تعد الممتلكات جانباً رئيساً من جوانب الحياة البشرية؛ فمنذ أقدم الحضارات، جمع الناس الأشياء واستخدموها للتعبير عن هوياتهم ومكاناتهم وقيمهم الشخصية؛ ولهذا فإن ممتلكاتنا تحمل أهمية عاطفية ورمزية، ويمكنها أن تحكي لنا من نحن وما هو موقعنا في المجتمع، وفي بعض الأحيان تعكس ممتلكاتنا شخصيتنا واهتماماتنا وتطلعاتنا، وقد توفر الممتلكات شعوراً بالسيطرة، بالإضافة إلى كونها وسيلة للتعبير عن الراحة والأمان؛ ولكن هل تحدد ممتلكاتنا مكاناتنا داخل المجتمع؟ دعونا نتعرف معاً إلى العلاقة المتشابكة بين الممتلكات والمكانة الاجتماعية.
محتويات المقال
ما هي المكانة الاجتماعية؟
عرّف أستاذ علم الاجتماع، ماكس فيبر (Max Weber)، "المكانة الاجتماعية" على أنها التقدير الاجتماعي المرتكز على الامتيازات الإيجابية أو الصفات السلبية المرتبطة بالشخص داخل المجتمع، ويوضح أستاذ العلوم السلوكية والاجتماعية، محمد الحاجي، إن "المكانة الاجتماعية" هي منزلة الشخص التي تعكس أهميته واحترام الناس له، والحاجة إلى المكانة ليست واعية. وعلى الرغم من ذلك، فهي دفينة بداخل كل منا جداً، وعميقة في التكوين البشري، وهي أساس الكثير من تصرفاتنا ومشاعرنا كل يوم.
ويشرح الحاجي إن الإنسان كائن اجتماعي بالفطرة، وحتى الأشخاص الذين يدّعون العزلة والانطوائية لديهم مجتمع ينتمون إليه، سواء كان مجتمعاً كبيراً أو صغيراً. ولأننا نحتاج إلى المجتمع؛ فنحن بالضرورة نحتاج إلى تعزيز مكانتنا داخل هذا المجتمع، فبعد أن ينتمي الأشخاص إلى مجموعة ما، تأتي الحاجة إلى المكانة داخل تلك المجموعة وذلك أملاً في الحصول على المزيد من المنافع، فالأشخاص ذوو المكانة ثرواتُهم أعلى وزيجاتهم أكثر وتغذية أطفالهم أفضل.
اقرأ أيضًا: ما هو قلق السعي إلى المكانة؟ وكيف تتعامل معه؟
تعرف إلى العلاقة بين الممتلكات والمكانة الاجتماعية
ثمة رسالة ثقافية واضحة نراها مُلصقة على اللوحات الإعلانية وموجودة على شاشات التلفزيون ومنصات التواصل الاجتماعي؛ كلما زاد ما نمتلكه، كنا أكثر سعادة، والحقيقة إن هذه الرسائل لا تشجعنا على الشراء فحسب؛ بل تخبرنا بأن قيمنا ومكاناتنا الاجتماعية مرتبطة ارتباطاً مباشراً بقدرتنا على شراء المزيد، ويمكن القول إن الممتلكات تعزز المكانة الاجتماعية عبر الطرائق التالية:
1. الاستقرار الاقتصادي: تعزز الممتلكات الاستقرار الاقتصادي للأفراد. علاوة على ذلك، فإن امتلاك العقارات؛ مثل المنزل أو الأرض. على سبيل المثال؛ يعمل بصفته أصلاً ملموساً يمكن أن ترتفع قيمته بمرور الوقت. يوفر هذا للأفراد مصدراً للثروة والأمان المالي والمكانة الاجتماعية.
