تخيل أنك تقف في السوبر ماركت وتفكر في الاختيار بين نوعين من القهوة؛ قد تختار الأفضل مذاقاً، أو إذا كنت ترغب في التوفير، فستختار الأقل سعراً. يمكن أن تظن أن هذا الأمر بسيطاً، ولكن داخل هذه العملية التي تبدو غير مهمة، تختبئ شبكة من العمليات العصبية والدماغية المعقدة، حيث كشفت دراسة بحثية حديثة نشرتها مجلة علم الأعصاب في أبريل/نيسان 2025 أن هناك مناطق محددة في الدماغ تسهم في اتخاذ القرارات الاقتصادية، فما هي تلك المناطق، وكيف يتخذ دماغك أفضل قراراتك الاقتصادية؟ الإجابة عبر هذا المقال.
محتويات المقال
كيف يتخذ دماغك أفضل القرارات الاقتصادية؟
ألقت الدراسة البحثية السابق ذكرها الضوء على كيفية اتخاذ الدماغ البشري قرارات اقتصادية، خاصة تلك التي تشمل المخاطرة أو المكافأة، حيث سجل الباحثون نشاطاً كهربائياً في مناطق دماغية محددة مثل القشرة الجبهية، وقد راقبت الدراسة نشاط الدماغ البشري مباشرة بدقة مكانية وزمانية عالية، وذلك باستخدام بيانات جمعت من مرضى يخضعون لجراحة الأعصاب من أجل علاج الصرع.
ويشرح المؤلف الرئيسي للدراسة، إغناسيو سايز، أن البشر يتخذون قرارات يومية باستمرار، والتي عادة ما تتراوح بين البسيطة والمعقدة، وعلى الرغم من ذلك، حتى أسهل القرارات، مثل اختيار طعام الغداء، يتطلب نشاطاً منسقاً لمناطق كبيرة من الدماغ.
وقد شارك في هذه الدراسة مجموعة من مرضى الصرع المقاوم للأدوية، زرعت لهم أقطاب كهربائية في أجزاء مختلفة من أدمغتهم للمساعدة في تحديد منشأ النوبات، وفي أثناء مراقبتهم بعد الجراحة، أكمل المشاركون مهمة اقتصادية بسيطة؛ حيث طلب منهم الاختيار بين مكافأة مالية مضمونة، أو مكافأة محتملة ولكنها تتطلب مغامرة أكبر مع احتمالية متغيرة.
استخدم الباحثون تخطيط كهربية الدماغ داخل الجمجمة، ثم سجلوا إشارات كهربائية من أكثر من 1,000 قطب كهربائي وضعت في مناطق الدماغ المرتبطة باتخاذ القرار، بما في ذلك القشرة الجبهية، والمناطق الحركية والجدارية، والهياكل الحوفية العميقة مثل اللوزة الدماغية والحصين، وبعدها درسوا التغيرات في نشاط الدماغ عبر مجموعة من نطاقات التردد، بدءاً من التذبذبات البطيئة وصولاً إلى النشاط عالي التردد.
وصنف الفريق المناطق المرصودة إلى 3 دوائر وظيفية واسعة: الفص الجبهي، والفص الجبهي الجداري، والفص الحوفي، وأظهرت النتائج أن كل دائرة وظيفية تركز على مكونات معرفية مختلفة لعملية اتخاذ القرار، ما يعني أن الدماغ البشري يتخذ القرارات الاقتصادية من خلال مناطق المخ جميعها، وهذه العملية لا تحدث في وحدات معزولة، بل من خلال تداخل المناطق جميعها في عملية جمع المعلومات وتنسيقها.
ويؤكد المؤلف إغناسيو سايز أن الخلاصة الأساسية من الدراسة هي أن دماغك بأكمله يصبح نشطاً عند اتخاذ قرار اقتصادي، بدءاً من مناطق الدماغ العميقة والتطورية مثل اللوزة الدماغية ووصولاً إلى المناطق الأخرى مثل القشرة الجبهية، ويضيف سايز أن الدراسة أثبتت أن صنع القرار الاقتصادي عملية موزعة للغاية، ولا تعتمد بصورة فريدة على منطقة دماغية واحدة أو بضع مناطق.
