ارسم لتعي تناقضاتك الداخلية، وارقص لتسيطر على الصراعات التي تدور في نفسك. من خلال الإبداع الفني، جنباً إلى جنب مع "أسلوب العلاج بالفن"، ستتمكن من اكتشاف مشاعرك الدفينة.
نظراً لتردد الكثيرين في الخضوع للعلاج "الكلاسيكي" أو العلاج بالتحليل النفسي، فإن أسلوب العلاج بالفن يشهد مزيداً من الإقبال. ويتيح هذا الأسلوب العلاجي الفرصة في كثير من الأحيان لاكتشاف المشاعر والعواطف المكبوتة، لأنه يعمل بطريقة غير مباشرة من خلال استراتيجية التفاف؛ وهي طريقة تهدف إلى التحايل على مقاومة التغيير لدى الشخص، كما يوضح الدكتور جان بيير كلاين؛ الطبيب النفساني ومدير المعهد الوطني للتعبير، والإبداع والعلاج (Inecat) في باريس.
ما هو مبدأ أسلوب العلاج بالفن؟
يتيح اللجوء إلى مختلف أنواع الإبداع الفني (كالرسم، وتمثيل العروض المسرحية، والرقص، وفن الكولاج، وتشكيل الطين، والتصوير الفوتوغرافي، ومسرح الدمى) التغلغل في المشكلات التي يعاني منها الفرد في لاوعيه وتوجيهه نحو تحوّل إيجابي في نفسه.
"الهدف ،كما يوضح جان بيير كلاين، هو الانطلاق من آلام المرء، وعنفه، ضمن إطار عملية إبداعية، وجعلها مادة يستند إليها في رحلته الشخصية. وهكذا يولد من أسوأ ما يحمل الشخص في نفسه تركيبة ونتاجاً يوجه نحو الفن".
تاريخ العلاج بالفن
يُذكر اسم الروائي ماركيز دي ساد أحياناً عند الحديث عن بدايات طريقة العلاج بالفن، ويعود ذلك إلى العروض التي كان يخرجها حوالي العام 1800 خلال احتجازه في مصح تشارنتون للأمراض العقلية، وهي عروض أثارت حماس باريس كلها آنذاك لرؤية المرضى العقليين وهم يمثّلون.
لكن النشأة الفعلية لهذا النهج العلاجي كانت على يد الرسام الإنجليزي أدريان هيل؛ والذي جرب هذا النهج لأول مرة في عام 1940.
فبعد إصابته بالسل ووضعه في أحد المستشفيات، قرر الرسام أن يمضي فترة نقاهته بالرسم الأمر الذي -ولدهشة الأطباء- ساهم في تسريع تعافيه بالفعل، وكتب آنذاك: "عندما تُشبِع الروح الخلاقة، ستعزز الشفاء في قلب المرضى".
وبسبب اهتمام الصليب الأحمر البريطاني بطريقة العلاج بالفن، فقد استخدمه مع مرضاه.
في عام 1950، أُطلق أول برنامج للتدريب على العلاج بالفن في الولايات المتحدة الأميركية، بينما تأخر ذلك في فرنسا حتى عام 1986، على الرغم من ممارسة الطريقة في وقت سابق؛ وذلك بعد اعتراف المجتمع العلمي بالمفهوم أخيراً خلال مؤتمر دولي.
مسار جلسة العلاج بالفن
تتضمن الجلسة الأولى من أسلوب العلاج بالفن إجراء المعالج مقابلة مع المريض، يتمكن الأخير خلالها من مناقشة ما يزعجه، والتحدث عن توقعاته من الجلسات العلاجية.
ويتنوع مسار الجلسات اللاحقة وفقاً للفن الذي يختار المريض ممارسته؛ لكنها تتمحور في جميع الأحوال حول الهدف نفسه، وهو تطوير لغة رمزية تسمح للشخص بالخوض في مشاعره الدفينة ودمجها بالفن الذي يمارسه، ولنأخذ الرسم كمثال، فهو أحد أكثر الطرق استخداماً في هذا الأسلوب العلاجي.
توضح آريان ووكر؛ الرسامة ومختصة العلاج بالفن: "يتمثل الدور الرئيسي لمختص العلاج بالفن في تحفيز الإبداع لدى المريض؛ الذي غالباً ما يقول إنه لا يجيد الرسم عندما يجد نفسه أمام هذه "اللوحة البيضاء". لذا فأنا أوضح له أن الفكرة تتمحور حول استخدام الفرشاة وأنابيب الألوان بحرية تامة، وترك يده ترسم دون أن يقيدها عقله، وللتحايل على المقاومة في هذه الحالة؛ يقترح بعض المعالجين مواضيع معينة لرسمها - مثل رسم "العناصر الأربعة"، و"المتاهة" و"التوقيع"، و"قوس قزح"، بينما يلجأ قلة من المعالجين إلى طريقة عرض نموذج ما على المريض وجعله يحاول محاكاته.
