بحسب عالم الاجتماع الفرنسي "إدغار موران"، فلا يوجد حل لمواجهة شعور الكآبة والإحباط الناتج عن الموت، بيد أن هناك طريقة للتصدي لهذه الحقيقة الحتمية؛ وهي أن نتحمل شعور الكرب وعدم اليقين الذي ينبع منه.
وفقاً لإدغار موران الموت مستمرّ، فبعد محاولة إخفائه ومحوه من حياتنا، بدأنا نجرؤ على مواجهته مرة أخرى، حتى لو كان وقعه شديداً في نفوسنا. وبصفته "عالم اجتماع وباحثاً في حقيقة الموت"؛ يسعى موران جاهداً لإظهار أن المجتمع (والفرد) يعترفان بالموت لكن يرفضان حقيقته رفضاً تاماً، على الرغم من أنه لا وجود للمجتمع دونه (الموت).
إنه بالفعل مصدر الأساطير الدينية العظيمة؛ الخلود والقيامة وتناسخ الأرواح وبالتالي الثقافة. إن إدراك المرء لأفق موته هو ما يميز الإنسان عن الحيوان. علاوة على ذلك؛ يطرح إدغار موران في مقدمة كتاب "الإنسان والموت" فكرة أن "اللغز الأول" ليس الموت بل موقف الإنسان في مواجهته.
إدغار موران
من خلال استكشاف الفرد والمجتمعات بعيون الفيلسوف وعلم الأنثروبولوجيا؛ يزودنا إدغار موران بأدوات قيمة لفهم التعقيد البشري. لقد ألّف العديد من الكتب؛ منها: "الإنسان والموت" (L’Homme et la mort)، "طبيعة الطبيعة" (La Nature de la nature)، "علم الاجتماع" (Sociologie)، "الفكر والمستقبل مدخل إلى الفكر المركب" (Introduction à la pensée complexe)، "النجوم" (Les Stars)، و"من أجل الخروج من القرن العشرين" (Pour sortir du XXe siècle).
يقول علم النفس: "حالما فهم الرجل وعَلِم ماهية موته، رفض على الفور تصديق ذلك". أليس من طبيعة الأحياء أن يرفضوا تصور موتهم؟
إدغار موران: لدى جميع الكائنات الحية، بشراً كانوا أو حيوانات، بعض المعرفة بالموت، والدليل على ذلك أن الجميع يفرون منه. لكن الأصالة البشرية هي تلك اللغة والوعي التأملي الذي يسمح لنا أن نفكر في أن الأنا فانية، تماماً مثلما أثبت أولئك الذين عرفناهم. لقد اكتسب الإنسان وعياً بالموت باعتباره تدميراً لشخصيته، ليس فقط دماراً مادياً؛ ولكن تدميراً لنفسه أو كيانه الذاتي.
منذ عصور ما قبل التاريخ؛ تم وضع ثلاثة معطيات متناقضة ومترابطة تماماً. تتمثل الوضعية الأولى في الوعي بالموت، والوضعيّة الثانية هي الرعب والصدمة اللذان يثيرهما الموت في الأحياء. أما الوضعية الثالثة فهي إمكانية التغلب على هذا الرعب بالكفاح من أجل البقاء وتناسخ الأرواح، ثم التواجد في الأزمنة التاريخية من خلال خلود الروح أو الانبعاث.
لكنني مقتنع بأن حتى أولئك الذين يؤمنون بخلودهم يعرفون أيضاً أنهم بشر بطريقة ما؛ مثلما يستطيع المشككون في أعماقهم أن يأملوا بنوع من البقاء على قيد الحياة بعد الموت. أن يعرف المرء بأنّه فَانٍ لا يعني أن يكون على علم دائم بفنائه. وكما قال فرويد، فهناك شيء لا واعٍ عميق داخل المرء يجعله يعتقد أنه خالد ولا يعرف أنه سيموت.
