في مشهد سينمائي متكرر؛ عندما يريد أحدهم أن يتعرّف إلى شخص آخر أو أن يبدأ معه حواراً، فهو يشاركه سجائره، ثم يبدأ حديثهما.
وقد ترسل مثل تلك المشاهد رسالةً للمتلقّي بأن تبادل أشياء كالسجائر من الممكن أن يكون عاملاً في كسر الجليد بين الأفراد، ويمكّنهم من بدء الحديث في التفاعلات الاجتماعية؛ أي أنه عامل مساعد في خلق روابط اجتماعية؛ إلا أن الأمر ليس كذلك.
سبب أم نتيجة؟
في دراسة إنجليزية حديثة من جامعة إمبريال كوليدج لندن نُشرت في يناير/كانون الثاني، وهي الأولى من نوعها، سعت لدراسة علاقة التدخين بالعزلة الاجتماعية الحالية والمستقبلية، والشعور بالوحدة؛ أشارت النتائج إلى أن التدخين يمكن أن يكون عاملاً مؤدياً لكليهما.
كما توضح الدراسة نفسها، أن التدخين نفسه قد يؤدي أيضاً إلى مستويات أعلى من العزلة والشعور بالوحدة.
في حين أشارت دراسة سابقة من جامعة جنوب كاليفورنيا إلى أن الأشخاص المعزولين والذين يشعرون بالوحدة، يكونون أكثر عرضة للتدخين؛ أي أن العزلة الاجتماعية والوحدة هما المحرّكان للتدخين.
الحاجة إلى الانتماء
اقترحت دراسة سابقة من جامعة كنتاكي الأميركية أن التدخين قد يكون سلوكاً نابعاً من الرغبة في استعادة الشعور بالانتماء الاجتماعي، والبحث عن مصادر جديدة للانتماء عند الشعور بالإقصاء الاجتماعي، خاصة بين الشباب؛ ما يساعد على التعرّف إلى أقران جدد في المواقف الاجتماعية المختلفة؛ إلا أن دراسة جامعة إمبريال كوليدج لا تشير إلى ذلك.
وجدت الدراسة التي نُشرت في مجلة لانسيت للصحة الإقليمية (The Lancet Regional Health Europe)، أنه بمرور الوقت؛ لاحظ الأشخاص المُدخّنون انخفاضاً في اتصالاتهم الاجتماعية، وأصبحوا أقل تفاعلاً اجتماعياً وأكثر عزلة، مقارنةً بغير المدخنين.
يقول مؤلف الدراسة؛ الطبيب كير فيليب، من المعهد الوطني للقلب والرئة في إمبريال: "يشير بحثنا إلى أن التدخين ضار بجوانب الصحة النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى الآثار الجسدية الراسخة للتدخين". ويضيف: "يعتقد بعض الناس أن التدخين نشاط اجتماعي؛ لكن دراستنا لم تدعم هذه الفكرة؛ أصبح المدخنون في الواقع أكثر عزلة اجتماعية ووحدة من غير المدخنين بمرور الوقت". كذلك؛ يوضّح فيليب أن النتائج التي توصلوا إليها تشير إلى وجود حلقة مفرغة تشمل التدخين، والعزلة الاجتماعية، والشعور بالوحدة. كما أن هذا البحث يقدّم المزيد من الأسباب التي تجعل الناس يسعون للإقلاع عن التدخين.
تأثير التدخين السلبي على الصحة البدنية
في حين تناولت العديد من الأبحاث تأثير التدخين على الصحة الجسدية؛ إلا أن تأثيره على الصحة النفسية والحياة الاجتماعية لم ينل نفس الاهتمام.
بحسب تقرير الجرّاح العام حول العواقب الصحية للتدخين وعلاقته بأمراض مثل السرطان والسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية لعام 2014؛ والمنشور على موقع مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، فالتدخين يضر كل أعضاء الجسم تقريباً، ويسبب العديد من الأمراض.
وفقاً للتقرير؛ يتسبب التدخين في نحو 90% من جميع وفيات سرطان الرئة، وقرابة 80% من جميع الوفيات الناجمة عن مرض الانسداد الرئوي المزمن (COPD).
كذلك؛ يزيد تدخين السجائر من خطر الإصابة بأمراض القلب التاجية والسكتة الدماغية بنسبة 2 إلى 4 مرات.
يضيف التقرير أن التدخين يتسبب في تدهور الصحة العامة، وزيادة التغيُّب عن العمل، حتى بالنسبة للأشخاص الذين يدخنون أقل من خمس سجائر في اليوم؛ حيث يمكن أن تظهر عليهم العلامات المبكِّرة لأمراض القلب والأوعية الدموية.
