ما تفسير البكاء من منظور علم النفس؟

6 دقائق
تفسير البكاء

بينما كُشف النقاب عن الآلية الفيزيولوجية للبكاء، فإن تفسير البكاء من منظور علم النفس لا يزال مجهولاً بالنسبة لنا؛ لماذا نبكي؟ سنحاول في السطور القادمة توضيح هذا الموضوع استناداً إلى أحدث الفرضيات التي تتناوله.
سواء كنا رجالاً أو نساءً أو أطفالاً؛ كلنا نبكي عند الشعور بالحزن والألم، وحتى أننا نذرف الدموع عندما نضحك بشدة أيضاً. نبكي أحياناً حتى خلال قضاء الأوقات الممتعة؛ كما حصل مع كثيرين من محبي فيلم "تيتانيك"؛ إذ جعلتهم مؤثراته الخاصة، وملحمته الرومانسية يذرفون الدموع في كل مرة يشاهدونه فيها. إذاً، هل نبكي عندما نشعر بعاطفة ما؟ الأمر ليس بهذه البساطة. إذا كان لغز الآلية الفيزيولوجية لذرف الدموع قد حُلّ منذ فترة طويلة، فإن علماء الاجتماع وعلماء الأعراق والمعالجين والمؤرخين لا يزالون يتساءلون عن تفسير البكاء من منظور علم النفس. في كتابه الأخير؛ "البكاء، التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع" (Crying, the Natural and Cultural History of Tears)؛ جمع توم لوتز؛ أستاذ الأدب في الولايات المتحدة الأميركية ما توصلت إليه أحدث الدراسات حول هذا الموضوع.

الهدوء الذي يلي العاصفة

"ابكِ بحرقة فذلك سيكون مفيداً لك" نعم ولكن كيف؟ ليست الدموع نفسها هي التي تعمل كبلسم لآلامنا؛ إنما عملية التنفيس الانفعالي على طريقة العلاج بالبكاء البدائي؛ التي ابتكرها آرثر جانوف؛ إذ يقود أسلوب التنفس "الصعب" هذا المريض للعودة إلى مراحل سابقة من حياته قد تصل إلى مرحلة الولادة؛ ما يساعده على استعادة معاناته الأولى. كما يوضح الطبيب النفسي الأميركي ألكسندر لوين؛ مبتكر العلاج بالطاقة الحيوية، وهو أسلوب علاجي يعيد للفرد توازنه من خلال مساعدته على إطلاق طاقته الحيوية؛ أن البكاء يحرر الجسد من توتراته، ويُجنّب الفرد دوامة القلق والاكتئاب الجهنمية.

نظرية ربما لم تكن لتُرضي فرويد؛ إذ شكك المحلل النفسي بجدية في مدى التأثير الفعلي للبكاء –المنسوب له منذ زمن الإغريق والرومان- في المساعدة على التنفيس الانفعالي وتحرير النفس. بالنسبة له؛ يشير البكاء إلى أن المرء قد استعاد ذكرى حدث صادم جداً؛ لكن التعبير عن هذا الحدث بالكلام هو فقط ما سيكون له دور علاجي. يُوصف البكاء أحياناً بأنه عديم الفائدة، وأن لا دور له في بقائنا، فعندما نخاف على سبيل المثال؛ يصرف البكاء انتباهنا عن الاستجابة لآليات الحماية الذاتية مثل الفر. ومع ذلك؛ بحسب دراسة أجراها الكاتب والخبير الديموغرافي؛ وليام فراي، فإن 85% من النساء و73% من الرجال يعتقدون أن للبكاء أثراً مهدئاً.

وقد يكمن تفسير ذلك في عمل الجهاز العصبي. فالجهاز العصبي اللاودّي هو المسؤول عن استعادة الهدوء بعد تراكم التوتر في الجسم؛ كما أنه يحفز إفراز الدموع في الوقت نفسه. لذلك، حتى إن لم يكن البكاء سبباً مباشراً في تهدئتنا، فإنه يرافق الارتياح الذي نشعر به.

البكاء في الاحتفالات الدينية والمآتم

من عادات شعب الماوري، وهم سكان نيوزيلندا الأصليون؛ أنه عندما يلتقي صديقان مجدداً بعد فراق طويل، فإنهما يجلسان ويبكيان معاً، فهل يعود ذلك إلى حرارة التلاقي بينهما؟ ربما؛ لكن البكاء لدى شعب الماوري هو تعبير عن احترام قواعدهم الثقافية، وتكريم لأولئك الذين فارقوا الحياة خلال الفترة التي افترق فيها الأحباء.

