“كل متوقع آت”: كيف تصنع توقعاتك واقعك؟

1 دقيقة
كل متوقع آت
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

ما تتوقعه من يومك أو من الآخرين لا يبقى مجرد فكرة عابرة، بل يتعامل معها دماغط على أنها خريطة يوجه بها حواسك وسلوكك. عندما تتوقع الخير، يفتح لك ذهنك فرصاً لملاحظته واستقباله، وعندما تتوقع السوء، يضخم الأخطاء ويقلل الإيجابيات، إذاً كيف تحول التوقع إلى قوة تعمل لصالحك؟ إلي…

هل استيقظت يوماً ولديك شعور غامض وثقيل بأن يومك سيكون سيئاً، وبالفعل، توالت عليك الأحداث المزعجة، لتنهي يومك قائلاً: "كنت أعلم أن هذا سيحدث"؟ وهل حدث العكس، حين دخلت مقابلة عمل وأنت موقن بالقبول، فتحدثت بطلاقة وثقة أدهشتك أنت شخصياً؟

هذه ليست صدفة، وليست ضرباً من السحر أو مجرد حظ، إنها آلية نفسية وعصبية دقيقة تعمل بصمت داخل رأسك. المقولة الشهيرة: "كل متوقع آت، فتوقع ما تتمنى"، ليست مجرد حكمة أدبية، بل هي حقيقة يؤيدها علم النفس الحديث وعلم الأعصاب. إن الطريقة التي تتوقع بها المستقبل لا تتنبأ به فحسب، بل تسهم في صناعته فعلياً.

في هذا المقال، نغوص في أعماق الدماغ لنفهم كيف تتحول الفكرة إلى واقع ملموس، مستندين إلى أحدث الأبحاث العلمية ورؤى الخبراء.

كيف تسير عملية التوقع داخل دماغك؟

لنتخيل الدماغ ليس على أنه كاميرا تلتقط الصور بصدق، بل باعتباره مولد توقعات، إذ إن الدماغ البشري عموماً يكره المجهول، ولذلك فهو يعمل على مدار الساعة لملء الفراغات في المعلومات التي يتلقاها.

وتشير الأبحاث الحديثة في علم الأعصاب إلى أن الدماغ لا ينتظر حدوث الأشياء ليعالجها، بل يقوم ببناء نماذج تنبؤية بناء على خبراتك السابقة، فعندما تتوقع شيئاً ما، يفرز دماغك نواقل عصبية تهيئ حواسك لاستقبال هذا الشيء تحديداً.

وحتى نفهم أكثر فإن أدمغتنا تقوم بتصفية الواقع، ببساطة إذا كنت تتوقع العداء من الناس، فإن نظام التنشيط الشبكي في دماغك سيعمل باعتباره راداراً يلتقط أي إشارة رفض بسيطة حتى لو كانت غير مقصودة ويضخمها، بينما يتجاهل الابتسامات الودودة. أنت هنا لا ترى الواقع كما هو، بل ترى الواقع كما توقعه دماغك.

هذا التوقع يغير كيمياء الدماغ أيضاً؛ فتوقع الألم يجعلك تشعر بالألم فعلياً قبل حدوث السبب، وتوقع المكافأة يطلق الدوبامين قبل الحصول عليها، ما يغير استجابتك الجسدية بالكامل.

اقرأ أيضاً: هل تريد ضبط سقف توقعاتك؟ الحل في التفكير الواقعي

لماذا تتطابق توقعاتك مع واقعك؟

هنا ننتقل من البيولوجيا إلى السلوك، إذ تسمى الظاهرة النفسية التي تفسر تطابق التوقعات مع الواقع "النبوءة ذاتية التحقق". ببساطة، هي حلقة مفرغة تبدأ بمعتقد خاطئ أو توقع، سواء كان إيجابياً أم سلبياً. يؤدي هذا التوقع إلى سلوك جديد، وهذا السلوك يجعل التوقع الأصلي يتحقق.

هذا يعني أنك إذا توقعت فشلك في الامتحان، فإن هذا التوقع سيولد لديك قلقاً وتوتراً، ما يدفعك للمماطلة في الدراسة أو عدم التركيز في أثناء الحل (السلوك)، وبالنهاية ترسب بالفعل (الواقع). هنا، لم يكن الفشل حتمياً، لكن توقعك هو الذي صنع الظروف التي أدت إليه.

وفي سياق متصل، يأتي رأي المعالج النفسي أسامة الجامع، ليلقي الضوء على فكرة "كل متوقع آت" ببراعة، إذ يؤكد أنك عندما تتوقع الأسوأ فإن جسدك يبدأ يتصرف استعداداً لحدوثه، فيصبح أكثر توتراً ويشد الجسد أكثر، والمشاعر تصبح أكثر قلقاً، على الرغم من أنه لم يحدث شيء، كل ذلك لأنك توقعت الأسوأ، فماذا لو توقعت الأجمل؟ سيستجيب جسدك أيضاً ليصبح أكثر استرخاء ومشاعرك أكثر ارتياحاً. 

اقرأ أيضاً: 5 خطوات عملية تنقلك من عقلية الندرة إلى عقلية الوفرة

4 إرشادات فعالة لتصنع واقعاً أفضل بالتوقع

إذا كانت التوقعات بهذه القوة، فكيف يمكننا استخدامها لصالحنا بدلاً من أن نكون ضحايا لها؟ إليك خارطة طريق عملية مبنية على علم النفس الإيجابي والعلاج السلوكي المعرفي:

  1. راقب السيناريو قبل عرض الفيلم: انتبه للقصص التي يرويها عقلك عن المستقبل، فعندما تقول "لن أنجح في هذا المشروع"، توقف واسأل نفسك: هل هذه حقيقة أم إنها مجرد توقع مبني على خوف؟ فمجرد مراقبة أفكارك يكسر الحلقة الأوتوماتيكية للتوقع السلبي.
  2. استخدم تقنية "كما لو": لا تنتظر أن تشعر بالثقة لتتصرف بثقة. تصرف كما لو أنك شخص واثق من نفسه، أو كما لو أنك شخص محظوظ. هذا ليس تمثيلاً، بل هو إرسال إشارات جديدة لدماغك. عندما تتصرف بتفاؤل، يتغير رد فعل الناس تجاهك، ما يخلق واقعاً إيجابياً يعزز توقعك الأول.
  3. استبدل التفكير الكارثي بالتفكير الواقعي المتفائل: بدلاً من توقع الأسوأ لحماية نفسك من الصدمة، وهي حيلة نفسية شائعة ولكنها ضارة، درب نفسك على توقع الأفضل مع الاستعداد للعقبات. التفاؤل يجعلك ترى الفرص التي يغفل عنها المتشائم.
  4. تصور المسار بأكمله: لا تكتف بتوقع النجاح، بل توقع وتخيل نفسك وأنت تتجاوز العقبات بهدوء، هذا يبني ذاكرة مستقبلية في دماغك، ما يجعلك أكثر ثباتاً عند مواجهة التحديات.

أخيراً إن عبارة "كل متوقع آت" ليست دعوة للتواكل أو انتظار المعجزات، بل هي دعوة لتحمل مسؤولية ما يدور في رؤوسنا، فواقعك الخارجي هو، إلى حد كبير، انعكاس لخرائطك الداخلية. قد لا نملك السيطرة على كل أحداث الحياة، لكننا نملك السيطرة الكاملة على العدسة التي نرى بها هذه الأحداث، والتوقعات التي نستقبلها بها.

المحتوى محمي