كيف تصمد أمام ضغوط العمل وتحمي صحتك النفسية من الانهيار؟

5 دقيقة
ضغوط العمل
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

ربما ليس غريباً على أحد مقدار الضغط النفسي الذي يمكن أن يسببه العمل، لكن بالإضافة إلى أن الضغوط الفورية والمواقف الصعبة في العمل قد تثير استجابة توتر حادة (قصيرة الأمد)، فإن الضغوط المستمرة، مثل ساعات العمل الطويلة والمواعيد النهائية الضيقة والخلافات الشخصية، قد تتطور إلى توتر مزمن طويل الأمد في حال لم تدر بحكمة. هذا الإجهاد المستمر قد يؤثر سلباً في الجهاز المناعي والقدرات المعرفية وتنظيم الانفعالات.

ومع مرور الوقت، قد يتجلى هذا التأثير التراكمي لضغوط العمل في الانهيار النفسي؛ الذي لا يعد تشخيصاً طبياً في حد ذاته؛ إنما أزمة تصيب الصحة النفسية تتسم بالعديد من الأعراض التي لا يستهان بها، منها الإرهاق الشديد، وصعوبة التركيز والعمل بفعالية، وفقدان الاهتمام بالأنشطة المفضلة، وتفادي اللقاءات العائلية أو مع الأصدقاء، وغيرها.

فما هو الأساس العصبي وراء هذا الانهيار النفسي المرتبط بالعمل؟ وما السبيل للتعامل مع ضغوط العمل بنجاح دون معاناة هذا الانهيار؟ إليك ما تحتاج معرفته.

اقرأ أيضاً: كيف تحافظ على راحتك النفسية عندما تعمل من المنزل؟

استجابة "الكر أو الفر": عندما يدق ضغط العمل ناقوس الخطر دون توقف

قد لا يمثل انتهاء موعد تسليم العمل خطراً على الحياة مثلما هو الحال عند مواجهة نمر متوحش في الغابة، إلا أن كليهما يثيران في الجسم التغيرات الهرمونية والاستجابات الجسدية ذاتها تقريباً! فعندما تشعر بالتوتر في العمل، مثل اقتراب الموعد النهائي للتسليم أو الخوف من خسارة الوظيفة أو ما شابه، فإن دماغك يعتبر هذا الضغط تهديداً.

وما يحدث في المواقف المرهقة وحالات التهديد، سواء الحقيقية أم المتصورة، هو أن اللوزة الدماغية، التي تسهم في معالجة المشاعر وخاصة الخوف، ترسل إشارة استغاثة إلى الوطاء الذي يتواصل مع بقية الجسم عبر الجهاز العصبي اللاإرادي.

ينشط الوطاء في البداية الجهاز العصبي الودي، وهو أحد مكوني الجهاز العصبي اللاإرادي، الذي يوجه الغدد الكظرية بسرعة لإفراز الأدرينالين؛ الذي يسهم بدوره في تنشيط استجابات فيزيولوجية فائقة السرعة، مثل تسارع معدل ضربات القلب والتنفس وتوتر العضلات والتعرق، من أجل تهيئة الجسم للتحرك الفوري لمواجهة مسبب التوتر أو الهروب منه.

يطلق على هذه المجموعة من ردود الفعل اسم استجابة "الكر أو الفر"، وهي آلية تطورية مصممة للنجاة في مواجهة المواقف التي تهدد الحياة. وبعد انحسار موجة الأدرينالين الأولية، يسارع الوطاء، في حال استمر الدماغ في إدراك وجود الخطر، إلى تنشيط الجزء الثاني من نظام الاستجابة للتوتر، ألا وهو محور الوطاء - الكظر، الذي يتكون من الوطاء والغدة النخامية والغدد الكظرية.

يعتمد هذا المحور على سلسلة من الإشارات الهرمونية للإبقاء على الجهاز العصبي الودي منشطاً، حيث يسهم في تحفيز إفراز الكورتيزول الذي يبقي الجسم في حالة تأهب قصوى. وعندما يزول الخطر، تنخفض مستويات الكورتيزول، ويتولى الجهاز العصبي الباراسمبثاوي، وهو المكون الآخر من الجهاز العصبي اللاإرادي، تهدئة الجسم وتخفيف استجابة الجسم التوتر.

الآن، وعلى الرغم من أهمية هذه الهرمونات في المواقف العصبية، فإن التوتر المزمن منخفض المستوى يبقي محور الوطاء-الكظر نشطاً بصورة مزمنة، ما يؤدي إلى ارتفاع مستمر في مستويات هرمونات التوتر.

