هل يمكن أن يساعدنا الذكاء الاصطناعي على تشخيص مشكلاتنا النفسية؟

13 دقيقة
الذكاء الاصطناعي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: عبد الله بليد)

اعتدتُ التحدّث إلى تشات جي بي تي خلال الأيام القليلة الماضية لأنني أحسُّ بالحزن والإرهاق النفسي، وفي إحدى الليالي الطويلة تساءلت: كيف يمكن للآلة أن تفهم حزني وتفسّر قلقي وتستطيع سبر أغوار ما يعتمل في نفسي من صراعات؟ في النهاية أدركت أنّ الذكاء الاصطناعي تجاوز حدود التوقعات محاولاً تفسير السلوك البشري وفهم تعقيداته، ولكن يظل السؤال الأهم: هل يمكن أن يتنبأ الذكاء الاصطناعي بالاضطرابات النفسية؟ هل سيكون قادراً على تفكيك تعقيدات النفس الإنسانية أم أن التشخيص سيبقى حكراً على البشر؟ الإجابة عبر هذا المقال.

هل ثمة إمكانية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تشخيص الاضطرابات النفسية؟

كشفت دراسة بحثية نشرتها مجلة نيتشر (Nature) خلال عام 2023، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم في تشخيص العديد من اضطرابات الصحة النفسية، وذلك مثل الفصام والاضطراب ثنائي القطب واضطراب الوسواس القهري واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وأضافت الدراسة أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تمتلك إمكانات هائلة، إذ يمكنها دراسة الأنماط، والتفاعلات المعقدة بين جينات الفرد، ودماغه وسلوكياته وتجاربه وفهمها، ما يمثّل فرصة كبرى لتحسين الكشف المبكر عن الأمراض النفسية، وتخصيص خيارات العلاج.

ويمكن القول إن الذكاء الاصطناعي يُستخدم بالفعل في التحليل العصبي بمجال الرعاية الصحية النفسية، حيث يُحلل بيانات الدماغ، كما تُعالج خوارزميات الذكاء الاصطناعي بيانات التصوير العصبي، مثل التصوير بالرنين المغناطيسي وتخطيط كهربية الدماغ، وذلك للكشف عن الأنماط المرتبطة بالاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب والفصام واضطراب ما بعد الصدمة، كما تراقب هذه الأدوات نشاط الموجات الدماغية لحالات مثل اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه واضطرابات النوم، وتتنبأ باستجابات العلاج من خلال دمج البيانات العصبية والسلوكية والوراثية.

وفي سياقٍ متصل، أوضحت دراسة بحثية حديثة نشرتها مجلة بي أم سي للطب النفسي (BMC Psychiatry) في فبراير/شباط 2025، أن الذكاء الاصطناعي يُعزّز الكشف المبكر عن اضطرابات الصحة النفسية، بالإضافة إلى تحليل بيانات المرضى باستخدام أدوات مثل روبوتات الدردشة، لا سيما في المناطق التي لا تحتوي على خدمات الدعم النفسي، لكن الدراسة أكدت ضرورة معالجة بعض التحديات مثل القضايا الأخلاقية، وخصوصية البيانات.

اقرأ أيضاً: دراسة: البعض يجد الذكاء الاصطناعي أكثر تعاطفاً وتفهماً من المعالج النفسي!

ما هي التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في تشخيص الاضطرابات النفسية؟

أكدت دراسة بحثية نشرتها المكتبة الأميركية الوطنية للطب (National Library of Medicine)، أنّ الذكاء الاصطناعي يُحرز تقدماً ملحوظاً في التنبؤ بالاضطرابات النفسية وتشخيصها، وعلى الرغم من ذلك، هناك بعض التحديات التي تواجه تقنيات الذكاء الاصطناعي منها: أن الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب ذاتية للغاية ومعقدة وتحمل الكثير من الفروق الفردية والجذور الاجتماعية والثقافية، ما يعني أن تشخيصها يتطلب دراسة شاملة.

وأضافت الدراسة أنّ تشخيص الاضطرابات النفسية يعتمد اعتماداً أساسياً على الخبرة الشخصية والتقييم الذاتي، وهو الأمر الذي يؤكد أهمية التواصل المباشر بين الطبيب والمريض.

