أصبحنا نعي اليوم عواقب إخفاء الأسرار العائلية. لكن هل نعلم كيف نكشف عن هذه الأسرار ولمن؟ يعرّفنا المعالجون النفسيون إلى كيفية التعامل مع مثل هذه المواقف الحساسة من دون أن نفسد كل شيء.
إذا كان الصمت ثقيلاً فإن الكشف عن الأسرار العائلية في المجتمعات التي تضطهد أفرادها سيكون محفوفاً بالمخاطر. لذلك كان الآباء يحافظون على أسرار العائلة طي الكتمان حرصاً منهم على مصلحة أبنائهم والأجيال التي ستليهم.
ولكن مع تطور الأعراف الاجتماعية والمعرفة النفسية فإن الكثير من المواقف التي كانت فيما سبق سبباً للعار والخوف لم تعد كذلك.
وعلى الرغم من ذلك يوضح مختص الطب والتحليل النفسي سيرج تيسورون أننا في بعض الأحيان قد نعجز حتى عن تقبل المواقف المقبولة اجتماعياً ونشعر بالألم بسببها. ومن ثم فنحن نخاطر بإبقاء هذه المواقف أسراراً طي الكتمان.
ويضيف مختص التحليل النفسي برونو كلافير قائلاً: "في هذه الحالة يبدو الصمت الخيار الوحيد بالنسبة للمرء للحفاظ على نظام عائلي معين؛ إذ يعتقد أن الإفصاح عن الحقيقة يؤدي إلى إثارة الفوضى".
تتخذ الأسرار العائلية في عصرنا هذا نمطاً جديداً. فمثلاً يشير سيرج تيسورون إلى حالة تكتم العائلة على انتحار أحد أفرادها خشية أن يحول الكشف عن ذلك دون استفادة الباقين من بوليصة التأمين على حياته، أو حالة السرية التامة التي يفضل الكثير من الآباء أن يحيطوا عمليات التلقيح الصناعي بها. إذاً هل من الحكمة أن نكشف عن سر ما بعد أن "خبأناه"؟ ألا يعني ذلك المخاطرة بحدوث ضرر كبير؟
ما عواقب الصمت؟
علمت نجوى ذات الـ 54 عاماً عندما كانت في سن الثلاثين أن أبيها لم يكن والدها الحقيقي. تقول نجوى: "لقد كذبت عائلتي عليّ. إن التعافي من هذه الحقائق ليس أمراً سهلاً".
كيف يمكننا أن نحب من تغيرت صورتهم في أعيننا ونثقَ بهم بعد الآن؟ وكيف نمضي قدماً في واقع مغاير لما عرفناه طوال حياتنا؟ هل كان من الأفضل لنجوى أن يبقى هذا السر طي الكتمان؟
تقول نجوى: "بالتأكيد لا. التصالح مع الحقيقة بصرف النظر عن مدى قسوتها هو أفضل من أن أبقى مخدوعةً لفترة طويلة ثم أجد نفسي مضطرةً لبدء حياتي من جديد".
أظهرت مختصة علم النفس وعلم الأنساب النفسي آن أنسيلين شوتزنبرغر في أبحاثها العديدة تأثير كتمان الأسرار العائلية عبر الأجيال. لقد لاحظَت أن الأسرار العائلية التي كتمها أجدادنا من أجل مصلحتنا خلّفت لدينا عقداً كثيرة جعلتنا نعجز عن المضي قدماً في الحياة.
تتجلى هذه القصص التي لم نعلم شيئاً عنها بصورة التكرار اللاواعي. على سبيل المثال عند اختيار شريك حياة سام، أو عدم قدرة المرأة على الحمل، أو حتى الفشل المهني.
تبقى القصة العائلية في الجيل الأول طي الكتمان، وفي الجيل الثاني تصبح سراً عائلياً. أما في الجيل الثالث فتصبح مغفلةً تماماً، فنجد أن هذه الحقيقة التي لا نعرفها تطاردنا وتتحكم بمسار حياتنا الذي لم يعد ملكاً لنا. وبناءً عليه فقد رأى علماء النفس أن صعوبة الكشف عن سر ما لا تُقارن بالتأثير المدمر الذي سيُحدثه كتمانه عبر الأجيال.