يمكن لهذا الاختلال الهرموني المطول أن يتلف الأوعية الدموية والشرايين، ما يؤدي إلى تفاقم خطر الإصابة بضغط الدم المرتفع والنوبات القلبية والسكتات الدماغية، ويزيد تراكم الأنسجة الدهنية وخطر السمنة، كما يضعف قدرة الجهاز العصبي المركزي على تنظيم العواطف والوظائف الإدراكية، ما يزيد قابلية الإصابة بمشكلات الصحة النفسية، مثل الإرهاق والقلق الشديد والاكتئاب.

اقرأ أيضاً: تفريغ مشاعرك السلبية في العمل يعزز علاقتك بزملائك

5 نصائح تساعدك على إدارة ضغوط العمل دون أن تنهار نفسياً

بعد فهم كيفية تأثير ضغط العمل في الجهاز العصبي، يمكن الآن التركيز على تطبيق استراتيجيات استباقية لكسر دائرة التوتر ومنع وصوله إلى مرحلة الانهيار النفسي. وإليك أهم هذه النصائح:

1. حدد مسببات التوتر وخففها

الخطوة الحاسمة الأولى هي تحديد مسببات التوتر في بيئة عملك. غالباً ما تشمل الأسباب الشائعة متطلبات العمل المفرطة، أو المواعيد النهائية غير الواقعية، أو انعدام الأمن الوظيفي، أو بيئة العمل السامة، أو نقص الدعم والمساعدة من الزملاء والمشرفين، أو ربما أسباب شخصية تتعلق بالقدرة على التأقلم والسمات الشخصية.

من ثم، وبعد تحديد المحفزات، عليك اتخاذ إجراءات استباقية لتخفيفها. على سبيل المثال، تأكد من أن حجم العمل يتناسب مع قدراتك وطاقتك، ونظم مهامك حسب الأولوية، وتعلم تفويض المهام عند الحاجة، وضع حدوداً واقعية مثل الحد من التواصل المتعلق بالعمل خارج ساعات العمل المحددة. كما يمكن للتواصل بصراحة مع المدراء حول قدراتك وتحدياتك أن يساعد على إدارة التوقعات وتقليل الشعور بالإرهاق.

اقرأ أيضاً: 5 ممارسات صغيرة تحدث فرقاً كبيراً في هدوئك وسعادتك

2. استخدم تقنيات إدارة التوتر

استخدم تقنيات تستهدف الجهاز العصبي مباشرة لتعزيز الاسترخاء والتعافي. يمكن لبعض الممارسات، مثل اليقظة الذهنية والتأمل وتمارين التنفس البطني العميق واليوغا والتركيز على كلمة مهدئة أو تصور مشاهد مهدئة، أن تنشط الجهاز العصبي الباراسمبثاوي الذي يعمل على موازنة استجابة الكر أو الفر ويعزز الاسترخاء والهدوء.

وقد ثبت أن الممارسة اليومية لهذه الأساليب تقلل التوتر وتعزز الانتباه والتنظيم العاطفي وتحسن الصحة النفسية والجسدية عموماً.

3. أعط الأولوية للعناية بالذات وتحقيق التوازن بين العمل والحياة

العناية بالنفس ليست ترفاً، بل ضرورة للوقاية من الانهيار النفسي، كما يعد وضع حدود واضحة بين العمل والحياة الشخصية واحترامها أمراً أساسياً. وإليك أهم النصائح لتحقيق ذلك:

  • جدول فترات راحة قصيرة ومتكررة خلال العمل: تحسن فترات الراحة المنتظمة الحالة المزاجية والانتباه والقدرة على التكيف مع الضغوط. وأفضل الاستراحات هي الأنشطة التي تساعدك على الانفصال ذهنياً عن العمل، مثل تمارين الاسترخاء أو أحلام اليقظة أو الدردشة مع زميل أو المشي في الطبيعة أو غيرها مما يناسبك.

الجدير بالذكر أن عدد مرات الاستراحات وطبيعتها يختلف من شخص لآخر ومن وظيفة لأخرى، لكن عموماً يمكن أن تكون 3-5 دقائق كل 30 دقيقة، واستراحات أطول مدة 10-15 دقيقة مرتين خلال النهار. 

