقاتها المقربات فتقول: "إنها تتحدث طوال الوقت دون أن تعطي أي شخص الفرصة ليتكلم؛ وكأنها تخشى أن ينصرف انتباه الآخرين عنها إذا توقفت عن الكلام. لقد تفهمت سلوكها هذا عندما علمت أن زوجها السابق كان يقلل من قيمتها باستمرار على مدار خمسة عشر عاماً".

الخوف من الآخر

ووفقاً لبيير ليفي سوسان، فإن الفرد كثير الكلام ينظر إلى محاوره كمصدر تهديد ويحاول السيطرة عليه عبر الاستئثار بالحديث، فيفرض عليه بذلك الاستماع إليه، ويمكن ملاحظة هذا السلوك بصورة خاصة لدى الأشخاص المعرضين للإصابة باضطراب الشخصية الهستيرية. من جهة أخرى يميل هؤلاء الأشخاص إلى تضخيم كل ما يتحدثون عنه ولذلك فإن الكلمات هي أهم أدواتهم في شد انتباه الآخرين وتقوية علاقتهم بهم؛ إذ يستخدمون في كلامهم صيغاً جذابةً تسحر المستمع وتأسره في البداية ثم سرعان ما يشعر بالملل والضجر.

الهشاشة النفسية

على الرغم من أن كثرة الكلام هي بمثابة "درع" يحتمي به المرء من الآخرين والعالم من حوله، فإنه يحميه من أفكاره في الوقت ذاته. ويقول بيير ليفي سوسان: "يُكثر بعض الأشخاص من الكلام هرباً من التفكير وخوفاً من الاستماع إلى ما يدور في أعماق أنفسهم؛ بما في ذلك مخاوفهم وتخيلاتهم وأحلامهم ودوافعهم التي لا يستطيعون مواجهتها لأنهم لم يتعلموا ذلك في الصغر. يتمكن الطفل من إدراك العالم الخارجي وتفسير ما يحدث فيه ومن ثم فهمه بمساعدة والديه، وعندما لا يتمكن من ذلك لأسباب عديدة كغياب الوالدين أو نقص الاهتمام، فإنه يجد نفسه عاجزاً عن مواجهة هذا العالم. ويوضح بيير ليفي سوسان أن هؤلاء الأطفال يواجهون صعوبة في اللعب وإطلاق العنان لخيالهم بسبب عدم قدرتهم على التفكير بطريقة رمزية وارتباطهم بالواقع بصورة كبيرة، ومن ثم فهم يحافظون على هذا الارتباط في سن الرشد هرباً من المخاوف التي حملوها معهم منذ الطفولة، وبينما تتجلى هذه الحالة لدى بعض الأشخاص بسلوك الانفعال المفرط، فإنها تظهر لدى آخرين من خلال الرغبة المستمرة في الثرثرة.

كيف يمكنك التعامل مع هذا السلوك؟

نصيحة الطبيب ومختص التحليل النفسي بيير ليفي سوسان:

"اسأل نفسك الأسئلة التالية: ما الظروف أو المواقف التي تدفعك إلى الكلام دون توقف؟ وهل تكثر الكلام عندما يكون الصمت واجباً؟ إن توجيه هذه الأسئلة لنفسك وأحبائك هو الخطوة الأولى نحو التفكير والتكلم بطريقة صحيحة، فعندما تدرك ما تشعر به لن تعود بحاجة إلى "إخفاء" مشاعرك وراء كثرة الكلام. وإذا لم يفِ ذلك بالغرض، فمن المفيد أن تستشير معالجاً نفسياً".

نصيحة المعالج النفسي ومدرب التواصل اللاعنفي توماس دانسيمبورغ:

"عندما تتحاور مع شخص كثير الكلام حاول أن تتعاطف معه وتفهم المشاعر التي يحاول التعبير عنها، هل هو قلق أم حزين؟ اسأله وساعده على التفكير بمشاعره وفهمها. من جهة أخرى من الضروري أن تضع حدوداً واضحةً، فيمكنك أن تخبره بلطف أنك ستمنحه وقتاً محدداً للاستماع إليه ولا يمكنك تجاوزه، وبذلك ستتجنب الشعور بالضيق والانزعاج من حديثه؛ الأمر الذي قد تكون له نتائج عكسية".

ابتعد الناس عني بسبب كثرة كلامي

تقول منى ذات الـ 42 عاماً وهي مصورة فوتوغرافية: "ابتعدت صديقاتي عني الواحدة تلو الأخرى دون أن أفهم السبب، وعندما شكوت الأمر إلى إحدى قريباتي أجابتني بكل صراحة أن الناس يبتعدون عني لأنني أصبحت لا أطاق، لقد كنت كثيرة الكلام إلى درجة أنني لم أعر انتباهاً للآخرين. وعلى الرغم من أن الأمر آلمني، فقد أدركت أن لديّ مشكلة حقيقية ولذلك فقد لجأت إلى معالج نفسي".

أثرثر عندما أشعر بالقلق

يقول ماجد ذو الـ 36 عاماً وهو مختص في علوم الحاسوب: "لطالما أثرت انزعاج أساتذتي في المدرسة بسبب كثرة كلامي، على الرغم من أن ذلك كان يضحك زملائي في الفصل. وفي سن الرشد ساءت الأمور جداً فقد أصبحتُ أتكلم دون توقف، حتى أن رئيسي في العمل قد هدد بطردي في إحدى المرات إذا فتحت فمي مرة أخرى. ولذلك فقد ابتكرت لعبةً ألعبها مع زميلتي في العمل وهي أن أرسم لها شيئاً ما في كل مرة أشعر فيها بالرغبة في الكلام، وأدركت بهذه الطريقة أنني أثرثر فقط عندما أشعر بالقلق ومنذ ذلك الحين تمكنت من السيطرة على نفسي بصورة أفضل".

المحتوى محمي