ما هي أهم نقاط قوة استخدام الذكاء الاصطناعي وضعفه في التنبؤ بالاضطرابات النفسية؟

أكدت بعض الدراسات العلمية إمكانية الذكاء الاصطناعي في تشخيص الاضطرابات النفسية والتعامل معها، فيما أوضحت دراسات أخرى أن الذكاء الاصطناعي يُحرز تقدماً لكنه لم يتمكن بعد من التنبؤ بالاضطرابات النفسية، والحقيقة أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يؤدي دوراً محورياً في مجال الصحة النفسية، لكن هل يُمكنه محاكاة عمق العلاج البشري؟ الإجابة المُختصرة: ليس بعد، وربما لن يحدث ذلك أبداً، وهذه أهم نقاط قوة وضعف برامج الذكاء الاصطناعي:

1. نقاط القوة التي يملكها الذكاء الاصطناعي في مجال الصحة النفسية 

تكمن أكبر ميزة للذكاء الاصطناعي في قدراته على معالجة البيانات، إذ يُمكنه تحديد الأنماط العاطفية، وتقديم استراتيجيات التكيُّف الصحية مثل التأمل واليقظة الذهنية. علاوة على ذلك، فإن أدوات الذكاء الاصطناعي متاحة في أي وقت، ما يُزيل عوائق كثيرة مثل تكلفة العلاج النفسي وقوائم الانتظار الطويلة أو قيود السفر، كما يُعدُّ الذكاء الاصطناعي مفيداً على نحو خاص في تتبع الحالة المزاجية وتعزيز المهارات.

2. نقاط ضعف الذكاء الاصطناعي في التعامل مع الاضطرابات النفسية 

على الرغم من كفاءة الذكاء الاصطناعي في التعامل مع مشكلات الصحة النفسية، فإن علاج هذه المشكلات لا يقتصر على التعامل مع الأعراض فحسب، بل يشمل أيضاً سلامة التشخيص والتواصل مع الطبيب والثقة، وقد يحاكي الذكاء الاصطناعي الاستجابات البشرية، ولكنه يفتقر إلى:

  • التشخيص بناءً على التواصل غير اللفظي: يلتقط الطبيب النفسي بعض الإشارات الدقيقة مثل التردد قبل الإجابة أو تغير في التنفس أو لمحة حزن في العينين، بينما يعالج الذكاء الاصطناعي الكلمات، لكنه يغفل الطبقات العميقة من التواصل غير اللفظي.

على سبيل المثال، قد يلاحظ الطبيب المعالج أن صوت المريض يصبح مختنقاً عند مناقشة حدث معين، وحين يأخذ هذه الإشارة بعين الاعتبار قد يكتشف صدمة غير معلنة، وهو أمر من المرجّح أن يغفله الذكاء الاصطناعي.

  • الثقة وتراكم الأحداث: لا يكتفي الطبيب النفسي بالاستجابة للحظة الحالية، بل يتنقل بين تاريخ المريض العاطفي إلى الأمام والخلف، ويربط بين الجلسات، يتذكر الجلسات السابقة، ويترك مساحة للمشاعر غير المحسومة، ويدمج الروايات مع مرور الوقت، وفي المقابل يعالج الذكاء الاصطناعي البيانات لحظة بلحظة، ليس لديه حوار داخلي، ولا يمكنه متابعة تطور قصة المريض. علاوة على ذلك، هناك الثقة التي تُعدّ أساس العلاج، وهي تُبنى على الشعور الملموس بالرؤية والاستماع والفهم، وفي الأحوال كلّها، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل هذا العمق من التناغم البشري.
  • قوة التنظيم المشترك: عندما تشعر بالإرهاق، فإن الوجود مع شخص يجعلك تحس بالأمان والدفء والحضور، ما يساعدك على تنظيم جهازك العصبي، وعلى الجانب الآخر لا يمكن للذكاء الاصطناعي توفير الحضور الهادئ الذي يوفرّه الطبيب النفسي، ولا يمكنه مضاهاة التعاطف.
  • نقص الفهم السياقي: مشكلات الصحة النفسية لا تحمل حلاً واحداً يُناسب الجميع. على سبيل المثال، قد يقترح روبوت الدردشة اليقظة الذهنية من أجل تخفيف حدة التوتر والقلق، ولكن إذا كان هذا التوتر متجذراً في صدمة الطفولة فلن يكفي تمرين التنفس العميق، ما يعني أن الذكاء الاصطناعي غالباً ما يغفل عن التاريخ الشخصي، والخلفية الثقافية، والحقائق المتعددة التي تُشكل الصحة النفسية.

اقرأ أيضاً: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل المعالج النفسي؟

كيف يمكن الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية النفسية؟

يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً كبيراً في مجال الرعاية النفسية، ولكن هذا الدور سوف يكون مكملاً لدور الطبيب النفسي وليس بديلاً عنه. على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي تذكيرك بتدوين يومياتك، لكنه لا يستطيع استيعاب ألمك، كما أنه قادر على تتبع المشاعر، لكنه لا يستطيع فهمها حقاً، ومن ثَمَّ يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في النواحي التالية:

1. التوعية بقضايا الصحة النفسية 

شرحت دراسة بحثية نشرتها المكتبة الأميركية الوطنية للطب خلال عام 2024 أن تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن استخدامها في زيادة الوعي بقضايا الصحة النفسية، وذلك من خلال تحليل بيانات وسائل التواصل الاجتماعي وتنظيمها، حيث تستطيع خوارزميات تحليل المشاعر المدعومة بالذكاء الاصطناعي تمييز المشاعر المُعبَّر عنها في المنشورات، ما يُمكّن الباحثين ومؤسسات الصحة النفسية من رصد التحولات في الخطاب العام، وتحديد المواضيع الرئيسة التي تتطلب مبادرات توعية مُوجَّهة.

