أنا مشغول إذاً أنا مهم! كيف نتخلص من هذه الأسطورة المؤذية؟

8 دقائق
الانشغال المفرط
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

"أنا مشغول جداً، "لم أنل عطلة منذ أشهر"، "لم يتسنَّ لديّ الوقت لتناول الطعام هذا اليوم"، "لدي عمل من الصباح حتى منتصف الليل". لا يقول البعض هذه العبارات بدافع الإحباط أو نيل التعاطف، بل يقولونها بفخر واعتزاز، كما لو كان الإرهاق وضغط العمل والمبالغة في الالتزامات أمور تُثير الإعجاب وترفع من شأنهم.

وربما يصح القول إن التفاخر بالانشغال قد تفاقم إلى درجة غدا فيها وقت الفراغ تهمة عند البعض، فإن كنت تنعم بوقت فراغ، فأنت كسول أو غير متحمس أو لا تبذل جهداً كافياً في حياتك! فلماذا أصبح الانشغال المفرط سمة مميزة في هذا العصر؟ ما الذي يحرّك الناس نحو إنجاز المزيد طوال الوقت؟ والأهم من ذلك، ما هو تأثيره في الصحة النفسية؟ وكيف يمكن الخروج من هذه الدوامة واستعادة الوقت والسلام النفسي؟ إليك التفاصيل.

اقرأ أيضاً: الانشغال الدائم: متى يتحول إلى سلوك ضار بالصحة النفسية؟

لماذا قد نتفاخر بانشغالنا؟

وجدت دراسة منشورة في مجلة أبحاث المستهلك (Journal of Consumer Research)، أن تحوّلاً ثقافياً قد طرأ في النظرة إلى النجاح والمكانة الاجتماعية في بعض المجتمعات الحديثة؛ فسابقاً كانت الممتلكات المادية، من سيارات وملابس فاخرة وسلع، هي الدلالة الرئيسية على المكانة الاجتماعية.

أمّا الآن، فقد أصبح الانشغال الدائم وقلة وقت الفراغ مؤشرَين على المكانة الاجتماعية الرفيعة. أيّ لم يعد الجدول الزمني المزدحم مجرد دليل على العمل الجاد، بل أصبح دليلاً على أن الشخص كفؤ وطموح وصاحب مهارات ومواهب مطلوبة بشدة في سوق العمل.

ولربما دفع هذا التحول الثقافي الإنسان إلى الإفراط في العمل أو التظاهر بالانشغال من أجل كسب القبول أو تقدير الذات. فقد يساوي بين كونه مشغولاً وبين أهميته وحاجة الآخرين إليه، وهو ما قد يعزّز احترامه لذاته.

لكن ليس كلُّ انشغالٍ مرتبطاً بالمكانة أو تقدير الذات. فبالنسبة للبعض، يُعدّ الانشغال الدائم وسيلة لصرف انتباههم عما يدور في أنفسهم من مشاعر مؤلمة أو مشكلات خاصة، من حزن أو قلق أو وحدة أو غياب الشعور بالهوية والانتماء؛ أي يصبح هذا النوع من الانشغال آلية للتكيف، ووسيلة لتجنب الانزعاج.

اقرأ أيضاً: انشغالك الدائم ربما يدل على هروبك من مشاعرك المؤلمة، فكيف تواجهه؟ 

وثمة أمر آخر أيضاً قد يدفع البعض إلى إرهاق جداولهم بالمهام، ألَا وهو الخوف من تفويت الفرص أو العلاقات أو الإنجازات. ففي عصر التغيير السريع والمقارنات المستمرة على وسائل التواصل الاجتماعي، تجتاح البعض فكرة أن الراحة تعني التخلف عن الركب. وكلما قارنوا أنفسهم مع الآخرين، شعروا بوجوب أن يفعلوا أكثر. وكلما فعلوا أكثر، شعروا بالحاجة إلى إظهار ما يفعلونه!

ما هو تأثير الانشغال الدائم في الصحة النفسية؟

قد يكون للانشغال اليومي آثارٌ إيجابية في بعض الأحيان؛ إذ وجدت دراسة منشورة في دورية الحدود علم أعصاب الشيخوخة (Frontiers in Aging Neuroscience) عام 2022، أن أسلوب الحياة المزدحم في سن متقدمة يحقق العديد من الفوائد المعرفية لكبار السن، مثل تحسين كل من الذاكرة وحل المشكلات وفهم المعلومات الجديدة واستخدامها.

لكن ومع ذلك، غالباً ما يؤثّر الانشغال الدائم سلباً في الصحة النفسية والعاطفية والجسدية. لماذا؟ لأن تمجيد الانشغال المستمر والتشجيع عليه يدفع الشخص إلى إرهاق نفسه بالالتزامات والمسؤوليات، وهو ما قد يُصيبه بالتوتر والإرهاق والإحباط والغضب واليأس والوحدة.

كما وعندما لا يستطيع الوفاء بهذه الالتزامات، فقد يشعر بالذنب أو تدني احترام الذات نتيجة خذلان نفسه أو الآخرين، وقد يُسهم هذا الضغط النفسي المزمن مع مرور الوقت بالإصابة باضطرابات نفسية خطيرة مثل الاكتئاب أو القلق.

