حين يمسك طفل بفرشاة ليرسم عوالم مبتكرَة؛ يتوقّع له الكثيرون مستقبلاً باهراً، ناعتين إياه بـ "الفنان" أو "المبدع"، بينما قد لا يجدون في أخيه أو زميله الذي لا يفعل ذلك مبدعاً حقيقياً؛ حيث يعتقد البعض أن الفرد يولد إما مبدعاً أو لا، وأن ذلك الإبداع لا يمكن تنميته بالممارسة أو أن تكون له أشكال أخرى غير تلك العالقة بأذهانهم.
كذلك، فحين يسعى مدراء التوظيف لتعيين موظف؛ غالباً ما يبحثون عن مرشّح يملك أفكاراً إبداعية -من وجهة نظرهم- قد تساعد في حل المشكلات وإحداث تغيير جذري في العمل.
فهل يمكن أن تكون هذه الأفكار عن الإبداع والأشخاص المبدعين حقيقية؟ أم أن الإبداع أشمل من ذلك ويمكن تنميته بالممارسة؟
ما هو الإبداع؟
يعبِّر الإبداع عن تلك القدرة على اكتشاف أفكار وحلول مبتَكَرَة للمشكلات المختلفة، وهو الطريقة المثلى لتعزيز المرونة وخلق الفرص لتحقيق الذات - وفقاً لموقع سايكولوجي توداي.
في حين يعتقد البعض منا أنهم ليسوا مبدعين، ولا يتمتعون بتلك الموهبة؛ إلا أن الجميع لديه قدر منها مهما كان ضئيلاً، حتى إن لم يدركوا ذلك، فالحياة مليئة باللحظات الصغيرة التي تتطلب أفكاراً جديدة أو حلولاً مفاجئة، وخيارات لا يتم التفكير فيها مليّاً.
ما السمات الشخصية المرتبطة بالإبداع؟
وفقاً للخبير في علم النفس الإيجابي ميهاي تشيكسنتميهاي؛ يُجسِّد المبدعون التعقيد؛ إذ إنهم يُظهرون اتجاهات فكرية مختلفة عن الآخرين، ويوازنون بين الطاقة القوية والحادة من جهة، والراحة والهدوء من جهة أخرى، وكذلك مزج المرح بالانضباط، والخيال بالواقع.
يتميّز المبدعون أيضاً بسمة الانفتاح على التجارب والأفكار الجديدة وتقبُّلها؛ مثل لقاء أشخاص جدد أو معالجة المشاعر المختلفة أو السفر إلى وجهات جديدة. ويساعد تراكم هذه الخبرات ووجهات النظر الدماغ على تكوين روابط جديدة ومبتكَرة.
هل يمكن التدرب على الإبداع؟
في دراسة حديثة نُشرت في دورية أكاديمية نيويورك للعلوم في مارس/آذار 2022، طوَّر فريق بحثي طريقة جديدة قائمة على السرد القصصي (Project Narrative)، لتدريب الأفراد على الإبداع.
تساعد هذه الطريقة الناس على أن يكونوا مبدعين بالطريقة التي يتصرف بها الأطفال والفنانون من خلال تأليف قصص بها عوالم بديلة، وتغيير منظورهم للأشياء المختلفة، بالإضافة إلى توليد أفعال غير متوقَّعة.
يقول أنغوس فليتشر؛ مطوِّر هذه الطريقة الحديثة وأستاذ اللغة الإنجليزية وعضو في مشروع السرد بجامعة ولاية أوهايو (The Ohio State University's Project Narrative)، أن الطريقة السردية تعمل من خلال إدراك أننا جميعاً مبدعون. ويضيف أننا نقلل كثيراً من إبداع الأطفال والآخرين لأننا مهووسون بفكرة أن بعض الناس مولودون أكثر موهبةً وإبداعاً من غيرهم، ويستطرد: "لكن الحقيقة هي أننا لا ندرّبهم على الإبداع بالطريقة الصحيحة".
نجح الباحثان أنغوس فليتشر ومايك بنفينست من خلال الدراسة في استخدام النهج السردي الذي طوراه لتدريب أعضاء كلية القيادة والأركان العامة بالجيش الأميركي على الإبداع. وكتب فليتشر دليلاً تدريبياً متاحاً للجمهور بناءً على أساليبه المُصمَّمَة للضباط والمجندين المتقدمين.
عمل الباحثان أيضاً مع كلية إدارة الأعمال بجامعة شيكاغو، وكلية الهندسة بولاية أوهايو، والعديد من الشركات لتعليم الإبداع لموظفيها.
التفكير المتشعِّب لم يعد كافياً
يشير نفس الباحثَين إلى أن الأساس الحالي للتدريب على الإبداع هو التقنية المعروفة باسم "التفكير المتشعب" (Divergent Thinking)، وهي عملية التفكير أو الطريقة المستخدَمَة لتوليد الأفكار الإبداعية من خلال استكشاف العديد من الحلول الممكنة بطريقة تلقائية، تعتمد على التدفُّق الحر للأفكار.
تعمل هذه الطريقة من خلال تمارين مُصمَّمَة لتوسيع الذاكرة العاملة وتعزيز حل المشكلات باستخدام التفكير القياسي. وهذا نوع من التفكير يعتمد على إيجاد نظام مشترك بين حالتين أو نموذجين أو مجالين مختلفين، وعندما يتم العثور على الرابط المشترك بينهما ومعرفة معلومات عن أحدهما، يمكن استخدام ذلك في استنتاج معلومات جديدة عن الآخر، ومن ثم تعزيز حل المشكلات في المجالات المختلفة.