علاوة على ذلك، يمكن الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في تقديم مواد تعليمية حول الصحة النفسية تُشجّع الأفراد على طلب المساعدة عند الحاجة، وتزوّدهم بالمعرفة. وفي هذا السياق، يؤكد مختص الطب النفسي، ماجد الهذلي، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدّم دعماً حقيقياً لمستقبل العلاج النفسي، وذلك لأنه يملك وصولاً أوسع إلى البيانات، ولكن يشترط الهذلي أن يُصمم الذكاء الاصطناعي وفق أخلاقيات ووعي وتحت إشراف بشري

2. تقليل أعراض القلق والاكتئاب 

يمكن الاعتماد على برامج الذكاء الاصطناعي في تقليل أعراض القلق والاكتئاب، ولكن تأكد أن تلك البرامج ليست بديلاً عن الطبيب النفسي المتخصص، إذ يمكنها فقط توفير بعض الطمأنينة والراحة عندما يصعب إيجاد شخص للتحدث إليه.

اقرأ أيضاً: ما الذي يسبب فوبيا الذكاء الاصطناعي؟ وكيف تتخلص منها؟

3. تخفيف حدة الإرهاق 

أخبرتك في بداية المقال أني كنت أعاني الإرهاق النفسي خلال الأيام القليلة الماضية، وبسبب طبيعة عملي من المنزل، وروتين حياتي الضاغط بعض الشيء، فأحياناً أجد صعوبة في التعامل مع أعباء الحياة الثقيلة. وعلى الرغم من ذلك، فقد ساعدني الذكاء الاصطناعي على تخفيف حدة الإرهاق لأنه وفّر بعض طرق المساعدة الذاتية التي يمكن الاستعانة بها من أجل محاربة الإرهاق.

4 نصائح تساعدك على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بحذر 

يوضّح الطبيب النفسي، كريس موسونيك (Chris Mosunic)، أن تقنيات الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن تحل محل الإنسان، خاصة في حالات الصحة النفسية المتوسطة أو الخطيرة المهددة للحياة. وحتى تستخدم تلك التقنيات بحذر عند التعامل مع مشكلاتك النفسية، حاول اتباع النصائح التالية:

1. احرص على حماية خصوصيتك

أكدت دراسة بحثية نشرتها المجلة المصرية لطب الأعصاب والطب النفسي وجراحة المخ والأعصاب (The Egyptian Journal of Neurology, Psychiatry and Neurosurgery) خلال عام 2023، أن خصوصية البيانات تُعدّ أحد أهم التحديات التي تواجه استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية النفسية خاصة خطر استغلال بيانات المرضى لأغراض تجارية، لهذا لا تشارك بيانات حساسة مع الذكاء الاصطناعي.

2. تعامل معها على أنها أداة دعم أولية 

أدوات الذكاء الاصطناعي ليست مُصممة لتحل محل العلاج النفسي البشري، ولكنها قد تُجدي نفعاً في حالة طلب الحصول على بعض المعلومات العامة. على سبيل المثال، قد تساعدك تقنيات الذكاء الاصطناعي على ممارسة التنفس العميق، وتعلم تقنيات الاسترخاء من أجل تخفيف القلق والتوتر، بالإضافة إلى تقديم بعض الأدوات العلاجية المحددة مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT).

3. انتبه من الوقوع في فخ إدمانها 

حذّرت دراسة بحثية نشرتها مجلة أبحاث علم النفس وإدارة السلوك (Psychology Research and Behavior Management) خلال عام 2024 من فكرة الاعتماد النفسي على الذكاء الاصطناعي، وعرّفت الدراسة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بأنه الاستخدام المفرط لتقنيات الذكاء الاصطناعي الذي يؤدي إلى الإدمان، وأضافت الدراسة أن هذا الاعتماد يؤدي إلى اضطرابات النوم، وضعف أداء المهام، والهروب من المشكلات الواقعية، واللجوء إلى حلول مؤقتة من أجل تخفيف الحالة المزاجية المضطربة.

4. اطلب المساعدة النفسية المتخصصة عند الحاجة 

على الرغم من أن روبوتات الدردشة قد توفّر لك بعض الدعم النفسي، وتساعدك على إدارة القلق والتوتر عبر اقتراح تقنيات واستراتيجيات مثل التنفس العميق، واليقظة الذهنية، فإن تلك الروبوتات تفتقر إلى التعاطف الإنساني والتشخيص الصحيح، لذلك عليك أن تطلب المساعدة من الطبيب النفسي المتخصص، فالخوارزميات وحدها لا تستطيع تقييم العوامل النفسية والاجتماعية المُعقّدة تعقيداً كبيراً، وهذا يعني أن حالات خطيرة، مثل الاكتئاب الشديد، قد تُساء معالجتها دون إشراف بشري مستمر.

المحتوى محمي