قد يكون للبكاء أيضاً وظيفة ثقافية بحتة حيث لا تكون العاطفة هي السائدة بالضرورة. في حفلات التخرج؛ تشهد دموع الأحباء على الاعتراف بالأدوار الجديدة التي سيؤديها الشباب في المجتمع. ولكن كلما كان المجتمع فردانياً (كما هو الحال في البلدان الأنجلوسكسونية)، اتسمت العاطفة بخصوصيتها، ونُظر إلى ضبط النفس على أنه سلوك محمود. ونستحضر مثالاً هنا وهو حالة جاكي كندي التي امتنعت عن ذرف دمعة واحدة في جنازة زوجها؛ ما منحها مكانة "البطلة الأسطورية" في أميركا. فلو نقلنا السيناريو ذاته إلى بلد تُطلَق فيه الأحكام بطريقة مجتمعية، لكان من شأن ذلك أن يجعلها وحشاً بلا قلب.

بكاء الطفل كتنبيه للوالدين

في حين يتلقى الوالدان دموع طفلهما الأولى بكل سرور، فإن بكاءه فيما بعد سيكون مصدر هلع، وشعور بالقلق والعجز الكبير لهما؛ إذ تقلق الأمهات على وجه الخصوص من عدم قدرتهن على فهم سبب بكاء أطفالهن. تروي بولا إلبيرت؛ طبيبة الأطفال في نيويورك هذه التجربة: "خلال أحد المؤتمرات في الولايات المتحدة الأميركية؛ استمع أطباء الأطفال إلى تسجيلات صوتية تحتوي على جميع الأنماط المحتملة لبكاء الأطفال، ولم يتمكن أي منهم من فهم ما يطلبه الرضيع من خلال بكائه".

كثيراً ما ننسب بكاء الرُضّع الشديد إلى "مغص الرُضّع" أو إلى مشكلة معوية، أو مِعَدية، أو هرمونية أو سلوكية؛ حتى أننا نلقي باللوم على الوالدين اللذين قد ينقلان التوتر الذي يشعران به إلى الرضيع، لذا؛ تنصح بعض مجموعات الدعم على الإنترنت الآباء المنهكين بالبكاء للتخفيف من إرهاقهم. عادةً ما تختفي نوبات مغص الرضع في عمر الـ 3 أشهر، ومع نمو الطفل يصبح بكاؤه أقل تواتراً ولكن أعلى نبرةً. يوضح علماء الأنثروبولوجيا إن الطفل يهدف ببكائه إلى إبقاء الوالدين يقظَين؛ خاصةً في الليل، وهو أمر متأصل في جيناتنا باعتباره نذير خطر.

ما دور استجابة الوالدين لبكاء الطفل في إيقافه؟

هناك عدة نظريات متناقضة حول ذلك. عند شعب الدوغون في مالي؛ يُضرب الشخص المسؤول عن الطفل إذا عجز عن إسكاته عندما يبكي. من جهة أخرى؛ أثبتت دراسة أجراها معهد التربية بجامعة لندن على الأطفال الإنجليز والهنود؛ أن الأطفال الهنود حتى الذين تحتضنهم أمهاتهم لوقت طويل بمجرد شعورهم بالنعاس؛ يبكون بقدر أطفال الأنجلو-ساكسون؛ كما أن نوبات البكاء الشديد كانت تحدث لدى الفئتين في أوقات متماثلة من الليل والنهار؛ ما يرفع المسؤولية عن الأبوين بهذا الشأن.

بيل يبكي وهيلاري لا تفعل

حاول الباحثون الأميركيون قياس كمية الدموع التي ننتجها وتحديد مدى تواتر ذلك؛ عبر مطالبة مجموعة من الأفراد ممن واجهوا الصعوبات نفسها بتدوين يومياتهم. كان الرجال مترددين في الإجابة؛ بينما كان جميع الأفراد غير متأكدين بشأن ما يعتبرونه "دموعاً حقيقية". ومع ذلك فقد أظهرت التجربة بعض الثوابت؛ بما في ذلك تأثير العمر في تواتر إنتاج الدموع؛ إذ ينخفض بنسبة 40% في سن 65 و70% في سن 80، كما يبلغ البكاء ذروته بين الساعة 7 و10 مساءً، وتبكي النساء أكثر بـ 5 مرات من الرجال.

وتبدو هذه الأرقام بعيدةً كل البعد عن الحال في السياسة؛ حيث تنعكس هذه النسبة. على سبيل المثال؛ كنا نعلم جميعاً العام الماضب أن هيلاري كلينتون قد تقضي على سباقها إلى مجلس الشيوخ إذا سمحت لنفسها بأدنى انحراف عن سلوكها "الرواقي". من ناحية أخرى؛ عُرف عن بيل كلينتون مشاركة آلام مواطنيه علناً مع كل مأساة كانت تهز الولايات المتحدة، وهي طريقة لإعطاء صورة إنسانية صادقة عن نفسه؛ تجعله أقرب إلى ناخبيه الأساسيين. ومع ذلك، فإن دموع النساء (التي شبهها وليم شكسبير بالأسلحة) هي التي يُنظر إليها على أنها وسيلة للتلاعب بالآخرين.