متى تكشف عن الأسرار العائلية؟
في مواجهة العواقب الكارثية المخيفة قد يميل المرء إلى تبرير اختيار الصمت بأن هذا السر هو من خصوصياته التي يجب ألا يفصح عنها. ودعونا نفرق هنا بين الخصوصيات والأسرار. وفقاً لسيرج تيسورون فإن الخصوصيات هي تلك التي لا تُقال فقط، أما الأسرار فهي الأمور التي يحظر المرء على الآخرين معرفتها وتسبب له أو للمقربين منه الألم.
وطالما أن خصوصيتك تجعلك سعيداً فلا شأن للآخرين بذلك. لكن عندما يحملك ما تحتفظ به لنفسك على البكاء في الخفاء أو الكذب أو تغيير سلوكك فعندها يبدأ الآخرون بالشعور بالقلق والذنب متسائلين عما إذا كان لهم دور في حالتك هذه.
ويؤكد برونو كلافير قائلاً: "تصبح الخصوصية سراً بمجرد ظهور أعراض". فالأطفال يعبرون عن شعورهم بالحقيقة التي أخفيت عنهم من خلال تغيرات سلوكية محددة مثل الشعور بالغضب والمعاناة من الكوابيس والصعوبات الدراسية. إنهم يتفاعلون مع ما يشعرون به من دون أن يعرفوا ماهيته بالتحديد. ولهذا يؤكد سيرج تيسورون أن الإفصاح عن الحقيقة يمثل إثبات فرضية موجودة وليس كشفاً عنها.
وكدليل على ذلك يوضح المختص كيف كان الوالدان في عيادته يسردان حدثاً لأول مرة لأنهما احتفظا به كسرّ طوال الفترة الماضية. وعندما سأل طفلهما عن رأيه بما قالا أجاب: "أدركت دائماً أن ثمة مشكلة ما من دون أن أتمكن من معرفتها بالضبط". وهذا ما جعل الطفل يعاني من مشاعر الغضب ويدخل في نوبات بكاء وصراخ بصورة مستمرة.
إذاً ما الوقت الملائم لكسر الصمت والكشف عن السر؟ يقول برونو كلافير: "عندما نلاحظ أن معاناتنا أو معاناة من حولنا ترتبط بهذا السر". ولنتأكد من وجود علاقة بين المعاناة والسر الذي نكتمه فإننا يجب أن نراقب العلامات الواضحة لدى الشخص الذي يعاني ونحاول أن نعرف إذا تزامنت هذه العلامات مع بداية احتفاظنا بهذا السر، أو متى أصبح يثقل كاهلنا مثلاً.
كيف تكشف عن الأسرار العائلية الحساسة؟
قبل اتخاذ هذه الخطوة اكشف عن سرك لطرف ثالث، سواء كان شخصاً تثق به أو معالجاً نفسياً. المهم أن يكون شخصاً راشداً قادراً على الاستماع إليك ومساعدتك على تفريغ الشحنة العاطفية التي تصاحب هذه اللحظة دون أن تخاف من أن يؤدي ذلك إلى جرحه.
بخلاف ذلك، يرى برونو كلافير أن الكشف عن السر للشخص المعني به مباشرةً سيكون مصحوباً بعواطف شديدة قد تجعله يرى الأمر بمثابة هجوم عليه.
ولتجنب ذلك ينصح مختص التحليل النفسي بالكشف عن السر في حضور طرف ثالث. ويوضح أن هذا الأمر أحد أكثر الأسباب المتكررة للاستشارة. ويقول: "كثيراً ما أصادف أشخاصاً يرغبون بمصارحة ابن أو زوج أو زوجة بأمر ما ويجدون أنفسهم عاجزين عن ذلك فأقترح أن تجتمع الأطراف عندي. وبخلاف ذلك فإن المرء سيتمكن من تحديد الوقت الملائم للتحدث".
يحبذ سيرج تيسورون خلق تحالف داخل الأسرة، ويوضح قائلاً: "إذا لم يكن الأشخاص الآخرون المعنيون بهذا السر موجودين فإنه من الضروري أن يكونوا متفقين على الكشف عنه على الأقل".
أخيراً؛ إذا كان لابد من إخبار العديد من أفراد الأسرة بالسر فإن مختص التحليل النفسي يحثّ على إخبارهم به في وقت واحد. بخلاف ذلك سيتكوّن لدى كل شخص انطباع بأننا نزوده بمعلومات استثنائية، ومن ثم فإننا نضيف سراً آخر على السر الأصلي.
