بينما تغرق المدينة من حولك في ظلام عميق، وتنطفئ أنوار النوافذ واحدة تلو الأخرى، تظل شاشة حاسوبك مضيئة من أجل إنهاء باقي مهام عملك، وقد يبدو لك أن البقاء في المكتب حتى وقت متأخر تصرف بطولي يعكس صورة إيجابية عن تفانيك في العمل، وإخلاصك وسعيك نحو التميز، خاصة أننا نعيش في ظل ثقافة تقدس التفاني في العمل وتراه مساوياً للقيمة الشخصية، لكن هل تعلم أن العمل الممتد إلى ساعات متأخرة يقتات ببطء على صحتك النفسية والجسدية؟ إليك من خلال هذا المقال أهم تأثيرات البقاء في العمل حتى وقت متأخر، وكيف تتوقف عن ذلك.
محتويات المقال
ماذا تعرف عن التأثيرات النفسية للبقاء في العمل حتى وقت متأخر؟
البقاء متأخراً في المكتب من حين لآخر أمر مقبول، خاصة إذا كنت تعمل مع فريقك على مشروع مشترك اقترب موعده النهائي، لكن عندما يصبح التأخير روتيناً يومياً، فقد يضر بإنتاجيتك وصحتك النفسية، وذلك على النحو التالي:
1. تدني الإنتاجية في العمل
على عكس المتوقع، فإن البقاء في العمل إلى وقت متأخر لا يزيد إنتاجيتك، لكنه يؤدي إلى تدنيها، وذلك لأن الركض المستمر والمحموم من مهمة إلى أخرى وطوال ساعات ممتدة يؤدي إلى إصابتك بالإرهاق المزمن، الذي بدوره يفاقم الشعور بالقلق والتعب والتوتر، ومع مرور الوقت، يصبح دماغك أقل قدرة على التركيز والتذكر واتخاذ القرارات المعرفية، علاوة على ذلك، سوف يؤثر البقاء في العمل إلى وقت متأخر في قدرتك على تنظيم مشاعرك، ما يجعلك أكثر عرضة للانفعال الشديد والعصبية والغضب.
اقرأ أيضاً: 7 نصائح لتستعيد توازنك النفسي في بيئة المكاتب المفتوحة
2. اضطرابات النوم
تحتاج في المتوسط إلى نحو 8 ساعات من النوم كل ليلة، بينما بقاؤك في العمل حتى وقت متأخر قد يؤثر في نومك، ومع مرور الوقت فإن قلة النوم يمكن أن تصيبك بالاكتئاب وتؤثر تأثيراً سلبياً في صحتك النفسية، وفي هذا السياق، تشرح الطبيبة النفسية، شارمان إيستمان، أن الساعة البيولوجية للجسم هي بمثابة منبه يحدد موعد إفراز الهرمونات، ويتحكم في المزاج واليقظة ودرجة حرارة الجسم وجوانب أخرى من دورة الجسم اليومية.
وتضيف إيستمان أن الجسد البشري مبرمج بالأساس على العمل خلال النهار، والراحة ليلاً، ولكن إذا عملت حتى وقت متأخر سوف تتأثر ساعتك البيولوجية، ما يفاقم أعراض القلق والتوتر، ويضعف قدراتك الإدراكية ويجعلك أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الجسدية الخطيرة مثل داء السكري من النوع الثاني، والنوبات القلبية، والسكتات الدماغية وأمراض القلب.
3. زيادة خطر الإصابة بالاكتئاب
كشفت دراسة بحثية نشرتها دورية بلوس ون خلال عام 2024 أنك قد تصبح أكثر عرضة للاكتئاب وتدهور الصحة الجسدية في منتصف العمر نتيجة العمل إلى وقت متأخر من الليل، إضافة إلى جداول العمل غير المنتظمة في مرحلة الشباب. وأكدت الدراسة أن الاكتئاب عادة ما يحدث نتيجة التأخر في العمل بسبب قلة النوم وعادات تناول الطعام غير الصحي.
