هل حدث أن تعرفت إلى شخص جديد، وبعد دقائق من محادثة ودية بينكما، بدأت عن غير قصد بمحاكاة الطريقة التي يتحدث بها؟ أو ربما لاحظت كيف أن صديقك المفضل يستخدم مصطلحاتك ذاتها أو تلك الإشارة التي تؤديها بحاجبيك؟ إنه ليس تنويماً مغناطيسياً، بل هو سلوك طبيعي من التقليد اللاواعي يُعرف باسم تأثير الحرباء.
محتويات المقال
تماماً مثلما تُغير الحرباء لونها لتندمج مع محيطها، فإن الدماغ بطبيعته يحثنا على الانسجام في البيئات الاجتماعية من خلال تقليد المحيطين بنا. ومع ذلك، في حين أن هذا السلوك يمكن أن يعزز الروابط الاجتماعية، فإنه يثير أيضاً تساؤلات حول الهوية الشخصية والأصالة، فكيف يمكنك تحقيق التوازن بين غريزة التكيف والحفاظ على ذاتك الحقيقية؟ إليك في هذا المقال المزيد حول تأثير الحرباء، وأسبابه النفسية، والاستراتيجيات الممكن اتباعها للحفاظ على فرديتك.
تأثير الحرباء: عندما تصبح مرآة لغيرك
وفقاً للطبيب النفسي أحمد النعمي، يشير تأثير الحرباء (Chameleon effect) إلى التقليد غير الواعي لوضعيات وسلوكيات شركاء التفاعل، بحيث يتغير سلوك المرء ليتوافق مع سلوك الآخرين في بيئته الاجتماعية على نحو غير مقصود.
هو جانب فطري من السلوك البشري؛ إذ يحاكي الأفراد من يتفاعلون معهم، غالباً دون أن يدركوا ذلك. إنه طريقة نتواصل بها نحن البشر أحياناً في الحياة اليومية، فبدلاً من تغيير لونك، تغيّر الطريقة التي تتحدث بها أو مفرداتك أو وضعيات جسدك أو تعبيرات وجهك أو إيماءاته.
في الحقيقة، قد تقلّد ما تدرك من عواطف الآخرين بغير وعي، أي من دون أن تعلم أنك تؤدي دور الحرباء. كما وجد عالما النفس، تانيا شارتراند (Tanya Chartrand) وجون بارغ (John Bargh)، اللذان كانا أول من درس هذه الظاهرة، أن هذا الأسلوب غير الواعي في المحاكاة قد يحدث حتى لدى التفاعل مع الغرباء.
على سبيل المثال، عادة ما يكون رد فعلك الطبيعي على ضحك شخص آخر هو أن تضحك بنفسك، وإذا عقد الشخص الآخر ذراعيه في أثناء المحادثة، فمن المألوف أن نتبنى هذه الوضعية أيضاً. إنك تتصرّف كما لو كنت مرآة لمن حولك ممن تحب أو تنسجم معه.
اقرأ أيضاً: ما الذي يزيد عدوى السعادة في محيطك؟ وكيف تسهم في انتشارها؟
لماذا يحاكي البشر سلوك الآخرين في تأثير الحرباء؟
على المستوى التشريحي، وجد الباحثون أن تأثير الحرباء مرتبط بالعقل الباطن، فعندما يقلّد أحدنا عملاً ما أو يُحاكي عاطفة الآخر ومشاعره، تنشط الخلايا العصبية المرآتية في الفص الجبهي للدماغ، وهي خلايا عصبية مسؤولة عن مساعدتنا على تطوير التعاطف من خلال الملاحظة والتقليد. ومع ذلك، لم يحدد الباحثون على المستوى النفسي السبب الدقيق لتأثير الحرباء حتى الآن، لكنهم اقترحوا عدة نظريات، إليك أهمها:
العدوى العاطفية: التعاطف والتواصل
يمكن أن يكون تقليد الآخرين نوعاً من التعاطف معهم، فمن خلال تبني إيماءاتهم وتعبيراتهم، يمكن فهم عواطفهم ووجهات نظرهم على نحو أفضل، ما يعزز الروابط الاجتماعية ويخلق شعوراً بالتفاهم والثقة المشتركة. إن الأمر أشبه بوضع نفسك مكان الآخر لفهم عواطفه ووجهات نظره على نحو أفضل.
إليك هذا المثال من الحياة اليومية، أنت تعمل في قسم خدمة العملاء، وبينما تُظهِر تعابير وجه العميل شعوره بالإحباط بشأن إحدى الخدمات، تبدأ لا إرادياً بمحاكاة تعبيره القلق في أثناء معالجتك لمشكلته، فيشعر أنه مسموع ومُقدَّر، ما يعزز رضاه وولاءه.
وفقاً لعالمي النفس، تانيا شارتراند وجون بارغ، فإن أكثر الأشخاص قدرة على المحاكاة والتقليد هم الذين يتمتعون بمستويات عالية من التعاطف.
اقرأ أيضاً: من هم الأشخاص مفرطو التعاطف؟
القبول الاجتماعي والانتماء
البشر كائنات اجتماعية بطبيعتها، لديهم حاجة أساسية للانتماء إلى مجموعة من أجل البقاء. ومن وجهة نظر تطورية، فإن كونك جزءاً من مجموعة يوفر الحماية والوصول إلى الموارد. إن الرغبة في كسب القبول الاجتماعي وتجنب الرفض، قد تدفعك إلى تبني سلوكيات من حولك وأنماط كلامهم ومواقفهم دون وعي.