أثبت مختصا علم الاجتماع الأميركيان؛ سارة أولمان وريموند نايت؛ أنه بخلاف إثارة تعاطف الآخرين، فإنه يمكن للبكاء على العكس من ذلك أن يحفّز سلوكهم العنيف بصورة أكبر في بعض الأحيان. من خلال دراسة تقارير الشرطة المتعلقة بحالات الاغتصاب؛ وجد المختصان أن المهاجمين قد تسببوا لضحاياهم الذين بكوا بإصابات أكثر خطورة.

بدلاً عن كبت دموعنا أو محاولة السيطرة عليها؛ يجب أن نكون ممتنين لذرفها، وذلك لأن ذرف الدموع -حتى في ذروة الألم أو اليأس-يشير إلى التعبير عن النفس بصراحة ومحاولة الدفاع عنها، فالتوقف نهائياً عن ذرف الدموع  يعني أننا فقدنا كل أمل.

ثلاثة أنواع من الدموع

تنتج الغدد الدمعية الدموع التي تُفرّغ من خلال فتحتين في زاوية العين، وهما النقطتان الدمعيتان العلوية والسفلية، اللتان تمتدان من خلال قناتين إلى الكيس الدمعي المرتبط بتجاويف الأنف لدينا (وهذا هو السبب في أننا نحتاج إلى منديل في كثير من الأحيان عند إفراز الدموع).

تفرز العين 3 أنواع من الدموع؛ الدموع الانعكاسية أو اللاإرادية (تُفرَز تحت تأثير التهيج الكيميائي أو الفيزيائي)، ودموع العاطفة، التي تفرزها الغدة الدمعية الرئيسية، والدموع الأساسية التي تنتجها الغدد الأصغر ومهمتها الحفاظ على نعومة سطح العين. وتتكون جميع أنواع الدموع من المزيج نفسه؛ الماء، والزيوت، والأملاح، والجلوكوز، واليوريا، إلخ. لكن ما يميز الدموع العاطفية هو زيادة تركيز البروتينات والهرمونات (الهرمون الموجه لقشرة الكظر، وهرمون البرولاكتين المرتبط بالاستجابة للإجهاد) فيها. ويمكن أن يفسر وجود هرمون البرولاكتين بنسبة أكبر عند النساء (وهو مسؤول أيضاً عن إنتاج الحليب) سبب بكائهن أكثر من الرجال.

المرأة تبكي والرجل يصرخ

تبكي النساء أكثر بـ 5 مرات من الرجال؛ لكن لماذا؟ يوضح هذا الموضوع الطبيب ومختص التحليل للنفسي؛ آلان براكونير مؤلف كتاب "جنس العواطف" (Sexe des émotions).

إن البكاء هو تعبير عن المشاعر؛ لكن طريقة التعبير عن التجربة ذاتها تختلف بين الرجل والمرأة، ويرجع ذلك لأسباب فيزيولوجية وثقافية. يكبح هرمون الذكورة التستوستيرون التعبير عن المشاعر بالبكاء، لذلك يُعبر الرجال عن قلقهم وضيقهم أكثر من خلال الغضب أو الصمت؛ بينما تسمح النساء لأنفسهن بذرف الدموع. إضافةً إلى ذلك؛ لا يجب أن نغفل دور المعايير الثقافية والتربوية التي تلقي بثقلها علينا منذ ولادتنا. كان بكاء الرجال أمراً شائعاً في بلاط لويس الرابع عشر؛ بينما يُنظر إلى ذلك في أيامنا هذه على أنه سلوك غير لائق ينم عن ضعف الرجل؛ ما لم يكن يبكي في جنازة أحد أحبائه. في وقت مبكر جداً، ودون أن يدركا ذلك؛ يعتقد الوالدان أن للفتاة الصغيرة الحق في التنفيس عن مشاعرها بالبكاء؛ بينما يربطان مشاعر الغضب بالفتى ويشجعانه عليها. خلال إحدى الدراسات؛ عرض باحثون أميركيون على الآباء صوراً لأطفال يبكون، وعند سؤالهم عن سبب بكائهم؛ أتت إجاباتهم جميعاً وفقاً لجنس الطفل؛ "إنها تبكي لأنها حزينة"؛ "إنه يبكي لأنه غاضب". ورغم أن قيم المساواة بين الجنسين قد ساعدت في الوقت الحاضر على تقبُّل دموع الذكور بصورة أفضل، فإن البكاء لا يزال إحدى خصوصيات الأنثى.

المحتوى محمي