4. انعدام التوازن بين العمل والحياة الشخصية
تسهم ساعات العمل الطويلة في انعدام التوازن بين العمل والحياة الشخصية، والحقيقة أن هذا الأمر يؤدي إلى تفاقم مشاعر القلق والتوتر، كما أنه يؤثر سلباً في علاقاتك الاجتماعية سواء مع أفراد أسرتك أو أصدقائك، وعلى الجانب الآخر، فإن عدم حصولك على القسط الكافي من الراحة يرهق جهازك العصبي. على سبيل المثال، حين تغادر عملك في الوقت المحدد، ثمة إشارات ترسل إلى جسمك ومخك مفادها أن بإمكانك الراحة الآن، أما حين تظل تعمل إلى وقت متأخر فسوف تعيش حالة من اليقظة المفرطة ما يستنزف قدراتك المعرفية والعاطفية.
5. تدهور صحتك الجسدية
بالإضافة إلى تدهور صحتك النفسية وقدراتك المعرفية، فإن البقاء إلى وقت متأخر في العمل يمكن أن يسبب أيضاً تدهور صحتك الجسدية، وذلك لأن الجلوس وقتاً طويلاً على المكتب يسبب آلام الظهر ومشاكل العمود الفقري والسمنة، علاوة على ذلك، فإن الموظفين الذين يعملون ساعات أطول هم أكثر عرضة لمشاكل تتعلق بالنظر وذلك بسبب التحديق وقتاً طويلاً في الشاشات.
كيف تتوقف عن البقاء في العمل حتى وقت متأخر؟
في ظل بيئة العمل سريعة التطور اليوم، أضحى البقاء في المكتب حتى وقت متأخر ميزة يتسم بها الموظفون المثاليون، ولكن صدقني هناك ثمن باهظ تدفعه من صحتك النفسية والجسدية مقابل ذلك، ومن ثم، احرص جيداً على أداء عملك بكفاءة وفي الوقت نفسه، لا تتأخر بعد المواعيد الرسمية، ويمكنك تحقيق هذه المعادلة، عبر اتباع النصائح والاستراتيجيات التالية:
1. ابدأ يومك مقرراً المغادرة في وقت انتهاء الدوام
قد يبدو لك هذا الأمر بديهياً، فكلنا نبدأ العمل ونحن ننوي الانتهاء على الموعد المحدد، ولكن صدقني الأمر ليس كذلك؛ أحياناً تبدأ عملك ثم تنساق مع مجرى اليوم مشتتاً نفسك بين الكثير من المهام الصغيرة، ثم فجأة ينتهي اليوم وما زال أمامك الكثير من العمل الذي يجب إنجازه، أما لو قررت في بداية اليوم أنك ستنهي مهامك جميعها قبل موعد الانصراف، وقتها سوف تتصرف بطريقة مختلفة، ولهذا ذكر نفسك كل صباح بضرورة الانتهاء من عملك في الموعد؛ يمكنك على سبيل المثال، وضع منبه على هاتفك، وتذكيرات بسيطة على مدار اليوم تنبهك من أجل إنهاء المهام بسرعة وفعالية.
2. حضر قائمة مهامك مسبقاً
بعد أن تقرر المغادرة في الموعد المحدد، ركز على تحضير قائمة مهامك في الليلة السابقة للعمل، ثم ابدأ يومك بخطة واضحة، مع تدوين أهم أولوياتك، وأنجز المهام العاجلة أولاً، واترك المهام الصغيرة إلى وقت لاحق، وتذكر أن قائمة المهام توفر الوقت، وتحافظ على تنظيمك، حيث إن هذه العادة البسيطة من أكثر الطرق فعالية لزيادة الإنتاجية والالتزام بالمواعيد النهائية، وبناء عادات عمل صحية لتقليل ساعات العمل الإضافية.
اقرأ أيضاً: كيف يمكن أن يصيبك تفانيك الزائد في العمل بالاكتئاب والتوتر؟
3. قلل مصادر التشتيت
يمكن لتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وتفقد البريد الإلكتروني، والإشعارات المستمرة أن تسرق ساعات من يومك دون أن تدري، لهذا حدد أكبر مصادر التشتيت لديك وحاول التعامل معها. على سبيل المثال، أغلق هاتفك، أو عطل الإشعارات، أو انتقل إلى منطقة هادئة؛ فكلما قلت المقاطعات التي تواجهها، أصبح من الأسهل مغادرة العمل في الوقت المحدد.
