الذكاء عامل من عوامل التفوق والقوة والتميز؛ لكن ما سبب افتقار الأشخاص الأذكياء إلى الثقة بالنفس مقارنةً بغيرهم؟ هذا سؤال حول ظاهرة محيرة يرصدها الخبراء النفسيون، ولعل فهم هذه المفارقة يحتاج إلى آرائهم المتفحصة، لاستيعاب الأسباب والعوامل التي تجعل شخصاً ذكياً يشعر بثقة أقل من غيره.
في المقال التالي توضيحات خبيرة نفسية اهتمت بهذه الظاهرة. يثير موضوع التحقق من افتقار الأشخاص الأذكياء إلى الثقة بالنفس جدلاً واسعاً. وفقاً لبعض الدراسات النفسية؛ يتميز هؤلاء الأشخاص بقدرة أكبر على التفكير والتدقيق والشك؛ لكن هذه العوامل قد تؤدي إلى تقليل ثقتهم بأنفسهم. في المقابل، يميل الأشخاص المغرورون الذين يتميزون بتقدير ذاتي عالٍ إلى المبالغة في تصور قدراتهم؛ بينما لا ينشغل أصحاب معدل الذكاء المنخفض بنتائج أفعالهم أو تأثير أقوالهم في الآخرين.
تقدم المختصة في الطب النفسي السريري كلير غرونيه (Claire Grenet) توضيحات موضوعية حول هذه المسألة. تقول المختصة النفسية: "قد يفتقر الأشخاص الأذكياء إلى الثقة بأنفسهم لكن العكس ممكن أيضاً. من المهم أن نؤكد إنه لا يوجد حكم نهائي في مجال علم النفس، فما نلاحظه أحياناً في سياق تجريبي قد لا يمثل الواقع". لكن ما هو العامل الذي يؤثر في ثقة الأشخاص الذين يمتلكون معدلات ذكاء عالية؟ لنحلل إذاً النظريات المختلفة بالاعتماد على توضيحات كلير غرونيه.
العزلة الاجتماعية والانفصال العاطفي
تشير المختصة في الطب النفسي السريري إلى أن الأشخاص الأذكياء يعانون في الغالب شعوراً بالعزلة الاجتماعية وانفصالاً عن الآخرين؛ وهذا ما قد يؤثر في ثقتهم بأنفسهم. هناك عوامل عدة تفسر هذه الظاهرة:
- انتقاد الأقران: قد يتعرض الأطفال الأذكياء مثلاً إلى الانتقاد والإقصاء من رفاقهم بسبب تفوقهم الدراسي؛ وهذا ما يزيد شعورهم بالعزلة ويقلل ثقتهم بأنفسهم.
- التفكير الزائد: الأشخاص الذين يحللون ما يحدث حولهم باستمرار يمكن أن يطوروا آليات لاستيعاب التأثيرات؛ وهذا ما يحد من قدرتهم على التفاعل الاجتماعي بأسلوب مناسب ويؤثر في تقديرهم لذواتهم.
تنوع أنماط الذكاء
ترى كلير غرونيه ضرورة الاعتراف بتنوع أنماط الذكاء. يؤدي الذكاء العاطفي مثلاً دوراً حاسماً في التفاعلات الاجتماعية وإدارة العواطف، علاوة على أن الأشخاص الذين يتمتعون بذكاء عاطفي عالٍ لديهم قدرة أفضل على فهم عواطفهم وتنظيمها؛ وهذا ما يسهل عليهم التفاعلات الاجتماعية الإيجابية. يعزز هذا الأمر تقديرهم لذواتهم وقدراتهم على الشعور بالكفاءة والتقدير في إطار علاقاتهم الشخصية. هذا يعني أن تطوير الذكاء العاطفي يمكن أن يساعد على تجاوز مشكلة افتقار الأشخاص الأذكياء إلى الثقة بالنفس. وفي السياق نفسه، إن الأشخاص الذين يمتلكون ذكاء عاطفياً متطوراً أكثر استعداداً للتعامل مع البيئات الاجتماعية المعقدة، على الرغم من غياب الثقة في قدراتهم الفكرية.
القلق الاجتماعي ومتلازمة المحتال
يكون الأشخاص الأذكياء في معظم الأوقات عرضة إلى القلق الاجتماعي ومتلازمة المحتال؛ وهما اضطرابان نفسيان يمكن أن يؤثرا تأثيراً بالغاً في التقدير الذاتي والثقة بالقدرات الشخصية. ينبع هذا القلق في الغالب من التفكير الزائد في الكفاءات الشخصية والتقييم الذاتي المستمر؛ الأمر الذي يولد شعوراً بالشك وغياب الثقة. وبسبب تحليلهم المستمر لمستويات أدائهم؛ يطور هؤلاء الأفراد إدراكاً مشوهاً لقدراتهم الحقيقية؛ الأمر الذي يغذي قلقهم ويعزز شعورهم الدائم بأنهم ليسوا في المستوى المطلوب.
هذا الميل إلى النقد الذاتي المفرط والشك الدائم يمكن أن يجعل الأشخاص الأذكياء أكثر عرضة إلى المقارنات الاجتماعية السلبية، وقد يُشعرهم بالعزلة أو عدم التفهم؛ وهذا ما يُفاقم قلق كلٍ منهم هم ويغيّب ثقته بنفسه، فيصبح التفاعل الاجتماعي مصدر توتر بدلاً من أن يكون مصدر دعم، ويزيد شعورهم بعدم الانتماء أو نقص الكفاءة على الرغم من مواهبهم وإنجازاتهم الموضوعية.
قد يعاني الأشخاص الأذكياء نقص الثقة بالنفس؛ لكن هذا الأمر يعتمد على عوامل معقدة عديدة وفقاً للمختصة النفسية كلير غرونيه. من الضروري إذاً أخذ تنوع أنماط الذكاء والسياقات الفردية بعين الاعتبار لفهم هذه الدينامية. وبإمكان الأشخاص الأذكياء تحسين ثقتهم بأنفسهم ورفاهيتهم العامة إذا طوروا قدرات الذكاء العاطفي وتعلّموا إدارة مشاعر الشك وعدم اليقين.