لهذا قد يُعرف أيضاً تأثير الحرباء بـ "الصمغ الاجتماعي" (social glue)، إذ أشارت المختصة النفسية سوزان ديجيس وايت (Suzanne Degges-White) إلى أن تأثير الحرباء بين شخصين يسبب اعتقادهما بوجود ما يشتركان به، وبأنهما منسجمان، ويثقان ببعضهما أكثر.
اقرأ أيضاً: كيف تعرف إن كنت شخصاً خجولاً أم مصاباً باضطراب القلق الاجتماعي؟
الأثر الجانبي لتأثير الحرباء: فقدان التفرد أو الأصالة
في حين أن تقليد الآخرين قد يكون مفيداً للترابط الاجتماعي، فإنه قد يسبب أيضاً فقدان الأصالة. قد يؤدي التكيف المستمر للتوافق مع الآخرين إلى الانفصال عن المشاعر والاحتياجات الشخصية للفرد في محاولة للتأقلم، ما يدفعه إلى إخفاء هويته حتى يقبله الآخرون، وهو ما قد يكون سببه الافتقار إلى الثبات الذاتي منذ الطفولة بسبب تعرّضه للنقد والسيطرة المفرطة من الوالدين أو أحدهما، والافتقار إلى الدعم العاطفي، لذا يخلق ذاتاً زائفة لإرضاء الآخرين، فتتمحور أفكاره وأفعاله حول شخص أو مجموعة أشخاص آخرين، للتغلب على فراغه الداخلي. علاوة على ذلك، قد يلجأ البعض إلى اتباع سلوك إدماني؛ مثل إدمان الرومانسية أو التسوق أو ممارسة التمارين الرياضية.
إن إيجاد الذات الحقيقية التي تتميز في تصوراتها ومعتقداتها ورغباتها ومشاعرها وسلوكها عن الآخرين هو ما يُعرف بالتفرّد، وهو مصطلح صاغه عالم النفس السويسري كارل يونغ (Carl Jung). يتضمن التفرّد جعل اللاوعي واعياً، للبقاء على اتصال عاطفي مع الآخرين مع الحفاظ على الذات وأفكارها ومشاعرها في آن واحد.
اقرأ أيضاً: كيف تسيطر على تأثير محيطك في صحتك النفسية؟
كيف تتجنب تأثير الحرباء وتحقق التفرّد؟ 5 نصائح لتجد ذاتك
يبدأ تجنب التأثيرات السلبية لتأثير الحرباء في تنمية الوعي الذاتي بما يسمح لك بالتعبير عن ذاتك عوضاً عن السماح للحرباء بالسيطرة عليك. عموماً، يمكنك العثور على التوازن بين التكيف مع الآخرين والتمسك بقيمك ومعتقداتك والحفاظ على فرديتك من خلال اتباع النصائح التالية:
- امدح نفسك على ما تتمتع به من قدرة: بما في ذلك قدرتك على التكيف لتتلاءم مع الآخرين، إذ عليك أن تدرك أنها ليست سمة سلبية بطبيعتها، بل هي علامة على الحدس والذكاء الاجتماعي، ما يسمح لك بقراءة الآخرين والتواصل معهم، حيث إنها السبب الذي يحث الآخرين على الحديث معك والسؤال عنك.
في الواقع إنها إحدى نقاط قوتك، إذ إن القدرة على التكيف تُظهر حساسيتك وتعاطفك. هذه السمات تجعلك جيداً في بناء العلاقات وتعزيز الثقة. على سبيل المثال، إذا كان أحد الأصدقاء يمر بوقت عصيب، فإن قدرتك على التعاطف مع مشاعره وعكسها يمكن أن تساعده على الشعور بالدعم. ومع ذلك، شارك أيضاً أفكارك ونصائحك الحقيقية التي توضح وجهة نظرك.
- مارس التقليد الانتقائي: كن انتقائياً بشأن الأشخاص والمهن والمواقف التي يكون فيها التكيف مفيداً، بما يسمح لك بالاستفادة من تأثير الحرباء دون المساومة على قيمك. على سبيل المثال؛ يمكنك استخدام تأثير الحرباء في الوظائف التي تتطلب التواصل، مثل المبيعات أو التسويق أو تخطيط الأحداث.
- خصص بعض الوقت لذاتك: تمنحك العزلة مساحة للتفكير في أفكارك ورغباتك دون ضغط خارجي. يمكن في هذا الوقت تتبع النشاطات أو الأفكار التي تفضلها مثل الهوايات الشخصية مثل الطبخ أو الرسم أو الاستماع إلى الموسيقى، أو حتى تتبع نوعية المنشورات التي تفضلها على وسائل التواصل الاجتماعي، والأفكار التي تجذب انتباهك وتتفق معها. دوِّن هذه التفضيلات في ملاحظات أو مذكرات شخصية للعودة إليها عندما تشك في ذاتك أو تشعر بأنك تتغير من أجل شخص ما، ما يسمح لك بالتمييز بين ما تريده حقاً وما قد تتبناه من الآخرين.
- مارس التأمل الذاتي: يمكن أن يساعدك التأمل على التواصل مع ذاتك الداخلية. إنه يشجع على اليقظة، ويساعدك على أن تصبح أكثر انسجاماً مع أفكارك ومشاعرك بدلاً من الآخرين من حولك.
- ابحث عن الدعم: إذا وجدت صعوبة في الحفاظ على هويتك في المواقف الاجتماعية، فكِّر في طلب التوجيه من معالج أو طبيب نفسي؛ إذ يمكنه تقديم رؤى واستراتيجيات لمساعدتك على التنقل في التفاعلات الاجتماعية دون فقدان إحساسك بذاتك.