غالباً ما يُنظّم المرء عواطفه وفقاً للمواقف والأوضاع الحياتية التي يمر بها كل يوم، فمن خلال هذه العملية النفسية يمكننا إدارة ما نشعر به والتعبير عنه طبقاً لمشاعرنا والموقف الذي نتعرض له. لكن عند بعض الناس، وخاصة "الأشخاص الذين يعانون من القلق"، لا تكون هذه الطريقة فعالة. هذا ما يدفعهم إلى تبنّي استراتيجيات تنظيمية أخرى ليست ناجعةً دائماً، فضلاً عن أنها ضارة بصحتهم العامة.
فيما يلي مقال للباحثة ليان رولاندز المختصة في علم النفس العصبي في جامعة بانجور نُشر في الموقع البريطاني "ذي كونفرسيشن" (The Conversation)، تحدثت فيه عن الأسباب التي تجعل الأشخاص القلقين غير قادرين على إدارة عواطفهم.
إن المشاعر التي يمر بها الأشخاص القلقون بها حادة ويصعب تحملها؛ ما يدفعهم غالباً إلى اللجوء إلى سلوكيات مثل إيذاء النفس أو شرب الكحول أو الإفراط في الأكل من أجل الهروب منها.
لتَنظيم عواطفنا نستخدم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات مثل إعادة التقييم (التي تغير شعورنا تجاه شيء ما) والتوزيع المتعمد (الذي يصرف انتباهنا بعيداً عن شيء ما). تعتمد هذه الاستراتيجيات على الأنظمة العصبية الكامنة في قشرة الفص الجبهي في دماغنا. إذا اختلّ توازن هذه الأنظمة فقد نفقد القدرة على إدارة عواطفنا بشكل فعال.
لكن عدم القدرة على التنظيم العاطفي لا يحدث فقط عندما يتجاهل الدماغ استخدام استراتيجياته التنظيمية. يمكن أن يحدث هذا أيضاً عندما تفشل محاولات تخفيف المشاعر غير المرغوب فيها أو عندما يتم تنفيذ استراتيجيات التخفيف ذات النتائج العكسية؛ أي عندما تكون هذه الاستراتيجيات غير قادرة على تخفيف حدة المشاعر الشديدة.
قد يساعدك اتخاذ قرار بعدم تعرّضك لنوبة قلق على الشعور بالتحسن على المدى القصير؛ ولكن على المدى الطويل يؤدي إلى زيادة مستمرة في إنفاق الطاقة.
تؤدي المحاولات الفاشلة للتنظيم واستخدام وسائل التخفيف ذات النتائج العكسية إلى العديد من مشاكل الصحة العقلية؛ مثل اضطرابات القلق والمزاج. لكن أسباب انعدام القدرة على التنظيم العاطفي مختلفة، وفي الواقع وجدت الأبحاث عدة أسباب لهذه المواقف.
أنظمة عصبية مختلة
يرتبط الاختلال الوظيفي للأنظمة العاطفية للدماغ عند الشعور باضطرابات القلق، بالاستجَابات العاطفية الأكثر حدة من تلك التي تحدث عادة، بالإضافة إلى زيادة إدراك التهديد والنظرة السلبية للعالم. وهكذا تؤثر الخصائص في مدى فعالية استراتيجيات تنظيم العاطفة، وينتج عن هذا الاعتماد المفرط على استراتيجيات غير قادرة على التكيف مشاكل التجنب أو محاولة قمع المشاعر.
إن نظام إعادة التقييم في أدمغة الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق لا يعمل بكفاءة كما هو الحال في أدمغة الأشخاص غير المصابين بالقلق. عند استخدام استراتيجية تخفيف الانفعال هذه تكون أجزاء من قشرة الفص الجبهي أقل نشاطاً مقارنة بالأشخاص غير القلقين. وفي الواقع كلما ارتفع مستوى أعراض القلق، قل نشاط هذه المناطق من الدماغ. هذا يعني أنه كلما زادت حدة الأعراض، قلت إمكانية إعادة تقييمها.
وبالمثل فإن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب اكتئابي شديد؛ والذي يؤدي بدوره إلى عدم القدرة على تنظيم أو إصلاح العواطف وبالتالي إلى نوبات طويلة من الاكتئاب، يجدون صعوبة في استخدام التحكم المعرفي للسيطرة على مشاعرهم السلبية والتخفيف من حدّتها. ويُفسّر ذلك بالاختلافات العصبية الحيوية مثل نقص المادة الرمادية وحجم قشرة الفص الجبهي.
