يزعزع الانتقال إلى مكان جديد الحالة النفسية للمرء بشكل أو بآخر سواء كانت هذه الخطوة مرغوباً فيها أو لا، فترك مساحة منزلنا المعهودة والوجوه المألوفة والتخلي عن أشياء تشهد على تاريخنا والاستقرار بمكان مجهول؛ تجارب تجعلنا نتأرجح بين الاكتئاب والإثارة. فيما يلي نستعرض آثار الانتقال إلى مكان جديد في النفس.
تقول باسمة المحاسبة القانونية في الخمسينيات من عمرها: "خرجت من مكتب كاتب العدل وقد أتممت عقد بيع شقتي. في ذلك الوقت شعرت بالاختناق وسألت نفسي: "ماذا فعلت؟". أردت أن أصرخ: "أعيدوا لي شقتي!". ومع ذلك تركتها بحثاً عن شقة أحلامي؛ مساحة أكبر وهدوء وسكينة وشرفة جميلة".
يعد الانتقال إلى مكان جديد بالنسبة لـ 76% منا عامل ضغط كبيراً خاصة بالنسبة للنساء؛ حيث قالت 82% منهن إنهن يشعرن بوقت سيئ في أثناء الانتقال من مكان إلى آخر.
يشرح الطبيب والمحلل النفسي ألبرتو إيغير في كتابه "اللاوعي في المنزل" (L’Inconscient de la maison): "إن التغيير بالنسبة إلى الأشخاص يكون دائماً اختباراً للتخلي عن الأشياء والجدران والحي. وهذا هو السبب في أننا ننتقل من موطن إقامتنا متعبين ومرهقين للغاية بشكل يفوق عواقب الجهود المبذولة للانتقال بكثير".
في ذات السياق تقول المحللة النفسية فيرجيني ميغلي التي غيرت مقر عيادتها: "على الرغم من ذلك الشعور هناك احتمال قوي للعيش بسعادة عند اتخاذ قرار الانتقال. إنه مظهر من مظاهر الرغبة في العيش والذهاب إلى مكان آخر".
مراحل الحياة
وفقاً لألبرتو إيغير: "الطبيعة تجبر الحيوانات على الانسلاخ والبشر على التنقل". مكان حياتنا عبارة عن غلاف يحمينا ويعكس ذواتنا ولحظات وجودنا المختلفة. في الواقع يترك الشباب سقف بيت العائلة ليعيشوا بمفردهم ويكبروا ليستقروا مع زوجاتهم ثم يصبحوا آباء، ولأنهم يتقدمون على المستوى المهني أيضاً.
تؤكد أميرة المعلمة ذات الـ 27 عاماً: "هذه الخطوة هي نهاية فترة من الحياة وبداية لوجود جديد. هذه فرصة لإعادة تعريف نفسك وتجديدها. بهذه الطريقة أستطيع التخلص من الملابس التي لم أعد أرتديها والهدايا التي تلقيتها من أحبائي".
كما تلاحظ جينيفيف ديمانج مدربة التنمية البشرية: "بعد الخمسينيات غالباً ما يكون الانتقال اختياراً قسرياً نتيجة الطلاق أو البطالة لفترة طويلة". عادةً ما يغادر الأطفال المنزل في مرحلة عمرية معينة ثم ينتقل الوالدان إلى شقة أصغر. بيد أنه من الواضح أن الانزعاج الذي يصاحب هذا التغيير في المكان ناتج عن هجوم على الصورة الذاتية؛ حيث يسأل المرء نفسه لماذا يعيش في مكان ضيق وأقل قيمة، وهكذا يشعر بالضعف. أخيراً؛ يدفعنا كل موطن جديد للتشكيك في هويتنا: "من أنا؟ أين أنا؟ هل نجحت؟ هل أنا راضٍ؟".
وتقول فيرجيني ميغلي: "إن الانتقال إلى مكان آخر دائماً ما يذكرنا باليوم الذي غادرنا فيه منزل الوالدين، فتغيير مكان عيادتي أعاد مرضاي إلى مرحلة طفولتهم".
