قد يكون حسن الاستماع أعظم هدية يمكن أن تقدمها لأحد ما، لأنه يعني إتاحة الوقت للآخر وتوجيه رسالة له مفادها أنه محط اهتمامك وتقديرك، وأن وجوده معك يسعدك، وكلامه يلامس قلبك.
يبدأ حسن الاستماع إلى الآخر بالتزام الصمت والابتعاد عن الحوارات الزائفة المليئة بعبارات من قبيل: "نعم وكأنك تتحدث عني" أو "لقد مررت بموقف مماثل". إن تظاهرنا بفهم الآخر واستخدام كلماته ذاتها "لإسكاته"، ليس سوى وسيلة نحاول من خلالها التكلم عن أنفسنا بدلاً عن الاستماع إليه.
يتطلب منك حسن الاستماع أن تتخلى عن الخيالات التي تدور في ذهنك، وتنسى حوارك الداخلي، وأن تندمج في كلام محدثك، ربما إلى الدرجة التي تسمح لهذا الكلام بتغيير ما في نفسك. يعني حسن الاستماع أن تسمح للآخر بالتغلغل في أعماق نفسك، وأن تضع أفكارك ومشاعرك جانباً، كما لوكان محدثك ضيفاً تستقبله في منزلك وتحسن ضيافته، فتسمح له بالجلوس بأريحية تامة وتوليه كامل اهتمامك.
حسن الاستماع هو أن تتخلى عما يشغلك لتمنح الوقت لمحدثك، ويمكن تشبيه الأمر بالخروج في نزهة على الأقدام مع صديق ما، فنسير على خطاه دون أن نعيق طريقه، ونسمح له بأن يقودنا ونتوقف حسب تقديره ونتابع سيرنا عندما يرغب في المتابعة، فنحن حاضرون من أجله، لنمشي معه.
لا يتمحور حسن الاستماع حول تقديم إجابات للشخص الذي يشعر أنه تائه أو يحاول التعبير عن نفسه أو يفكر بصوت عالٍ؛ بل حول إتاحة الفرصة له ليدرك هذه الأفكار ويجول في تساؤلاته ويعثر على إجاباتها بنفسه، فهو لا يريدك أن تفكر نيابةً عنه أو تقدم له نصيحةً أو حتى أن تفهم ما يقوله؛ إنه يريدك أن تستمع إليه فقط.
إن حسن الاستماع هو الترحيب بالآخر والنظر إليه كما يرى نفسه دون افتراض ما يجب أن يكون عليه. هنالك عدة مستويات للاستماع:
1. الاستماع الفعال: وهو يتيح للمتحدث سماع ما يقوله.
2. الاستماع الانعكاسي: يمارس هذا النوع من الاستماع قلة من الناس، وهو يعني الاستماع إلى الآخر استماعاً غير مشروط وإتاحة الفرصة له للتعبير عن مشاعر الندم والمرارة في داخله.
3. الاستماع التفاعلي: يتضمن هذا المستوى فهم كلام الآخر مع الانفتاح على جميع الأفكار والموضوعات والتجارب والحلول دون محاولة تقديم تفسيرات أو إصدار أحكام على المتكلم؛ أي إتاحة المجال والوقت الكافي له ليجد الطريق المناسب بنفسه.
إن الاستماع إلى الآخر لا يعني الرغبة في توجهيه نحو هذا الطريق أو ذاك؛ بل محاولة سد هذه الفجوة الصغيرة بين ما قيل وبين ما سمعناه. ولا يعني تركيز انتباهك على كلام الشخص الذي يعاني أن تحاول إيجاد حلول لمعاناته أو تفسيرها؛ بل السماح له بالتعبير عنها وإيجاد طريقته الخاصة لتحرير نفسه منها أو الاستمرار في تحملها. إن تعلم حسن الاستماع إلى الآخرين وإعطائهم الحرية في الكلام بهذه الطريقة هو أفضل ما يمكننا فعله لنحرر أنفسنا من من شعور الكدر من خلال اكتشاف ما يجمع بيننا جميعاً كبشر رغم تفرد كل منا.
الاستماع إلى الآخرين يعني أن تمنحهم ما قد تكون حُرمت منه، وهو الاهتمام والوقت والحضور الصادق، وعندما يتعلم المرء كيفية الاستماع إلى الآخرين سيتمكن من الاستماع إلى نفسه وجسده وعواطفه. وبالطريقة ذاتها سيتمكن من تعلم الاستماع إلى الأرض وجوفها، ويصبح شاعراً للإنسانية يشعر بقلوب من حوله ويرى أرواحهم. إن الذين يعرفون كيف يستمعون، يتمكنون من التواصل مع جوهر الحياة وليس ظاهرها فقط.