4. ضع خططاً لقضاء الوقت بعد العمل
امنح نفسك سبباً للخروج من المكتب في موعد المغادرة المحدد؛ يمكن أن يكون ذلك السبب عشاء مع الأصدقاء، أو جلسة تمارين رياضية، أو وقتاً عائلياً أو سهرة سينمائية بصحبة أحد أفراد العائلة، أو أي شيء آخر. وتأكد من أن تخطيط الأنشطة يحفزك على إنهاء العمل بحلول الوقت المحدد والالتزام بروتينك اليومي، علاوة على ذلك، فإن الانخراط في هذه الأنشطة يحسن حالتك المزاجية، ويضع حدوداً طبيعية ما يصعب عليك البقاء في المكتب حتى ساعات متأخرة.
5. تفاوض مع مديرك بشأن أعباء العمل
أحياناً قد تتأخر في عملك ساعات طويلة، ليس بسبب عوامل التشتيت أو سوء إدارة الوقت، ولكنك تتأخر لأنك مثقل بالمهام التي يجب إنجازها في أقرب وقت ممكن، وفي هذه الحالة، أنت تحتاج للتحدث إلى مديرك عن إعادة توزيع المهام، وإذا كنت الوحيد في المؤسسة الذي يمتلك مهارة معينة، فاعرض تدريب شخص آخر، بالإضافة إلى ذلك، يمكنك التحدث عن ترتيبات العمل المرنة، أو أن تكون مواعيد تسليم المهام نفسها ذات طبيعة مرنة.
6. استخدم تطبيقات الإنتاجية لإدارة الوقت بكفاءة
مع توفر مجموعة واسعة من تطبيقات الإنتاجية، أصبحت إدارة وقتك أسهل من أي وقت مضى، حيث تتيح لك تطبيقات مثل تريلو تنظيم المهام وتحديد المواعيد النهائية وتتبع التقدم بكفاءة، ومن خلال تصور عبء عملك، يمكنك إدارة وقتك بطريقة أفضل وتجنب الاندفاع في اللحظات الأخيرة الذي يؤدي إلى البقاء لساعات متأخرة، وإلى جانب ذلك، يمكنك استخدام تطبيقات تتبع الوقت من أجل فهم أنماط عملك، ومن ثم إجراء تعديلات فعالة على جدولك اليومي، ما يضمن تركيزك على المهام الكبرى خلال ساعات العمل.
ما هي الأسباب التي قد تدفعك إلى البقاء في العمل حتى وقت متأخر؟
تعتقد بعض الشركات أن بقاء الموظفين حتى وقت متأخر يعني المزيد من العمل والإنتاجية، والحقيقة أن هناك الكثير من الأسباب التي قد تدفعك إلى البقاء في المكتب حتى وقت متأخر، منها على سبيل المثال:
1. الشعور بالذنب بسبب عدم اكتمال العمل
يعد الشعور بالذنب من أكثر الأسباب شيوعاً للبقاء متأخراً في العمل؛ فالإحساس المزعج بأنك لم تنجز كل ما يجب إنجازه قد يبقيك ملازماً مكتبك حتى وقت متأخر، والحقيقة أن مهام العمل لا تنتهي، وسيكون دوماً هناك المزيد لإنهائه، وهذه هي طبيعة العمل بدوام كامل، ومن الضروري أن تدرك متى تنجز ما يكفي من العمل لهذا اليوم، ولهذا حول طريقة تفكيرك للتركيز على ما أنجزته خلال اليوم بدلاً من التفكير فيما تبقى، وفي هذه الحالة، يمكنك تخفيف الشعور بالذنب والتوقف عن إرهاق نفسك.
