ما الذي يقوض ثقتنا بأنفسنا؟

6 دقائق
الثقة في النفس

لا تتأثر الثقة في النفس بالمسائل الذاتية وحسب؛ بل إن الأزمات الأخلاقية والاقتصادية والصحية والبيئية لها دورها أيضاً في زعزعة ثقتنا بأنفسنا. لكن كيف يمكن وضع حد لهذه المشكلة؟

بينما كان يَعتقد آبائنا بأن حياة أطفالهم ستكون أفضل من حياتهم، فإننا نرى اليوم النقيض تماماً. فنحن نشعر بأننا أكثر هشاشة لأن التغييرات المجتمعية العميقة تقوض ثقتنا بأنفسنا.

وكما يشرح معالج الغشتالتي (العلاج الغشتالتي هو شكل وجودي/تجريبي للعلاج النفسي يُركز على الدور الشخصي وتجربة الفرد في الوقت الحاضر، والعلاقة بين المعالج والمريض والسياقات البيئية والاجتماعية لحياة الشخص والتعديلات الذاتية التي يقوم بها الأشخاص على حياتهم كنتيجة لوضعهم العام) جان فرانسوا غرافويل: "اليوم لا نستطيع إنتاج طعامنا بأنفسنا ولا ضمان سكننا أو التنقل بمفردنا أو صناعة ملابسنا والاعتناء بأنفسنا بمفردنا؛ إلا من خلال الاستعانة بالآخرين مقابل رسوم مادية".

يتابع معالج الغشتالتي: "عندما أقوم بقطع الخشب لتدفئة منزلي فهذا لا يعني أنني أستطيع التعويل على نفسي فحسب؛ بل في الواقع أنني أعرف أيضاً مواردي المادية وعدد الأخشاب التي يجب عليّ قطعها وحملها واستخدامها".

ويوضح: "في مجتمعاتنا الحديثة، لا ندرك في بعض الأحيان كيف يمكننا أن نتصرف لنبقى على قيد الحياة؛ حيث تفاقمت أزمة انعدام الأمن من خلال اعتمادنا على التقنيات التي لا نتقن استخدامها أساساً. وفي الوقت الراهن حتى ميكانيكي السيارات الماهر لا يمكنه إصلاح سيارته. لكن عندما ينهار النظام الإكتروني أو لا نجد قطع غيار لازمة سنصبح عاجزين، وسنلجأ بعد ذلك إلى خدمات أخرى غير فعالة".

بروليتارية الوجود

يوضح المحلل النفسي رولاند غوري: "إننا نواجه بروليتارية معممة للوجود". وذلك ليس بسبب عدم المساواة الاجتماعية بل لأن العالم يسوده الفكر الماركسي؛ نقل المعرفة من الإنسان إلى الآلة.

ويضيف المحلل: "كان العمال سابقاً أول الموجودين على خط الإنتاج، واليوم أيضاً يؤدي ذات الدور كل من الطبيب والقاضي والممثل والباحث. نحن جميعاً بروليتاريون لأننا نخضع لقواعد وبروتوكولات معيارية".

تعد لفتة الممرضة لطمأنة المريض أو المعلم لرفع معنويات التلميذ، ثمينة وضرورية. في الحقيقة؛ من المهم اليوم تحديد الأهداف ومواكبة عالم الأرقام ليصبح لدينا معيار مُحدد لنتبعه في اليوم التالي.

يقول رولان غوري: "حضارتنا التي تتمحور حول الأداء والربحية على المدى القصير تنتج رائد أعمال يعمل فقط لصالحه، ومنفتحاً على المنافسة في جميع جوانب حياته". إننا نخلط بين عيش الحياة وتقلباتها والتخطيط لكل شيء؛ من إجازاتنا المنظمة "المريحة" إلى علاقات الحب.

وهكذا نقدم أنفسنا في "عالم" الحياة الاجتماعية كما في مقابلة عمل، ونضاعف العديد من معايير التقييم لاختيار شريكنا المستقبلي (الفهم الجنسي والوضع الاجتماعي، الاهتمامات المشتركة والقدرة على التواصل) على الرغم من عجزنا عن معرفة كيفية تحديد الشعور بالحب.

وفقاً لعالمة الاجتماع إيفا إلوز، فإن توسيع معايير البحث عن الشركاء والمنافسة يزيد من قلقنا. حيث تقول: "يصبح الشعور بقيمتنا غير مستقر وقابل للتفاوض. كيف يمكنك أن تكون على يقين من أنك محبوب عندما تعيش تحت تهديد أن شخصاً ما أفضل منك قد يظهر لك في أي لحظة؟".

وهمٌ بلا حدود

ولا ينتهي الأمر عند ذلك؛ منذ الصغر كان علينا أن نكون في أبهى حلة ومتألقين. نحن بحاجة إلى النجاح في حياتنا على جميع المستويات لكي نكون سعداء ومبدعين ومستقلين، وفوق كل شيء أن نضع أنفسنا محط الأنظار من أجل الوجود.