ويوضح سايز أن هناك بعض القيود فيما يخص نتائج الدراسة لأنها اعتمدت بالأساس على مشاركين مصابين بالصرع، وعلى الرغم من أن المهمة المطلوبة منهم لم تكن لها علاقة بالنوبات، فإن تركيبة دماغهم ربما تختلف عن شكل الدماغ عند باقي الأشخاص.
اقرأ أيضاً: ما هو رهاب اتخاذ القرارات؟ وكيف تتغلب عليه؟
بجانب الدماغ: ما هي العوامل الأخرى التي تؤثر في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية؟
يؤكد الخبير الاقتصادي، جورج لوينشتاين، أن علماء النفس يرون أن البشر عرضة للوقوع في الخطأ، وهم مدمرون لذواتهم أحياناً، بينما يعتقد الاقتصاديون أن البشر عقلانيون تماماً، وعلى درجة عالية من الكفاءة لأنهم يسعون إلى تحقيق مصلحتهم الذاتية، ومن هنا برز مجال علم الاقتصاد العصبي الذي يشرح كيفية استجابة الدماغ لعملية صنع القرار، ولهذا يجب فهم بنية الدماغ ووظيفته، فإلى جانب ما يعرفه معظم الناس عن الوظائف العامة للدماغ مثل: الذاكرة والتوازن والإدراك والعواطف، هناك كيفية حدوث عملية صنع القرار في الدماغ، بدءاً من خيارات الشراء البسيطة ووصولاً إلى الاستثمارات المالية الضخمة.
وثمة نظرية شهيرة في مجال الاقتصاد العصبي تسمى "نظرية التنبؤ بخطأ المكافأة" التي تشرح كيفية تفاعل الدماغ عندما تفشل توقعاتك أو تنجح؛ وترتكز هذه النظرية على فكرة أنك إذا توقعت ربحاً من الاستثمار، ولكن لم تحصل عليه، فإن الدماغ يرسل إشارة سلبية، وعلى العكس من ذلك، عندما تتلقى مكافأة، يطلق الدماغ كمية كبيرة من الدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالمتعة والمكافأة- ما يحفزك على اتخاذ قرارات أكثر خطورة أو عاطفية، مثل شراء سلع فاخرة على الرغم من قلة المال، أو مطاردة سوق الأسهم بمخاطر عالية.
وإلى جانب ذلك، هناك بعض العوامل الأخرى التي تؤدي دوراً في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية، مثل:
1. العوامل العاطفية
غالباً ما تتأثر القرارات بالعواطف بدلاً من المنطق، ويمكن القول إن العواطف والمشاعر تؤدي دوراً مهماً في صنع القرار الاقتصادي، في كثير من الأوقات يؤدي هذا التأثير العاطفي إلى خيارات قد لا تتوافق مع ظروفك الاقتصادية، ما يعني أنك لا تتخذ سلوكاً عقلانياً.
على سبيل المثال، قرر أحد أقاربي دفع مبلغ مالي كبير من أجل الاستثمار، ولكن تبين أنه تعرض للنصب والخديعة في ظاهرة تعرف إعلامياً باسم "المستريح"، وهو رجل يستدرج الناس عبر تقديم الوعود بأنه سوف يستثمر أموالهم بعوائد مرتفعة للغاية، إذ أخبرني أنه أقدم على ذلك لأنه كان مهووساً بفكرة تأمين مستقبل أطفاله الصغار، وفي هذا السياق، يحذر الطبيب النفسي، عاصم العقيل، من فكرة الهوس بالأمان المالي لأنها مجرد وهم وسراب، ويمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالقلق والاكتئاب.
2. التأثيرات الاجتماعية
قد تتأثر قراراتك الاقتصادية بالمعايير الاجتماعية وضغوط الأقران؛ إذ غالباً ما يتشكل صنع القرار الفردي الاقتصادي بالسياق الاجتماعي، بما في ذلك المعايير الثقافية، والتوقعات المجتمعية، ويمكن أن تؤدي هذه التأثيرات إلى اتخاذ قرارات تعطي الأولوية للتوافق أو القبول الاجتماعي على حساب المنفعة الشخصية.