هل الكشف عن الأسرار العائلية مؤلم بالضرورة؟
يجيب سيرج تيسورون عن هذا السؤال قائلاً: "على الرغم من ميلنا إلى تأجيل الكشف عن السر خوفاً من الصدمة التي قد يشعر بها الآخر فإن هذه اللحظة تكون في معظم الأحيان مصدر راحة له؛ وكأنها هدية غامضة تخلصه من شعوره بالضيق والذنب. وينطبق الأمر ذاته أيضاً على الشخص الذي أثقل كاهله الصمت. وعلى الرغم من ذلك فإن إخفاء الحقيقة أو التمسك بكذبة ما لمدة طويلة سيؤدي حتماً إلى تقويض الثقة داخل الأسرة".
إذاً كيف يمكن استعادة هذه الثقة مجدداً؟ "من خلال التحدث. حتى لو أدى ذلك إلى إثارة الخلافات في البداية فالأهم هو إزالة الشكوك والتخلص من حالة الاستياء. كما أنه من الأهمية بمكان أن نعي أن الكشف عن سر ما في حد ذاته هو دلالة على الثقة الكبيرة".
كيف تتعامل مع سر كُشف عنه للتو؟
يقول سيرج تيسورون: "في البداية لا تصدق ما تسمعه حتى لو كان الشخص الذي يكشف لك عن السر على فراش الموت". ويستحضر حالة الرجل الذي أسرّت له عمته في نهاية حياتها أنه وُلد من رجل غير والده. وقد تبيّن بعد التحقق أن العمة قد اخترعت هذه القصة منذ عقود وصدقتها. لذا فالخطوة الأولى هي ألا تتردد في طرح الأسئلة وطلب التفاصيل ومقارنة المصادر.
ثم يدعونا مختص التحليل النفسي للتعرف إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية للفترة التي أحاطت بالحقيقة المسكوت عنها. ويقول: "قبل ٥٠ عاماً كانت عملية الإجهاض تتسم بالسرية ولا يمكن مقارنتها في تلك الفترة بما هي عليه اليوم". يتيح لنا الحصول على المعلومات فهم كيف يمكن أن يشعر شخص ما (وأحياناً المجتمع بكامله) بأنه معرض لضغط معين يجبره على التزام الصمت.
إذا كان السر الذي نحتفظ به يتعلق بأشخاص آخرين غيرنا فإن الكشف عنه لهم أمر طبيعي وصحي تماماً. لكن يجب الحرص على تحديد أن هذه المعلومات تأتي إلينا من طرف ثالث وأننا نكشف عنها تماماً كما قليت لنا.
وعلى الرغم من أننا لا نعرف كل أسرارنا العائلية فقد يتمكن أطفالنا أو أحفادنا يوماً ما من معرفة المزيد، تماماً كما يسمح لنا فتح الأرشيف أو اختبارات الحمض النووي بأن نعرف أكثر مما عرفه أجدادنا. لذلك يجب دائماً اعتبار السر بمثابة قناعة شخصية لا يقين مطلق.
كيف تتعايش مع الحقيقة؟
يقول برونو كلافير: "يُعتبر الانسجام مع الحقيقة عمليةً تلقائيةً؛ إذ إن اتّضاحها يساعدنا على استعادة النظام الذي كنا نفتقر إليه بشكل أو بآخر. إذا كان السر الذي كُشف عنه يتضمن حقيقة مصيرية تجعلنا نتساءل بعمق عن هويتنا فإنه من المستحسَن أن نستشير معالجاً نفسياً ليساعدنا على بدء حياتنا مجدداً بصورة تدريجية".
إن التعبير عن قصتك بطريقتك الخاصة سواء كان بالكلام أو الكتابة أو الرسم أو أي طريقة أخرى ترغبها، هو أفضل ما يمكنك فعله لتساعد نفسك على تقبلها. وأخيراً لا تنسَ أن تسلّم هذه القصة للأجيال القادمة لتكسر دائرة الكتمان مرةً واحدةً وإلى الأبد.
اقرأ أيضاً: هل يجب أن نشارك كل ما نعلمه مع عائلتنا؟