2. الشعور بالحرية الشخصية والتمكين: تمنح الممتلكات الأفراد شعوراً بالحرية الشخصية والتمكين؛ فهي تسمح لهم بحرية اتخاذ القرارات وتوفر لهم الاستقلالية، وتسمح لهم بالتعبير عن الذات والإبداع؛ ما يمكّن الأفراد من تشكيل مساحات معيشتهم وفقاً لتفضيلاتهم واحتياجاتهم. علاوة على ذلك، توفر الممتلكات شعوراً بالاستقرار والانتماء؛ ما يعزز الارتباط الأقوى بالمجتمع والرفاهية العامة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن أستاذ علم النفس تيم كاسر (Tim Kasser) يؤكد إن هناك ثمة مشكلة فيما يتعلق بالممتلكات؛ وهي أنها يمكن أن تجعل الشخص مادياً، والمادية هي حالة ذهنية تعطي الأولوية للممتلكات المادية على حساب القيم الأخرى مثل العلاقات والنمو الشخصي؛ ما يعني وضع المال بصفته أولوية كبرى، ويشرح كاسر العلاقة السلبية بين امتلاك القيم المادية والشعور بالرفاهية؛ فكلما زاد تأييد الناس للقيم المادية، زاد شعورهم بالعواطف غير السارة والاكتئاب والقلق، وزادت مشكلات الصحة الجسدية؛ مثل آلام المعدة والصداع، وانخفاض شعورهم بالرضا عن حيواتهم.
ويعتقد كاسر إن سبب انخفاض الرفاهية عندما تكون المادية مرتفعة يتعلق بالاحتياجات النفسية؛ حيث ترتبط القيم المادية بعدم التفكير في إشباع الاحتياجات النفسية اللازمة للشعور بالرضا والكفاءة والتواصل الفعال مع الآخرين، وعندما لا تُشبَع احتياجات الأفراد النفسية على نحو جيد، فإنهم يبلغون عن مستويات أقل من الرفاهية والسعادة، فضلاً عن المزيد من الضيق.
علاوة على ذلك، فإن الأشخاص الذي يركزون تركيزاً كبيراً على الممتلكات، قد يشعرون أن تقديرهم لذواتهم مرتبط بتلك الممتلكات، وقد يؤدي هذا إلى السعي المستمر نحو الحصول على المزيد والمزيد من الأشياء؛ ما يسبب في نهاية المطاف ضغوطاً مالية ومشكلات في العلاقات وإحساساً كبيراً بالفراغ والإرهاق.
ما هي أهم العوامل التي تحدد قيمة الذات داخل المجتمع؟
تشرح أستاذة علم النفس السريري، كريستينا هيبرت (Christina Hibbert)، إن تقدير الذات هو ما نفكر فيه ونشعر به ونؤمن به عن أنفسنا؛ أما القيمة الذاتية فهي الاعتراف بأنني أعظم من الأشياء التي تعبر عني مثل الوظيفة أو الموهبة أو الممتلكات؛ إنها معرفة عميقة بأنني ذو قيمة، وأنني محبوب، وضروري لهذه الحياة. وعلى الرغم من ذلك، يستخدم الأشخاص عادةً معايير أخرى لقياس قيمهم الذاتية، وفيما يلي أهم هذه المعايير التي يستخدمها الأشخاص لقياس ومقارنة قيمهم الذاتية بقيمة الآخرين:
1. المظهر الجسدي: يتمتع الأشخاص الذين لديهم خصائص جسدية جذابة سواء كانوا رجالاً أو نساءً بفرص أكبر للوصول إلى مكانة اجتماعية أفضل.
2. الوظائف: تؤثر مهنة الفرد في وضعه الاجتماعي، ويُنظر إلى بعض المهن على أنها مرموقة أكثر من غيرها، وكلما زادت أهمية وظيفتك تمتعت بمكانة اجتماعية أكبر.
3. الوضع الاقتصادي والعائلي: يميل الأشخاص ذوو الدخل الأعلى والثروة والعلاقات الاجتماعية الأوسع إلى التمتع بقوة ونفوذ اجتماعي أكبر من غيرهم، وعادة ما يحققون أحلامهم ويصلون إلى أهدافهم بسهولة ويسر.
4. مستوى التعليم: غالباً ما تتأثر المكانة الاجتماعية بمستوى التعليم؛ حيث يحصل الطبيب والمهندس على فرص عمل أفضل ومكانة اجتماعية أعلى مقارنة بالعاملين في الوظائف الأخرى، علاوة على ذلك، تؤثر الدرجة العلمية التي حصلت عليها في مكانتك أيضاً.