2. الخوف من تراكم المهام
يعمل بعض الأشخاص إلى أوقات متأخرة خوفاً من تراكم مهام العمل حتى اليوم التالي، لهذا يفضلون البقاء في المكتب من أجل إنجازها، وعلى الجانب الآخر، قد يعتقد هؤلاء الأشخاص أن بقاءهم في العمل وإنجاز مهامهم أولاً بأول يثبت للإدارة التنفيذية وللمدير المسؤول أنهم يحبون عملهم حقاً.
3. تجنب مسؤوليات المنزل
أحياناً قد تمكث في العمل حتى وقت متأخر لأنك ترغب في تجنب مسؤوليات المنزل، مثل إعداد العشاء لأفراد أسرتك، أو المساعدة على الواجبات المنزلية، أو التنظيف، ويمكن القول إن تحديات الحياة المنزلية تعد مرهقة، وفي بعض الأوقات، يوفر البقاء في العمل فترة أطول متنفساً ملائماً، وعلى الرغم من ذلك، فإن بقاءك في العمل يعتبر حلاً مؤقتاً لمشكلة أعمق بكثير، حيث إن تجنب مسؤوليات البيت يفاقم مشاعر القلق والتوتر ويؤثر بالسلب في تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية.
اقرأ أيضاً: هل إدمان العمل خيار صحي للتأقلم مع ضغوط الحياة؟
4. السعي المفرط إلى الكمالية
بينما تعد الرغبة في إنتاج عمل عالي الجودة أمراً جيداً، فإن سعيك إلى الكمالية قد يؤدي إلى الإفراط في العمل، حيث يقضي الكماليون وقتاً طويلاً جداً في ضبط التفاصيل الصغيرة والتي قد لا تؤثر تأثيراً جوهرياً في النتيجة النهائية، لهذا إذا كنت شخصاً كمالياً خصص وقتاً محدداً لكل مهمة ولا تتجاوزه مهما حدث، بعدها انتقل إلى المهمة التالية في قائمتك دون الانغماس في تفاصيل غير ضرورية.
وفي هذا السياق، يوضح الطبيب النفسي، إبراهيم حمدي، أن الشخصية التي تتسم بالسعي إلى الكمال والخوف من ارتكاب الأخطاء، تزيد فرص إصابتها بالقلق والتوتر، وعلى الرغم من أن هذه السمة قد تكون دافعاً للإنجاز، فإنها تؤدي إلى إجهاد نفسي شديد.
5. كثرة المشتتات
من الأسباب الشائعة الأخرى التي تدفعك للعمل حتى ساعات متأخرة هي كثرة عوامل التشتيت من حولك، سواء كانت رسائل بريد إلكتروني مستمرة، أو إشعارات هاتفك التي لا تتوقف عن الرنين، أو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، والحقيقة أن هذه المقاطعات المستمرة تمنع التركيز على العمل، وتؤدي إلى استغراق المهام وقتاً أطول من اللازم، وعندما تتأثر الإنتاجية على مدار اليوم، قد تشعر بأنه لا خيار أمامك سوى البقاء إلى وقت متأخر لإنهاء العمل.
6. زيادة إمكانية الوصول
هذا السبب يخص الأشخاص الذين يعملون عن بعد، ففي الكثير من الأحيان يواجه أصحاب العمل من المنزل تحديات كبرى تجعلهم ينجزون عملهم حتى وقت متأخر من الليل، ومن أهم هذه التحديات، زيادة إمكانية الوصول. على سبيل المثال، يستطيع مديرك في العمل أن يرسل لك رسالة في وقت متأخر يطلب منك إجراء تعديلات عاجلة، ما يعني أن استخدام الإنترنت، والهواتف المحمولة، والبريد الإلكتروني قد زاد ساعات العمل، لأنه حتى في العطلات، يتوقع منك العمل!
7. التوقعات غير الواقعية
يعمل الكثير من الأفراد إلى ساعات متأخرة لأنهم يضعون لأنفسهم توقعات غير واقعية؛ سواءً كان ذلك محاولة إنجاز الكثير من المهام في يوم واحد، أم السعي لتحقيق معايير عالية بطريقة غير معقولة. ويمكن القول إن هذا الضغط قد يؤدي إلى الإفراط في العمل، ومن ثم إصابتك بالاحتراق النفسي.