التدخين والانسحاب الاجتماعي
حللت الدراسة التي أجراها باحثون من جامعة إمبريال كوليدج لندن وجامعة كاليفورنيا بيانات من الدراسة الإنجليزية للشيخوخة؛ والتي تتكوّن من عينة من 8,780 شخصاً تتراوح أعمارهم بين 50 عاماً وما فوق في إنجلترا؛ حيث تم تقييم العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة للمشاركين على مدى 12 عاماً.
تم تقييم الاتصال الاجتماعي المنخفض لدى المشاركين باستخدام تكرار الإبلاغ عن التفاعلات الاجتماعية، سواء كانت وجهاً لوجه أو باستخدام المحادثات الهاتفية أو البريد الإلكتروني أو تبادل الرسائل النصيّة مع الأطفال، وأفراد الأسرة الآخرين، والأصدقاء.
بينما تم تقييم الارتباط الاجتماعي باستخدام تكرار الإبلاغ الذاتي عن المشاركة في الأنشطة المجتمعية؛ مثل المشاركة في اجتماعات الجمعيات الخيرية أو النقابات العمالية أو المجموعات البيئية، بالإضافة إلى حضور فصول الفنون أو الموسيقى أو التردد على النوادي الرياضية، وكذلك الذهاب إلى المعارض أو المتاحف أو الحفلات الموسيقية أو السينما.
في حين تم قياس الشعور بالوحدة بسؤال المشاركين عن عدد المرات التي شعروا فيها أنهم يفتقرون إلى الرفقة، أو بأنهم مُهمَلون، أو معزولون عن الناس من حولهم.
وجد الباحثون أنه في بداية الدراسة، كان المدخنون الحاليون أكثر عرضة لأن يكونوا منعزلين اجتماعياً من غير المدخنين، ولديهم تفاعلات اجتماعية أقل تواتراً مع العائلة والأصدقاء، وانخراط أقل في الأنشطة الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى العيش بمفردهم.
علاوةً على ذلك، فقد ارتبط التدخين بزيادة في الانسحاب الاجتماعي والشعور بالوحدة بمرور الوقت.
آثار نفسية وبدنية طويلة الأمد
يرجِّح الباحثون أن تلك الآثار النفسية السلبية قد تحدث؛ حيث يكون المدخنون أكثر عرضة للإصابة بضيق التنفس، ومشاكل صحية جسدية أخرى؛ بما في ذلك أمراض الرئة والقلب؛ ما يحدّ من قدرتهم على التواصل الاجتماعي. كما يرتبط التدخين بزيادة مخاطر الإصابة بمشكلات الصحة النفسية كالقلق والاكتئاب؛ ما قد يؤثِّر في مقدار الاختلاط الاجتماعي لدى الأفراد.
يقول الأستاذ نيك هوبكنسون؛ مؤلف آخر للدراسة، من المعهد الوطني للقلب والرئة في إمبريال: "إن معظم الناس يعرفون بالفعل أن التدخين يشكِّل خطراً على الصحة. تشير نتائجنا إلى أن المدخنين هم أكثر عرضة لأن يصبحوا منعزلين اجتماعياً، ويشعروا بالوحدة مع تقدمهم في السن".
بالإضافة إلى ذلك، فإن أصدقاء المدخنين هم أكثر عُرضة للتدخين؛ وبالتالي يكونون أكثر عرضة للوفاة في عمر مُبكِّر. وتشمل العوامل الاجتماعية الأخرى انخفاض القبول الاجتماعي للتدخين عموماً، وعلى وجه الخصوص توسيع التشريع الخاص بعدم التدخين؛ والذي تم تقديمه لتقليل الأضرار الناجمة عن التدخين السلبي.
حلقة مفرغة
تشير الدراسة ذاتها إلى أن التدخين يؤدي إلى زيادة العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة لدى كبار السن. كانت هذه الارتباطات أكثر وضوحاً عند النساء، واختلفت قليلاً حسب الفئة العمرية؛ حيث كان التدخين والشعور بالوحدة أكثر ارتباطاً لدى الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 52-65 عاماً، مقارنة بمن هم في سن 65 وما فوق.
وأخيراً، فبعد سنوات من البحث التي أوضحت أن التدخين هو نتيجة للعزلة والشعور بالوحدة؛ تأتي تلك الدراسة لتشير إلى أنه قد يكون سبباً فيهما أيضاً؛ ما يخلق حلقة مفرغة بين كل من "التدخين"، والعزلة الاجتماعية، والشعور بالوحدة. الأمر الذي يُلقي بظلاله على أهمية دراسة العلاقة بين التدخين والصحة النفسية والحياة الاجتماعية للأفراد بشكل مُعمَّق، بجانب دراسة آثاره على الصحة البدنية.