يظهر عند الأشخاص المصابين بالاكتئاب نشاط أقل للدّماغ، بالإضافة إلى انخفاض في عملية التمثيل الغذائي في هذه المنطقة من الدماغ لا سيما عندما يؤدون مهاماً تهدف إلى تنظيم عواطفهم.
أحياناً تكون وظيفة أنظمة الدماغ التحفيزية أقل فاعلية لدى الأشخاص المصابين باضطراب اكتئابي شديد مقارنة بالآخرين. علاوة على ذلك؛ تَرْبِطُ شبكات الاتصالات العصبية الجسم المخطط البَطني الموجود في منتصف الدماغ وقشرة الفص الجبهي، وقد يفسر هذا الأداء الضعيف قدرتهم المحدودة على تنظيم المشاعر الإيجابية. إنها صعوبة تُعرف باسم "انعدام التلذذ" (Anhedonia) وتؤدي إلى نقص اللذة والشهية للحياة.
استراتيجيات أقل فعالية
ليس هناك شك في أن الناس لديهم قدرة على استخدام استراتيجية تنظيمية مختلفة لكن بالنسبة للبعض فهناك استراتيجيات لا تنجح. قد يجد الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات القلق استراتيجية إعادة التقييم أقل فاعلية لأن تحيز الانتباه الذي يؤثر عليهم يدفعهم إلى إيلاء المزيد من الاهتمام بشكل لا إرادي للمعلومات السلبية التي تهدد أمنهم. وهذا في الحقيقة يمكن أن يمنعهم من تفسير المواقف بشكل إيجابي؛ وهو جانب رئيس لعملية إعادة التقييم.
من ناحية أخرى؛ قد لا تعمل استراتيجية إعادة التقييم جيداً مع الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات المزاج مقارنة بالآخرين. وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تؤدي التحيزات المعرفية التي يعاني منها الأشخاص المصابون باضطراب اكتئابي شديد إلى تفسير المواقف على أنها أكثر سلبية مما هي عليه؛ ما يعيق عملية التفكير الإيجابي.
استراتيجيات غير مناسبة
على الرغم من أن الاستراتيجيات غير الملائمة يمكن أن تساعد الناس على الشعور بالتحسن على المدى القصير، فإنها تأتي بنتائج عكسية على المدى الطويل؛ والتي تتمثل عواقبها في استمرار القلق واضطرابات المزاج.
يعتمد الأشخاص الذين يعانون من القلق بشكل أكبر على استراتيجيات غير قادرة على التكيف مثل الكبت (الذي يتضمن محاولة منع أو إخفاء الاستجابات العاطفية) وبدرجة أقل على استراتيجيات التأقلم مثل إعادة التقييم.
وعلى الرغم من أن البحث لا يزال مستمراً فمن المعتقد أنه عند تعرضهم لمشاعر شديدة، يجد هؤلاء الأفراد صعوبة بالغة في تحرير أنفسهم؛ وهو الخطوة الأولى الضرورية لإعادة التقييم، فيتجهون بدلاً عن ذلك إلى استراتيجية تكيف غير ناجعة.
في الواقع إن الاعتماد على استراتيجيات غير قادرة على التكيف مثل الكبت والاجترار (حيث يكون لدى الناس أفكار سلبية متكررة واستنكار للذات) هو أيضاً سمة مشتركة للأشخاص الذين يعانون من اضطراب اكتئابي شديد.
هذا ومن المهم التأكيد على أن اضطرابات المزاج لا تنتج فقط عن تشوهات عصبية؛ حيث تشير الأبحاث إلى أن هناك مجموعة مختلفة من العوامل الفيزيائية والبيئية والنفسية تساهم في حدوث هذه الاضطرابات.
بينما يبحث العلماء عن علاجات جديدة واعدة، يمكن أن تساعد بعض الإجراءات البسيطة الأشخاص على تخفيف حدة تأثير الأفكار والعواطف السلبية على مزاجهم. على سبيل المثال؛ يمكن للأشخاص الذين يعانون من هذه الاضطرابات الاستفادة حقاً من الانخراط في أفعال إيجابية والتعبير عن الامتنان وإظهار اللطف للآخرين، بالإضافة إلى التفكير فيما يشكل نقاط القوة في الشخصية.