  • تحرك: حاول ممارسة ما لا يقل عن 150 دقيقة من التمارين الرياضية المعتدلة أسبوعياً أو 75 دقيقة من التمارين الهوائية الشديدة أسبوعياً. يمكنك المشي أو ممارسة اليوغا أو الرقص أو أي نشاط بدني تستمتع به. إذ تساعد الرياضة بأي نوع من أنواعها على تخفيف الضغوط النفسية وتعزيز إفراز الإندروفين الذي يعزز الشعور بالسعادة.
  • احرص على أن تنال قسطاً كافياً من النوم: لا تتعامل مع النوم باستهتار، فهو أساسي لتعافي الذهن والجسم، كما يحسن التركيز والتنظيم العاطفي وإدارة الآثار الجسدية والنفسية للتوتر بصورة أفضل. لذا احرص على النوم 7-9 ساعات ليلاً. وتذكر أن تتبع نظاماً غذائياً صحياً ومتوازناً، فالطعام يؤثر في الصحة النفسية أكثر مما تتصور. يمكنك قراءة المزيد عن هذه العلاقة بين الطعام والاكتئاب في هذا المقال
  • افعل ما تستمتع به: انخرط في الهوايات أو الأنشطة الترفيهية بانتظام، فحتى 20 دقيقة أسبوعياً تستطيع تقليل الإرهاق.
  • أدر وقتك بحكمة: حدد وقت بدء العمل وانتهائه، والتزم به. يقول استشاري العلاج والتأهيل النفسي، علي عبد الراضي، إن من أهم ما يحمي السلامة النفسية هو الابتعاد عما يؤذيها، وهذا لا يعني تجنب العمل بالطبع، إنما فصل العمل عن الحياة، أي أن تبقى مشكلات العمل في العمل وألا تنتقل إلى الحياة الشخصية. 
  • ابتعد عن الاتصال بالإنترنت بعد العمل: تجنب رسائل البريد الإلكتروني أو مهام العمل في أثناء وقتك الشخصي. فقد تبين أن الإنسان الذي ينفصل نفسياً عن عمله خلال ساعات فراغه يكون أكثر رضا عن حياته، ويعاني ضغطاً نفسياً أقل ممن لا ينفصل عن العمل خلال ساعات فراغه.
  • قل لا عند الحاجة: لا ترهق نفسك بالمهام التي لا تستطيع تنفيذها، كن صادقاً مع نفسك واجعل صحتك أولوية.
  • استرح قبل الانهيار: لا تنتظر حتى تشعر بالإرهاق لتأخذ إجازة؛ بل خذ فترات راحة منتظمة.

اقرأ أيضاً: حتى في أسوأ أيامك: 5 خطوات تستعيد فيها اتزانك النفسي

4. اعمل على تقوية شبكات الدعم وادع إلى التغيير

ثق بالزملاء أو الأصدقاء أو أفراد العائلة الأسوياء نفسياً، وفقاً للمعالج علي عبد الراضي، وأخبرهم عن مشكلاتك واطلب دعمهم، وتجنب إفراغ هذا الضغط عليهم. يمكن للدعم الاجتماعي أن يعزز القدرة على تحمل الضغوط والأزمات عبر توفير الدعم العاطفي وتقديم وجهات نظر بديلة وتعزيز الشعور بالانتماء، علاوة على أن التواصل الاجتماعي يحد من مخاطر الاكتئاب والقلق.

ولكن على الرغم من أنك تستطيع إدارة بعض التغييرات اللازمة لتقليل التوتر في العمل بنفسك، فإن بعض التغييرات الأخرى تحتاج إلى تعاون الآخرين. لذا، ادع إلى إجراء تغييرات تنظيمية في مكان العمل، مثل زيادة مرونة ساعات العمل، أو تعديل أعباء العمل بصورة معقولة، أو التدريب على إدارة الضغوط.

5. راقب العلامات التحذيرية واطلب المساعدة المهنية

احرص على تقييم صحتك النفسية بانتظام وانتبه إلى العلامات والأعراض الجسدية والنفسية والسلوكية التي تشير إلى الإصابة بالضغط النفسي الناجم عن العمل، مثل:

  • تعب مستمر.
  • شد عضلي.
  • صداع.
  • خفقان القلب.
  • صعوبات النوم والأرق.
  • اضطرابات الجهاز الهضمي مثل الإسهال أو الإمساك.
  • اضطرابات جلدية.
  • أعراض تحاكي الاكتئاب أو القلق. 
  • إحباط.
  • سرعة الانفعال.
  • تشاؤم.
  • الشعور بالإرهاق وعدم القدرة على التأقلم.
  • صعوبة القدرة على التركيز أو اتخاذ القرارات.
  • انخفاض الإبداع والمبادرة.
  • انخفاض في أداء العمل.
  • مشكلات في العلاقات الشخصية.
  • تقلبات المزاج.
  • قلة الاهتمام.

إذا شعرت باستمرار بأن ضغط العمل لا يطاق، أو إذا كانت الأعراض تؤثر بدرجة كبيرة في أداء مهامك اليومية، فلا تتردد في استشارة مختص الصحة النفسية؛ إذ يمكن للمختص أن يساعدك على فهم أعراضك وتقديم المساعدة التي تحتاجها.

المحتوى محمي