بالنسبة للمحلل النفسي الوجودي كارلو سترينجر؛ مؤلف كتاب "الخوف من عدم الأهمية يقودنا إلى الجنون" (La Peur de L'insignifiance Nous Rend Fous): "اختفت معايير النجاح بما أنها أصبحت مُنكشفة للعيان".

ففي شبكات المواقع الاجتماعية وما يسمى "ملفي الشخصي" أصبحت العلاقات قائمة كما في بورصة وول ستريت على القيمة؛ كم عدد الأصدقاء على موقع فبسبوك، والنتائج على جوجل، والعلاقات على منصة لينكد إن، وحتى لو تمكنا لثانية واحدة من الكشف عن هويتنا فإن خاصية تعدد استخدامات هذه المواقع تعيدنا بسرعة إلى الغموض.

وهكذا يتولد الخوف المستمر من عدم أهميتنا الوجودية. يؤكد كارلو سترينجر أن: "تسليع الفرد قد أدى إلى عدم استقرار الشعور باحترام الذات وتولي قيادة حياة ذات معنىً حقيقي".

والأسوأ من ذلك أنه من خلال الاعتقاد بأن كل شيء ممكن وأن الشهرة والثروة مجرد مسألة إرادة وشجاعة، فإننا في الواقع نقع في الشك وعدم الرضا وتدني احترام الذات. فعلى سبيل المثال؛ شعار الإعلان "فقط افعل ذلك" (Just do it) هو وفقاً للمحلل النفسي يرمز إلى ضرورة أن يتجاوز المرء قدراته ليتغذى على وهم الأنا بلا حدود.

ويوضح المحلل: "نظرتنا إلى ستيف جوبز ومارك زوكربيرغ، ومن إيمينيم إلى بيونسيه نولز، تجعلنا نعتقد أن أي شخص لديه الجرأة والابتكار والقدرة على استخدام الكمبيوتر المتصل بالإنترنت، يمكنه أن يحقق نجاحاً".

ولكن كيف لي أن أعرف ما إذا كنت قد استخدمت إمكانياتي الهائلة بشكل صحيح؟ كيف يمكنني أن أكون راضياً عن الحياة العادية إذا كان بإمكاني أن أصبح نجماً؟ كيف أقدر نفسي عندما أشعر بالذنب لأنني فشلت؟

يعتقد كارلو سترينجر أن أسطورة العبارة "فقط افعل ذلك" (Just do it) تستند إلى إغراء مزدوج؛ فكرة أنه يمكننا تشكيل أنفسنا كما يحلو لنا وأن الحرية تسمح لنا بتجاوز الحدود. أو كما يقول الفيلسوف مارتن هايدجر: "لسنا نحن من اختار كيفية وجودنا، فنحن لا نختار والدينا ولا جسدنا ولا مواهبنا ولا أقدارنا".

وفقاً للفكر الوجودي، فمن خلال تشكيل قيود ومآسي هوياتنا ومحاولة تَجاوُزها بشكل كامل وإبداعي قدر الإمكان؛ نجد حريتنا وإحساسنا بأننا نعيش حياة ذات معنى. يجادل عالما الأوبئة البريطانيان ريتشارد ويلكنسون وكيت بيكيت، بأن عدم المساواة الاجتماعية تؤدي إلى انعدام الثقة، لأنها تولد علاقات تنافسية عنيفة ومرهقة بشكل متزايد.

ثم نلجأ إلى استراتيجيات الترويج الذاتي (المبالغة في عرض نجاحاتنا والتفاخر وما إلى ذلك) التي تخفي بشكل سيئ أكبر نقاط ضعفنا وخوفنا من الآخرين. ويضيف رولان غوري، على وجه الخصوص، أن: "نواقصنا تُعتبر نقاط ضعف في حين أنها تشكل جوهر وكرامة الإنسان وقدرته على الارتباط بأقرانه".

يُضاف إلى ذلك القلق من رؤية شبكات الأمان الموضوعة بعد الحرب (التقاعد والضمان الاجتماعي) تنهار لأن الدولة لم تعد تضمن المصلحة الجماعية فوق المصالح الفردية. وبحسب المحلل النفسي: "لم نعد متأكدين إذا أظهرنا هشاشتنا، أن الآخر سيُظهر تعاطفاً ويعاملنا بإنسانية". عندما نكون في حالة شك فإننا ننزوي بأنفسنا عن الآخرين ونصبح مغتربين ومرتبكين وخائفين من بعضنا البعض.