في الحقيقة إن التخلّي عن مساحتنا المألوفة هو بمثابة صدمة بالنسبة لنا. ويبدو أنه من الضروري القيام بذلك للشعور بالارتياح قدر الإمكان على المستوى النفسي. نتوجه كمُستأجرين إلى منزلنا الجديد بمجرد الانتهاء من إعداده، أما أصحاب العقار يشعرون بالأسى أكثر. فهل نعتمد على وكالة بيع للعقارات أم لا؟
تضيف جينيفيف ديمانج: "الحل الأول أفضل حيث يجنبنا المتاعب التقنية والجروح النرجسية على غرار الزوار الذين يشتكون من أن المطبخ ليس في مكانه وينتقدون الديكور الخاص بك وذوقك السيئ؛ لكن عليك أن تقابل وكيل عقارات قادراً على فهم الاضطرابات التي يعيشها المالك عند بيع منزله".
احتفظتُ بتذكرة حفلة قديمة
تشرح فيرجيني ميغلي: "الفترة الفاصلة التي ستغادر فيها الشقة قريباً -دون أن تكون قادراً على تصور مكان الإقامة الجديد- تساهم بشكل كبير في التوتر. المكان الذي نعيش فيه ينتمي إلى الماضي ولن نكون قادرين على الاستثمار في المكان الجديد. إنه أمر مثير ولكنه محبط للغاية أيضاً".
وبالإضافة إلى ذلك، نضطر قبل الانتقال إلى منزلنا المستقبلي إلى حزم أمتعتنا وتحرير أنفسنا والتخلص من الأشياء الثانوية. ومع ذلك يمكن أن تثبت هذه الأغراض أنها ثمينة على المستوى العاطفي؛ تذكرة الحفلة الموسيقية القديمة التي تذكرنا بالأحبّاء مثلاً.
التخلص من هذه الأغرَاض يعني التخلي عن جزء من تاريخنا. إن إلقاء هذه البطاقات البريدية القديمة التي تعبر عن طفولتنا يفيد الابتعاد عن الكائنات التي ارتبطنا بها.
هناك الكثير من "الأغراض المحببة" إلينا التي تُطمئننا بشأن استمرارية وجودنا. وفي هذا الشأن نقول جولييت؛ عالمة الكمبيوتر البالغة من العمر 42 عاماً: "الأشياء التي سأرميها تكتسب قيمة على الفور على الرغم من معرفتي أنني سأتخلص منها".
في ذات الصدد تقول المصورة الفوتوغرافية جوليا ذات الـ 32 عاماً: "عندما أعددنا صناديق أغراضنا أردت أن تتمكن بناتي من الاحتفاظ بملابسهن منذ طفولتهن وستراتهن المحبوكة من قبل جدتهن، بالإضافة إلى أثاثنا وحليّنا فهم ذاكرتنا وشهود سعادتنا وأحزاننا ونجاحاتنا وأعمالنا وفشلنا. حزم أمتعتي ورمي الأشياء التي تذكرني بالمنزل، وحتى ما تسبب في طلاقي، سمح لي بالمضي قدماً".
بمجرد انتقالنا سنكتشف أنه حتى ما كان يزعجنا في المنزل سابقاً أصبح اليوم راحة بالنسبة لنا (الجار المشاكس ورائحة القلي من مطعم الوجبات السريعة في الطابق السفلي).
تكمن صعوبة الانتقال في حزم الأمتعة والصناديق أكثر مما تكمن في فقدان المعالم المألوفة والاستقرار في رقعة جغرافية جديدة مع عقلية أشخاص مغايرة.
كما تقول فيرجيني ميغلي: "سنعيد نظامنا وترتيب حياتنا تدريجياً. في هذه الأثناء عندما نقوم لأول مرة بتنظيف أرضية منزلنا الجديد فإن الأمر لا يتعلق بالنظافة فحسب؛ بل بعمل رمزي نعيد من خلاله ترتيب المنزل بطريقتنا وعلى ذوقنَا كشكل من أشكال التفرد. وهكذا عليك أن تعرف كيف تستمع إلى الحزن أو تفهم شعور الهجران، لأنها عوامل ستساعد على ولادة قوى جديدة في نفسك".
من خلال الانتقال إلى مكان جديد سنبتكر معالمَ من نوع آخر ونروّض الفضاء بخلق عادات جديدة في بيئة مختلفة ونعيد إنشاء الروابط، فالانتقال أيضاً بمثابة ولادة جديدة.