متى يدرك الأطفال الموت؟
يتحدث الأطفال عن الموت في وقت مبكر جداً؛ لكن الموت يعني بالنسبة لهم الإقصاء والاستبعاد لا غير. إنه يشبه إلى حد ما موت الرسوم الكرتونية؛ حيث يمكن أن تتفكك الشخصيات وتتكون مرة أخرى بعد ذلك مباشرة. فاللحظة التي يشير فيها الموت إلى الخسارة التي لا يمكن تعويضها للكائن تكون عادةً في سن الثامنة تقريباً.
يمكنني التحدث من منطلق تجربتي، فمنذ وفاة والدتي عندما كان عمري بين 9 و10 أعوام، أرادوا إخفاء ذلك عني؛ لكنني فهمت كل شيء. خلال الجنازة تم اصطحابي مع أبناء عمومتي إلى حديقة بجوار المقبرة. فجأة رأيت رجلاً يرتدي لباساً أسود؛ حذاءً أسودَ وبنطالاً أسود. إنه والدي، وقال لي حينها: "لا تلعب هنا، هذا ممنوع". أدركت على الفور أن والدتي ماتت، وأن المأساة كانت فظيعة، وأنه لا عودة لها بيننا، آنذاك تيقّنت أنها فُقدت للأبد.
من الغريب أنه بينما كان لدي هذا الوعي الراديكالي، كنت أحلم دائماً بأنها ستعود. لم تكن هذه مجرد أحلام ليلية؛ بل كانت أيضاً تخيّلات نهارية بقيت أستشعرها طوال الوقت. عادت فكرة عودة والدتي التي اعتقدت أنها قد تبددت تماماً، إلى الظهور بعد أربعين عاماً تقريباً.
في يوم من الأيام؛ رأيت في حلمي قطاراً قادماً، أخبرني أحدهم أن والدتي كانت هناك وكنت أركض نحوها، إنها هي! ثم أدركت أنني كنت بحاجة لتوديعها؛ وهو ما مُنعت من القيام به في ذلك الوقت؛ حيث لم أتمكن من الذهاب إلى المقبرة. شعرت أخيراً بسلام شديد بعد هذا الحلم، لأنني تمكنت من توديعها. أعتقد أنه من الخطأ منع الأطفال من حضور مراسم الدفن. هناك حاجة إلى الوداع، التواصل، الحسرة والبكاء.
هل طقوس الجنازة ضرورية؟
ولائم الجنازة والفجيعة هي لحظات يستحضر فيها الضيوف الشخص المتوفى ويشاركون في حبه. إنها طريقة "للاتصال" بالموت، وربط قواه الحيوية المتجدّدة لاستشعار الموت بالكامل مع قوى الحياة. كل حالة وفاة تتطلب التجديد، وبفضل الجنازة يجدد المرء نفسه في المجتمع.
هل يمكننا القول أن الموت هو الذي يعطي معنىً للحياة؟
على الرغم من أن الموت حقيقة مؤكدة، فإنه أيضاً من أكثر الأمور غير المؤكدة في الحياة. الموت يحدث دائماً بشكل غير متوقّع؛ إلا في حالة الأشخاص الذين بعد أن "عاشوا" لحظات الموت، يمكنهم التفكير في حياتهم والموت بسلام. لكن باستثناء هذه الحالات القليلة، فإن الموت يقطع الحياة بشكل تعسفي ويتركها غير منتهية. وبهذا المعنى؛ لا يمكن أن يعطي المرء معنىً للحياة إلا بأثر رجعي.
ما هو الدور الذي يلعبه الموت اليومي في حياتك الخاصة؟
بدأت أفكر في الأمر خلال الحرب. قلت لنفسي: "لم أبلغ العشرين عاماً من عمري بعد ولم أرَ شيئاً في حياتي، أود أن أعيش. ولكن إذا أردت أن أعيش، فيجب أن أخاطر بحياتي وأشارك في المقاومة". ومن هنا تأتي المفارقة بأن الحياة تحتاج إلى المخاطرة بالموت. يمقت البشر الموت؛ لكنهم في الوقت ذاته الكائنات الوحيدة التي تخاطر بحياتها من أجل الأفكار التي تتبنّاها وتؤمن بها.