مجتمع مخادع

يؤكد جان فرانسوا غرافويل: "لم نعد نعرف ممن نطلب المساعدة في مجالسة الأطفال أو حمل الأثاث. ليس ذلك فحسب؛ لم نعد نبتكر أي شيء بشكل جماعي، لا نعرف ما يمكننا فعله معاً. هذه الوحدة تسبب معاناة عاطفية وانعدامَ الأمان بشكل أساسي".

لن نستطيع التوافق مع بعضنا البعض بعد الآن! لكن على الرغم من ذلك؛ من الضروري خلق التضامن والثقة والتخلص من فتيل النزاعات. ويضيف المحلل النفسي: "في السابق كنا نحتفل خلال موسم الحصاد، واليوم نلعب بمفردنا، ونتشبّث بهواتفنا خشية أن تُسرق منا. "كل شيء نقوم به بمفردنا؛ العمل و الاستهلاك وغيرها من الأمور الأخرى. الشيء الوحيد الذي نقوم به معاً هو الاصطفاف أمام المحلات التجارية".

يشير رولان غوري الذي يشخص مجتمعنا على أنه مخادع إلى أن: "استخدام أجهزتنا الخاصة بصفة متواصلة ينسينا أنفسنا ويدفعنا إلى نشاط مفرط يؤدي إلى الإرهاق أو العدوان على الآخرين أو الذات، لأننا غير قادرين على الاستجابة للطلب الاجتماعي، أو ربما نلجأ للغش حتى لا نعاني كثيراً".

فعلى سبيل المثال؛ أزمة اليونان كان سببها اقتراح ميزانية خاطئة، لعدم قدرة المسؤولين على تقديم الميزانية المطلوبة. ولذلك أدى هذا "التظاهر بالمعرفة" لأزمة وجودية وفقدان المسؤولية. اليوم لم يعد لدينا وقت للتفكير ثم التراجع للحصول على رأي نقدي.

نحن مهيؤون للاستجابة بطريقة معيارية في حالات الطوارئ تجاوباً مع المحفزات الاجتماعية. وهكذا ينتهي بنا الأمر لنصبح مثل الروبوتات؛ نسير بشكل مستقيم دون طرح أسئلة. يشدد رولان غوري: "نعتقد أننا لا نستطيع فعل شيء حيال العولمة وتسريح العمال والعنف في الشوارع؛ لكن هذا ليس حتمياً! هذا ليس ما أراده الله؛ بل العالم اليوم!".

الشعور بالعجز لمواجهة ما يهددنا يتفاقم بسبب الافتقار إلى وسائل العمل. يقول جان فرانسوا غرافويل: "المحيط الحيوي يتدهور والاقتصاد معطّل، والتطرف بلغ منتهاه. ماذا يمكنني أن أفعل لتغيير هذا؟ هل ألجأ إلى الفرز الانتقائي؟ إنه حل قصير المدى بعض الشيء".

بينما نشعر أننا لا نستطيع السيطرة على عالمنا بالشكل الكافي، فإننا نتعرض لهجوم سبب دماراً هائلاً لا يمكن قياسه بقدراتنا على الإصلاح والتعديل. وفي هذا السياق يؤكد المعالج الغشتالتي: "يستغرق تسميم أرض بحادث نووي أو تدمير الأرواح أو إغلاق مصنع وقتاً قصيراً، بينما تتطلب زراعة شجرة أو استعادة الثقة في النفس سنوات عديدة".

استرجاع توازن الحياة النفسية

ضعفاء كنا أو محبطين؛ ينتهي بنا الأمر إلى الاعتقاد بأنه ليس لدينا خيار سوى أن نعاني، وأن قوتنا الداخلية لا يمكنها مقاومة تدهور كَوْنِنَا. والأسوأ من ذلك أننا لم نعد نتأقلم مع هذا العالم، لا سيما مع مطالِبه المتزايدة.

لاستعادة توازن الحياة النفسية ينبغي أن نقنع أنفسنا أن الحكمة ستكون باغتنام الملذات أينما كانت دون التفكير كثيراً في المستقبل. من المؤكد أن هذا الانفصال الجبري عن المجهول يتسبب في معاناة أقل؛ لكنه بحسب جان فرانسوا غرافويل: "هذه الطريقة لا تورطنا في أفعال ملموسة؛ والتي عادة ما تقوينا نفسياً".

لمواجهة الخوف والعجز وحماية أنفسنا من اللامبالاة والاستسلام؛ ولكن أيضاً لاسترجاع قواتنا والخروج من الوحدة، فإن الشيء الوحيد الجدير بالاهتمام هو الالتزام بالواقع. واختتم رولان غوري بالقول: "من خلال الحب والصداقة والسياسة والفن أؤمن بما كتبه ألبير كامو: "أنا أثور لذلك نحن موجودون"، ولهذا يجب أن نستمر في مواجهة عبثية العالم بصفة فردية أو جماعية". واجه الوضع مهما كان مباشرة؛ لكن لا تتراجع.

المحتوى محمي