يقول جوفري ترول؛ الفنان ومدرب العلاج بالفن، والمؤلف المشارك مع جين رودريغيز لكتاب "العلاج بالفن: الممارسات والتقنيات والمفاهيم" (L'Art-Thérapie -Pratiques, techniques et concepts): "إن هدفنا الرئيسي في جميع الحالات هو أن نعطي دفعةً إبداعيةً للمريض، ونعمل كمرشدين له لتوضيح المسارات الممكنة".
بمجرد بدء العملية، يكون دور المعالج هو تشجيع المريض -دون الحكم على أدائه- على متابعة وتطوير الخطوط التي تتكرر بين عمل وآخر، وتبدو ذات مغزىً.
ويوضح جان بيير كلاين أن: "المعالج يدعم المريض ولكن بتحفظ، ويتضمن ذلك الترحيب بالعمل الفني للمريض، ثم توجيهه بعد ذلك نحو نتائج أكثر وضوحاً، مع الانتباه إلى الأجزاء التي تبدو معقدة من هذه الرسومات، فوظيفة مختص العلاج بالفن هي دفع المريض بحذر شديد نحو عمق أكبر خلال عمله، لأنه عندما يتحرر الشخص أخيراً وتصبح رسوماته أكثر عمقاً، يتقدم العلاج.
يقول جان بيير كلاين: "خلال الجلسة العلاجية؛ يختبر بعض المرضى "مفاجآت من الوعي"؛ إذ يتخذ عملهم فجأة منحىً جوهرياً وكأنما قفزت أدلة سرية قديمة إلى وعيهم، وهي يمكن أن تكون ذكرى منسية لديهم، أو عواطف مكبوتة منذ زمن طويل، أو تداعٍ معينٍ للأفكار، ويبرز هنا دور مختص العلاج بالفن في الاستماع للمريض لدعم وعيه - تماماً كما في العلاج النفسي التقليدي.
من ناحية أخرى، فالكثير من المرضى يتابعون جلساتهم العلاجية دون أن يختبروا مفاجآت الوعي هذه؛ لكن ذلك لا يعد دلالةً على عدم تقدّم العلاج.
وفي جميع الحالات تشهد نهاية الجلسة حواراً بين المعالج ومريضه؛ إذ يُطلب من الأخير بعد الانتهاء من عمله الحديث عن مشاعره في أثناء عملية الإبداع الفني، والاقتراحات التي استلهماها منها.
لهذا؛ يمكن لمختص العلاج بالفن دعم عملية الاستبطان هذه من خلال طرح أسئلة واسعة للغاية على المريض، حتى لا يؤثر في توجيه كلامه؛ إذ يجب أن يكون قادراً على مواصلة رحلته بالوتيرة التي تناسبه دون أن يُدفع بأي إيحاء قد لا يكون مستعداً لسماعه.
ويخلص جان بيير كلاين إلى أنه: "لا يكمن دورنا أبداً في شرح منشأ الاضطراب الذي يعاني منه المريض، بمعنى أننا لا نقدم تفسيراً للأعمال الفنية التي ينتجها. لذلك من غير المجدي التطرق إلى تفسيرات من قبيل "اللون الأحمر يعني العدوانية" أو "رسم خطوط عمودية يشير إلى القضيب"، فهذه الاختصارات الجامحة مكانها محدود جداً هنا.
أهمية العلاج بالفن
يؤدي العلاج بالفن دوراً مهماً بصورة خاصة بالنسبة للأطفال الذين غالباً ما يكون الاستبطان النفسي عمليةً صعبةً بالنسبة لهم، وكذلك للمراهقين الذين غالباً ما يرفضون نهج العلاج النفسي "الكلاسيكي". أما بالنسبة للبالغين، فبالإضافة إلى حقيقة أن أسلوب العلاج بالفن يسمح لهم باكتساب معرفة ذاتية أفضل، تثبت الطريقة أنها مفيدة جداً للأشخاص الذين يعانون من صعوبة في استكشاف مشكلتهم من خلال التحدث عنها، أو الذين -على العكس من ذلك- يتحدثون عنها بسهولة لكن دون أن يحرزوا أي تقدم في الوصول إلى حل لها.
يعطي أسلوب العلاج بالفن أيضاً نتائج ممتازة مع المصابين بأمراض خطيرة؛ إذ يساعدهم في التعبير عن آلامهم، كما أنه يساعد مدمني المخدرات أو السجناء أو الأشخاص المهمشين من خلال العمل الإبداعي، في إعادة تقييم أنفسهم، كما أثبت النهج فعاليته في مساعدة كبار السن على استعادة أجمل المراحل التي عاشوها في حياتهم سابقاً.
أما عن الاختيار المناسب، فالأمر متروك لك لتجد الفن الذي سيتيح لك استكشاف نفسك بصورة أفضل.
الفنون التشكيلية
تقدم الفنون التشكيلية أثراً ملموساً في توضيح المشكلات التي يعاني منها الفرد؛ حيث يتمكن من التعبير عنها من خلال ممارسة الرسم، وتشكيل الطين، وفن الكولاج أو حتى التصوير الفوتوغرافي؛ إذ تتيح هذه الفنون للمرء اتخاذ مسافة موضوعية من مشكلاته، ومن ثم تسمح لوعيه بأن يدركها.