تخطر ببالي فكرة موتي أحياناً، بشكل غير متوقع تماماً. إنه أمر يفرغني تماماً؛ حيث تتبدد هويتي وقدرتي على قول "أنا"، "أنا هنا".
هل أنت متصالح مع الموت؟
لا؛ لكنني لست غاضباً حقاً.
هل توجد في الديانة البوذية معتقدات قد تلهمك قليلاً؟
البوذية تفترض الإيمان من خلال تناسخ الأرواح، وبما أن الحياة معاناة فيجب الهروب منها. في حين أن الموت في ثقافتنا هو عبارة عن فجوة، فلا يمكن أن تملأها إلا القيامة (الانبعاث). علاوة على ذلك؛ أعتقد أن هناك مأساة في الحياة.
الحياة هي دمج الموت في الذات. يعيش الكائن الحي من موت خلاياه، لأنه يجدد نفسه عن طريق إنتاج خلايا جديدة! وهكذا يعيش المجتمع ويجدد نفسه من موت الأفراد، فالحياة تدمج الموت حتى يُمحى، وتلعب لعبتها المأساوية ضده. ويصطدم الموت، في كل مرة يوجد فيها تضامن، بين الخلايا والكائنات والمجتمعات.
أعتقد أن البشرية لن تكون قادرة على العيش إلا إذا تم تأسيس مجتمع على الأرض. لكن في لعبة المجتمع هذه عليك أن تقبل بطريقة ما قسوة الموت، لأنك لن تستطيع مواجهته. بيد أنه يمكننا النظر إليه من زوايا مختلفة. أعتقد أن التوقف عن إخفاء الموت لا يعني أن نتصالح معه؛ بل أن نتحاور معه.
في مجتمعنا، هل تطورت العلاقة بالموت في العقود الأخيرة؟
صدر كتابي "الرجل والموت" (L’Homme et la mort) في عام 1951، وحصل على أفضل المراجعات التي حصلت عليها على الإطلاق. وبعد بضع سنوات تم بيع 2,000 نسخة فقط. كان موضوع الموت محظوراً، فنحن مجتمع لا نعرض على أحد قراءة كتاب عن الموت، ولا نشتري حتى كتاباً عن الموت.
بعد إعادة نشره في عام 1970 أصبح حتى يومنا هذا أحد كتبي الأكثر تداولاً؛ حيث بيعَت 70 ألف نسخة منه. وخلال الستينيات؛ تجاوزنا العديد من المواضيع المحرمة على غرار مواضيع الجنس، وبدرجة أقل، ظاهرة الموت، والدليل هو كثرة الأعمال حول هذا الموضوع.
كل هذا يشير إلى أن هناك تحولاً ثقافياً. كان هناك أيضاً الكثير من الحديث في السنوات الأخيرة حول دعم الشخص المحتضر. وهكذا تتقارب الأفكار الجديدة، لتظهر لنا أننا نتجه نحو محاولة افتراض حوار مع الموت.
كيف تتعامل مع الموت؟
كلمة جيد مبالغ فيها نوعاً ما؛ لكن على الأرجح توجد طريقة للتعامل معه. أعتقد أن هناك مواجهتين ضد الموت؛ أولاً حاولنا قمعه أكثر من اللازم، وأردنا محوه، والآن نقمع آلامه، وهذا لا يؤدي إلا إلى إزاحته.
يشعر المرء بألم الموت دون أن يعرف أنه عناء الموت، ثم يحارب ضد كرب وتثبيط وكآبة الموت، ثم ضد أهوال الموت؛ حيث لا يوجد جواب شافٍ.
هناك إجابة واحدة فقط؛ الحب، ليس تجاه شخص واحد فقط ولكن للمجتمع بأسره. تتركز فكرتي على أننا يجب أن نتحمل حالتنا مع القلق وعدم اليقين الناجمَين عن الموت، وأننا لن ننجح إلا إذا سمحنا لقوى الحب والأخوّة هذه بالتوسع بداخلنا. العيش مع الآخر بشكل مكثّف هو قبول خطر الموت.