اقرأ أيضًا: كيف يؤدي الرهاب الاجتماعي إلى شعور الفرد بمحدودية قدراته؟
كيف تشعر بقيمتك الذاتية بعيداً عن الممتلكات؟
في عالم اليوم الذي تحكمه المنافسة، قد يبدو من الطبيعي أن نربط بين قيمنا الذاتية والعوامل الخارجية مثل الإنجازات الوظيفية والممتلكات المادية والأهداف الحياتية، والحقيقة إن ربط قيم ذواتنا بتلك الأشياء يؤدي إلى شعور غير مستقر بقيمة الذات؛ فحين تتدفق مكاسب الحياة ترتفع قيمنا، بينما عندما نتكبد تحدث الخسائر تنخفض قيمنا الشخصية على نحو حتمي.
وعلى الرغم من أن الحفاظ على شعور ثابت بقيمة الذات قد يبدو أمراً سهلاً، فإن فك تشابكه مع العوامل الخارجية وإعادة بنائه من الداخل يتطلبان الصبر والممارسة. لكن مع مرور الوقت، يمكن أن يساعدنا هذا التحول الصحي على تقدير أنفسنا دون قيد أو شرط، بغض النظر عن الإنجازات والمكانة وتصورات الآخرين والممتلكات المادية، ويمكن تعزيز القيمة الذاتية عبر اتباع النصائح التالية:
1. افعل الأشياء التي تستمتع بها وتجيدها: إن إتقان شيء ما والاستمتاع به يمكن أن يوفرا لك تعزيزاً إيجابياً ويجعلك تحس بمشاعر الكفاءة والقدرة بعيداً عن ضغط المكانة الاجتماعية؛ ولهذا افعل الأشياء التي تحبها وتجيدها، وركز على تعزيز نقاط قوتك وموهبتك.
2. راجع أفكارك جيداً: تذكر أن الأفكار ليست حقائق. ففي معظم الأحيان، تكون تشوهات ناجمة عن الانتقاد الداخلي والإجهاد، والضغوط المجتمعية والمقارنات مع الآخرين؛ ولذلك في المرة القادمة التي تكون لديك فيها فكرة سلبية عن الذات، استبدل بها أخرى واقعية لتحل محلها، ومن وقت إلى آخر، ألقِ نظرة على قائمة الأشياء التي لا تحدد قيمة الذات، وذكِّر نفسك بأن حسابك المصرفي، ومسمى وظيفتك، وجاذبيتك، وعدد متابعينك على وسائل التواصل الاجتماعي لا علاقة له بمدى قيمتك أو جدارتك كشخص.
3. كن رحيماً مع نفسك: عندما تأتي الرياح بما لا تشتهي سُفننا، ننخرط في انتقادات ذاتية قاسية ما يجعلنا نشعر بالسوء؛ ولهذا أخبر ذلك الناقد الداخلي أن يصمت، واعترف بالأخطاء التي فعلتها وعالجها بهدوء، وهدئ من نفسك فأنت فعلت كل ما يمكنك فعله من أجل الوصول إلى ما أنت عليه، ويجب أن تشعر مكانتك وقيمتك الذاتية بغض النظر عن رصيدك البنكي وممتلكاتك.
4. لا تخف من ماضيك: قد ينظر بعض الأشخاص إلى مواضيهم على أنه عوائق كبيرة تمنعهم من تحقيق المكانة الاجتماعية، خاصة لو كانوا لا يملكون الكثير من المال أو كانوا من ينحدرون من عائلات ثرية؛ ولكن تذكر أن ماضيك هو ما يصنعك، وسعيك إلى المكانة ينبغي أن يكون وسيلة لا غاية بحد ذاتها؛ ولهذا ابدأ في تقدير نفسك بناءً على إنجازاتك وليس ما يعتقده الآخرون عنك.
5. تواصل مع الأشخاص الداعمين: يمكن أن يجعلنا انعدم تقدير الذات الناتج عن انخفاض المكانة الاجتماعية نشعر بالعزلة والوحدة؛ حيث نعتقد أن هناك خطأ ما فينا؛ ولهذا نميل إلى الابتعاد، وهذه العزلة تؤدي إلى تفاقم مشاعر اليأس وعدم القيمة، وفي هذه الحالة علينا التواصل مع الأشخاص الداعمين الذين يواجهون تحديات مشابهة حتى نشعر أننا لسنا وحيدين. علاوة على ذلك، فإن وجودنا مع الأشخاص الداعمين يساعدنا على الإحساس بقيمتنا وإنجازاتنا الحقيقية.