المسرح والرقص ورواية القصص
تتيح هذه الفنون الحية من خلال الأداء الجسدي، التعبير عن الصراعات التي تعتري النفس؛ إذ يعبر الرقص رمزياً عن تناقضاتنا، ويعزز وحدتنا النفسية الجسدية. أما تأدية العروض المسرحية، فهي تعتبر متنفَّساً للمريض، كما أنها تساعده على التعامل مع المواقف الحياتية التي يتعرض لها بطريقة أقل درامية.
وتعتبر رواية القصص أو محاكاتها أو اختراعها وسائل فعالة للتخلص من القلق والحزن والمخاوف والاحباطات.
اقرأ أيضاً: دور العلاج بالرقص والحركة في علاج المشكلات النفسية
مسرح الدمى والأقنعة والمكياج التنكري وأداء دور المهرج
تعطي هذه التقنيات "صوتاً" لجميع الشخصيات الكامنة في اللاوعي. يكشف التلاعب بالدمى عن المشاعر المكبوتة بإعطائها صوتاً، ويشجع وضع الأقنعة على إزالة المثبطات والدفاعات.
أما وضع المكياج التنكري، فيمكّننا من التعبير عن تخيلاتنا، ويشجع أداء دور المهرج قدرتنا على التلاعب بنقاط ضعفنا.
الموسيقى والصوت
يؤثر العلاج بالموسيقى في نبضات الجسم من خلال الإيقاع، وتتمتع الموسيقى بقوة استثنائية لإعادة تشكيل العواطف، وتشجع على انسجام المرء مع جسده تدريجياً، وتفتح طرق الاتصال وتطوِّر الإبداع.
بثينة
لجأت بثينة؛ 32 عاماً، إلى أسلوب العلاج بالفن بغية إعادة التواصل مع عواطفها وإبداعها، وتمكنت من ذلك بمساعدة المعالجة آريان ووكر.
الجلسة الأولى
توضح بثينة: "هناك 6 غرف، ونحن كنا 6 أطفال..." قالت مختصة العلاج بالفن: "أنا أرى أنها 7 غرف، هناك واحدة حيث وضعتِ تلك العلامة". إنها حقيقة؛ لقد كنا 7 أطفال، فقد مات أخ لي قبل ولادتي ونحن لا نتحدث عنه أبدا ... ".
الجلسة الثانية
تصف بثينة هذا الرسم بأنه عبارة عن وجه مجزأ إلى أقسام كبيرة، تشكل حدوده خطوط سوداء عريضة دون أن تبرز أي معالم واضحة له.
الجلسة الثالثة
تعلّق بثينة: "إنه الشرير؛ الذكر الذي يبكي". تتضح بنية الوجه لكن المعالم مازالت غير واضحة.. تنشأ المشاعر: "لم يكن أبي يريدنا أن نبكي، لقد ربانا كما لو كنا صبياناً".
الجلسة السادسة والأخيرة
لأول مرة يتم إعادة تشكيل رسم الوجه بخطوط رفيعة، تحدد معالمه وتربطه بخط واحد برسم الجسم، وتقول بعدها: "أنا نائمة، يجب أن أستيقظ".
منى
تقول منى؛ 42 عاماً: "لقد ساعدني تمثالي الطيني على التعافي. لقد أصبحت مهتمةً بالعلاج بالفن بعد العلاج الذي خضعت له للتعافي من سرطان الثدي. خلال فترة النقاهة، وأملاً في التخلص نهائياً من الحزن الذي كان يسكنني؛ حضرت دورة علاج بممارسة تشكيل الطين. وكانت التجربة الأبرز عندما طُلب مني تشكيل شخصية من الطين تمثلني، وأنا معصوبة العينين. وكانت النتيجة النهائية مرعبةً بالنسبة لي، حتى أنها جعلتني أنهار باكيةً؛ إذ تجلى عملي في شكل جسم نحيف يحتوي على عدة ثقوب، وكان الرأس منقسماً إلى قسمين، لقد كان هذا الشكل الذي صنعته يُعبر عن النقائل السرطانية التي انتشرت في جسمي، والمعاناة التي مررت بها، وتشكلت لدي قناعة بأن هذا كان نذير اقتراب الموت. ثم استمع إليّ مختص العلاج بالفن وأفرغت كل المخاوف التي تراكمت داخلي، واقترح عليّ بأن ألف هذا التمثال بقماش مبلل، وآخذه معي إلى المنزل، وأعيد تشكيله لجعله يبدو بالشكل الذي أريده".
وتتابع: "وبالفعل تابعت العمل عليه لـ 6 أسابيع، وشيئاً فشيئاً؛ ملأت الثقوب، وصقلت الأسطح ... لقد كان "تدليك" هذه الدمية الطينية طريقةً غير مباشرة لأعتني بنفسي. لكن أكثر ما كان يسعدني هو الفرح الذي غمرني مع تعافي "شخصيتي" الطينية التي كانت امتداداً لنفسي".