أما جسدياً، فقد يؤدي الانشغال المستمر إلى قلة النوم أو إهمال ممارسة الرياضة أو تجاهل المشكلات الصحية. كما يمكن أن يسبب أو يفاقم آلام العضلات أو الصداع أو الأرق أو التعب أو ضعف الجهاز المناعي أو مشكلات الجهاز الهضمي أو مشكلات القلب والأوعية الدموية.

وعلى صعيد العلاقات الإنسانية، تقلّل الجداول المتخمة بالمهام الوقت الهادف مع الآخرين وتسبب الشعور بالعزلة والوحدة، وقد تؤثّر سلباً في الشركاء وأفراد العائلة؛ إذ يشعرون بالإحباط والغضب من قلة وجود أحبائهم المشغولين.

اقرأ أيضاً: كيف تمنح دماغك استراحة من ضغوط الحياة؟ 

من التباهي بالانشغال إلى التوازن: 6 نصائح لاستعادة سلامك النفسي

لكل شخص منظوره الخاص عن معنى الانشغال الزائد، لكنه يغدو مشكلة فعلاً حينما يؤثّر سلباً في الصحة النفسية أو الجسدية، أو يضرّ بالعلاقات مع الآخرين، أو يسبب خللاً في التوازن ما بين العمل والحياة الشخصية. ولا بُدّ حينها من اتباع بعض النصائح للتغلب على هذه المشكلة واستعادة التوازن، وإليك أهمها:

  1. افهم السبب وراء انشغالك: تأمل قليلاً في جدولك المزدحم، هل ترى انشغالك دليل على قيمتك أم أنك تلجأ إليه وسيلة لتخدير ما تشعر به من وحدة أو خوف أو خجل مثلاً؟ كُنْ صادقاً مع نفسك، واعمل على بناء قيمتك الذاتية التي تنبثق عن شخصيتك، وليس عما تستطيع تقديمه أو فعله فقط. أمّا إذا كانت فكرة الراحة لا تُطاق، فقد يُشير ذلك إلى مشكلات أعمق، ومن المفيد هنا أن تستشير مختص في الصحة النفسية لاستكشاف الأسباب الجذرية وحلها.
  2. فرِّق بين الانشغال والإنتاجية: فالإنتاجية هي العمل نحو أهداف ونتائج واضحة؛ أي ترتكز على التركيز والتخطيط وتحديد الأولويات، أي تتعلق بما يُنجز حقاً. أمّا الانشغال وكثرة المهام فلا تعني بالضرورة استغلال الوقت بكفاءة، إنما ملء الفراغ. لذا، اسأل نفسك: "هل تُضيف هذه المهمة قيمة حقيقية إلى يومك أم أنك تشغل وقتك فحسب؟"، تذكّر أن السعي الدائم وراء المهام دون تحقيق نتائج ملموسة يسبب القلق والشك الذاتي والإحباط.

اقرأ أيضاً: لماذا نشعر بتسارع الوقت كلما كبرنا؟ وكيف نتعامل مع هذا الشعور؟

  1. أعِد بناء علاقتك بالحاضر: تُعدّ اليقظة الذهنية أداة فعّالة لكسر دائرة الانشغال المزمن، إذ تساعد على تهدئة ذهنك المتخبط والتواصل مع احتياجاتك الداخلية.
  2. ضع حدوداً دون الشعور بالذنب: قد تلجأ إلى الإفراط في الالتزامات خوفاً من أن تخيّب آمال الآخرين، لكن ذلك لن يمنع إصابتك بالإرهاق العاطفي أو غيره من السلبيات آنفة الذكر. لذا تعلم أن تضع حدوداً مع الآخرين، وأن تقول لا للمهام التي تثقل كاهلك. تذكّر أن رفض مشروع أو دعوة لا يقلل كفاءتك، بل يزيد وعيك بذاتك.
  3. جدوِل وقتاً للراحة: علاج الانشغال ليس الكسل، إنما استعادة الحق في الراحة، فالراحة ليست مكافأة، بل هي شرط أساسي للمرونة العاطفية والجسدية. لذا جدوِل وقتاً مناسباً للتوقف عن العمل عمداً وأعطِه أهمية لا تقل عن أهمية وقت العمل، سواء كان استراحات قصيرة خلال النهار أو اجازات وعطلات مريحة.
  4. تجنَّب فخاخ المقارنة: يؤكد الخبير الاجتماعي والتربوي، جاسم المطوع، أنك حين تقارن نفسك بالآخرين، فأنت تهين نفسك. قارن نفسك بنفسك، واحرص على أن تكون أفضل من نفسك. تذكّر أن ما تراه على مواقع التواصل الاجتماعي يُنقّى بعناية. فمجرد أن يبدو شخصٌ ما مشغولاً جداً لا يعني بالضرورة أنه ناجح، أو ربما يكون كذلك، لكن هذا لا يعني أنك غير ناجح إن لم تكن بمستوى انشغاله. ركّز على حياتك وإيقاعك الخاص، وليس على لقطات قصيرة لشخص آخر على وسائل التواصل الاجتماعي.
  5. لا تهمل علاقاتك الاجتماعية: حتى في زحمة الحياة وخضم أعمالها ومهامها، عليك دائماً تخصيص الوقت للأحبة والأصدقاء وممارسة الأنشطة الممتعة معهم. فالحياة تنتهي والعمل لن ينتهي، مثلما يقال.

المحتوى محمي