3. التحيزات المعرفية
يمكن أن تؤدي الأخطاء المنهجية في التفكير إلى اتخاذ قرارات اقتصادية غير عقلانية؛ فالبشر عرضة لمختلف التحيزات المعرفية، مثل تحيز التأكيد؛ وهو ميل معرفي إلى انتقاء المعلومات التي تؤكد معتقداتك وافتراضاتك، أو تأثير الترسيخ؛ الذي يعرف بأنه ميلك إلى اتخاذ القرارات بعد أول معلومة تتلقاها، ويمكن القول إن هذه التحيزات المعرفية تشوه بصورة ممنهجة أحكامك، وعمليات اتخاذ القرارات، وغالباً ما تفضي إلى خيارات غير صحيحة من الناحية الاقتصادية.
اقرأ أيضاً: الانحيازات السلوكية: ماذا تفعل تجاه العيوب التي تشوب طريقتك في التفكير؟
4. البحث عن الحلول المرضية
كثيراً ما يسعى الأشخاص إلى حلول مرضية بدلاً من الحلول المثلى. على سبيل المثال، حين تتخذ خياراً اقتصادياً وعوضاً عن البحث المستفيض حول أفضل خيار ممكن، قد تكتفي بشراء ما هو جيد فقط، ويعرف هذا النهج بالإرضاء، وهو استجابة عملية لتعقيدات الوقت وقيوده في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية في العالم الواقعي.
4 إرشادات عملية ستساعدك على اتخاذ أفضل القرارات الاقتصادية
سأكون صادقة معكم، كنت أظن طوال الوقت أن الاقتصاد هو مجال تهيمن عليه الرسوم البيانية المعقدة، والمعادلات، والنظريات المالية. ولكن كلفتني محاولات تجنبه والابتعاد عنه الكثير، وخاصة أنه يدخل في نسيج الحياة اليومية؛ فمعظم القرارات التي تتخذها على مدار يومك، وسنوات حياتك هي قرارات اقتصادية، على سبيل المثال تعد الميزانية من أبرز الطرق التي يشكل بها الاقتصاد القرارات اليومية، وإليك أهم النصائح والإرشادات التي يمكن أن تساعدك على اتخاذ القرارات الاقتصادية:
1. ابدأ بوضع الميزانية
دون كل ما تنفقه شهرياً، بما في ذلك المشتريات الصغيرة، بعد ذلك، سجل دخلك، سيساعدك هذا التدوين على التحكم بصورة أكبر في شؤونك المالية، وبالتالي تنظيم إنفاقك ومدخراتك، ومع مرور الوقت ستمتلك وعياً أفضل بعادات الإنفاق لديك، وستتمكن من تتبع أهدافك المالية وتحقيقها بطريقة فعالة، دون المساس بأسلوب حياتك.
2. ادخر أولاً، ثم أنفق لاحقاً
من المهم ادخار جزء من دخلك الشهري أولاً، ثم البدء بإنفاق أموالك، هناك فقط بعض الضروريات التي يجب تغطيتها شهرياً؛ مثل البقالة، والإيجار، والكهرباء وسداد القروض، وهذه الاستراتيجية تضمن استعدادك لأي طارئ مستقبلي، كما تؤدي إلى الابتعاد عن فرط الإنفاق، وتجاوز الميزانية التي سبق أن وضعتها.
3. حدد أهدافاً مالية
إن تحديد هدف مالي يسمح لك بتجنب الإفراط في الإنفاق؛ لذا، خطط لما تريد فعله بأموالك على المدى القصير والطويل، ومن أهم الأهداف المالية طويلة المدى، شراء منزل أحلامك، وتعليم طفلك. وتذكر دائماً أن تضع أهدافاً واقعية بجداول زمنية محددة لأن ذلك سيساعدك على البقاء متحمساً، ويضمن إنفاق أموالك بكفاءة.
اقرأ أيضاً: معضلة جيل زد: الكثير من المال والقليل من راحة البال!
4. قلل بعض النفقات اليومية
النفقات الصغيرة اليومية تتراكم وتصبح مبلغاً كبيراً في نهاية الشهر، لذلك حاول تقليلها قدر المستطاع، على سبيل المثال، هل يمكنك الاستغناء عن بعض وجبات الطعام الجاهزة؟ هل فكرت في إعداد القهوة في المنزل عوضاً عن شرائها من الخارج؟ الحقيقة هي أن إجراء تغييرات صغيرة على عادات الإنفاق اليومية يمكن أن يساعدك حقاً على توفير المال، شيئاً فشيئاً.