لكن تلك الطريقة قد تكون غير فعّالة بالنسبة للمجالات أو المشكلات التي لا نعلم عنها الكثير. يقول فليتشر: "ما لا تستطيع فعله هو المساعدة في إعداد الناس لمواجهة التحديات الجديدة التي لا نعرف عنها إلا القليل اليوم. لا يمكنها أن تأتي بأفعال أصلية حقاً؛ لكن آلية السرد الحديثة في الدماغ البشري تستطيع ذلك".
تقنيات الأسلوب السردي
يستخدم الأسلوب السردي للتدريب على الإبداع العديد من التقنيات التي يستخدمها الكتّاب لإنشاء القصص مثل:
- تطوير عوالم جديدة: على سبيل المثال؛ قد يُطلب من الموظفين في شركة ما التفكير في العملاء الأكثر غرابة، ثم تخيل بيئة جميع العملاء فيها على هذا النحو. كيف سيغير ذلك أعمالهم؟ ما الذي يجب عليهم فعله للاستمرار في السوق؟
- تغيير منظور رؤية الأمور: قد يُطلب من مسؤول تنفيذي في شركة ما الإجابة على مشكلة من خلال التفكير كعضو آخر في فريقه.
الحاجة إلى مزيد من الخيال
يقول فليتشر أن الهدف من استخدام هذه التقنيات وغيرها من الأساليب المشابهة، ليس أن السيناريوهات التي تحلم بها ستحدث بالفعل، أو أن تخمن المستقبل بشكل صحيح؛ بل يتعلّق الأمر بأن يكون الفرد أكثر انفتاحاً لتخيل احتمالات مختلفة جذرياً. وعند تحقيق ذلك؛ يمكنه الاستجابة بسرعة وبمزيد من المرونة للتغييرات التي تحدث.
تشير دراسة سابقة أجراها فريق بحثي من جامعات كاليفورنيا، وإدنبرة، وستانفورد، وييل إلى أن الأطفال الصغار أكثر إبداعاً من الكبار؛ لكن تلك القدرة الإبداعية تنخفض لديهم بعد أربع أو خمس سنوات من الدراسة، وذلك عندما يبدؤون تدريباً مكثّفاً على التفكير المنطقي، وتدريبات الذاكرة والبحث عن دلالات لكل شيء.
يقول فليتشر أن ذلك النهج السردي المطوَّر حديثاً يمكن أن يساعد الناس على إطلاق العنان للإبداع الذي ربما توقفوا عن استخدامه خلال سنوات الدراسة. كذلك؛ عندما تدرِّب المؤسسات موظفيها على أن يكونوا مبدعين، فلن تكون بحاجة إلى السعي لتوظيف "أشخاص مبدعين".
يوضّح فليتشر: "إن محاولة توظيف أشخاص مبدعين قد تسبب مشاكل، لأن الأشخاص الذين يعتبرهم القادة مبدعين هم دائماً أشخاص مثلهم تماماً. لذا، فهذا النهج المتَّبع في التوظيف قائم على تعزيز التوافق بدلاً عن الأصالة". ويضيف أنه من الأفضل توظيف مجموعة متنوعة من الأشخاص ثم تدريبهم ليكونوا مبدعين.
كيف يمكن للفرد أن يصبح أكثر إبداعاً؟
للإبداع فوائد نفسية مدهشة، فقد يساهم في القدرة على صنع المعنى؛ مثل إيجاد طرق للتعامل بنجاح مع التجارب السيئة السابقة مثل الصدمة أو الندم أو الحنين إلى الماضي؛ ما يساعد على إدارة الحالة المزاجية والعلاقات وحل المشكلات بشكل أفضل والنمو بعد الصدمة.
فيما يلي بعض النصائح التي قد تساعدك أن تكون أكثر إبداعاً – وفقاً لسارة كافانا؛ الأستاذة المساعدة في علم النفس ومديرة مختبر العلوم المعرفية والعاطفية في "أسمبشن كوليدج" (Assumption College) بأميركا:
- السعي نحو إنجاز الأعمال والإنتاج: غالباً ما ينتج العباقرة المبدعون أفضل أعمالهم في أوقات إنتاجهم الأكبر. قد لا تكون جميع تلك الأعمال رائعة؛ لكن كمية الإنتاج الكبيرة تجعل من المحتَمَل أن تحقق الأعمال الجيدة نجاحاً أكبر وتكون أكثر تميُّزاً.
- كن على استعداد للتعمق: غالباً ما يقضي المتميّزون وقتاً طويلاً في العزلة في مجال الإبداع الفني لاختبار المشاعر بعمق، ولا يخشون التأمُّل الذاتي.
- دوِّن أفكارك: تذكر أن تسجل الأفكار فور ظهورها حتى لا تُنسى أو تختلط بغيرها.
- تبنّي أو توظيف وجهات النظر المختلفة: قد يكون من الصعب الابتكار إذا أصبحت محاصَراً في قواعد ولغة مجال خبرتك.
- التسويف قد يكون مهماً: إذا كان لديك الدافع لحل مشكلة ما، فإن التسويف أو تركها لبعض الوقت وممارسة شيء آخر كالرياضة يمكن أن يؤدي إلى التفكير بشكل مختلف وخلق المزيد من الاحتمالات.
وختاماً؛ يرتبط الإبداع بالتطبيق الماهر للمعرفة بطرق جديدة ومثيرة والخروج من مناطق الراحة النموذجية (Comfort Zone)، والانتباه إلى اللحظة الحالية. وبالإضافة إلى المجازفة؛ يمكن لذلك أن يساعد في بناء عضلاتك الإبداعية.