ملخص: سقراط المعلم الأول الذي دفع حياته ثمناً لأفكاره ترك لنا إرثاً فلسفياً غنياً أسّس عليه من جاؤوا بعده مناهج الشك العلمي ومساءلة الأفكار الوثوقية ومراجعة المسلّمات. مع هذا كلّه كان سقراط متيقّنا من أنّ الشيء الوحيد الذي يعرفه هو أنّه لا يعرف شيئاً. ما يزال هذا الشعار محتفظاً بجاذبيته إلى يومنا هذا، وقد ينطوي على حلّ سحري مفيد لنا في الحياة اليومية. تعرّف إلى سرّ التعايش السعيد مع الجهل وعدم المعرفة.
محتويات المقال
في هذه الفسحة الفلسفية الجديدة، سنتعلم من منهج سقراط التوليدي كيفية طرح أسئلتنا الوجودية والكفّ عن التخوف من جهلنا. عندما نُكثر التساؤل حول معتقداتنا وتصرفاتنا وتصرفات الآخرين أيضاً، فقد نشعر بأنّنا لسنا في المستوى المطلوب معتقدين أن النجاح في الحياة يتطلّب القدرة على التميّز من خلال معارفنا.
لكن أخذ الوقت الكافي للتساؤل حول معنى الحياة بفضل فلسفة سقراط يسمح لنا بتغيير هذا المنظور. فشعور المرء بأنّه غبي هو الخطوة الأولى نحو السعادة بالتفكير الحرّ.
تقبّل جهلك لتعيش سعيداً
نعتقد أنّنا نعرف كلّ شيء إلى أن نُرزق بالأطفال. حينها تتبخّر مسلّماتنا في كثير من القضايا مثل المدّة الزمنية المقبولة للنوم المريح أو تعريفنا للحبّ، حبّ الذات أو الحبّ الجنوني. فندرك مثلما يحدث عند أيّ حدث كبير في الحياة أنّنا لا نعرف إلا القليل، ونُصاب بالارتباك ثم تستأنف الحياة سيرها. على الرغم من أنّ حيواتنا تبدو أعقد بكثير من حياة الأثينيين في القرن الخامس قبل الميلاد، تستمرّ مسألة المعرفة والجهل في فرض نفسها.
قبل سنّ الثلاثين يكون لدينا هذا الشعور الممتع بمعرفة كلّ شيء، ولا سيّما ما نرغب فيه. ونكرّس أيّ لحظة من لحظات فراغنا لإثبات وجودنا، ونقضي أمسياتنا مع الأصدقاء ونحن ننتقد ما يحدث في العالم ونقدّم النصائح والحلول. وكلّما مرت السنوات تزايدت شكوكنا. البعض يسمّي هذه الحالة حكمة، بينما يصفها المراهقون بالعبث، فنودّ لو أن الخبرة تسعفنا في إسكاتهم.
الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنّني لا أعرف شيئاً
في الحقيقة قد ينتابنا بعض القلق من الوعي بجهلنا. قد نكون جاهلين في بعض الميادين، لكننا قد نتفوّق في أخرى طبعاً. لكنّ سقراط ينصحنا بعدم الاعتداد بالنفس كثيراً بسبب هذا التفوّق، بل إنّه يرى عدم المعرفة أمراً ممتعاً. الحياة في نظر سقراط هي التقدّم من خلال التساؤل الدائم حول حقيقة وجودنا، وعدم التوقف أبداً عن التفكير.
الأمر أشبه بتلك القصة المألوفة التي سمعناها مراراً وتكراراً. قصة ذلك الأخ أو ابن العم أو الصديق العبقري الذي تخرّج في كلية مرموقة وأصبح مهندساً في مجال الطيران، وبعد بضع سنوات من العمل قرّر أن يتخلّى عن كل ما حقّقه ويعيش حياة بسيطة في ضيعة صغيرة، يزرع فيها بعض الخضروات العضوية.
لقد كان سقراط يمشي في الأزقة وهو يردّد مسلّمة واحدة: "الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنّني لا أعرف شيئاً". كان يتجوّل حافي القدمين ويحرص على طرح الأسئلة على الخبراء متظاهراً بالكسل والجهل. كان هدفه من وراء ذلك تعليم الآخرين فنّ الشكّ في الأفكار النمطية أو المسبقة. الأهمّ في نظر سقراط أن يعي الفردُ أنّه لا يعرف شيئاً. ليست غايته من وراء ذلك أن نشعر بالغباء، بل أن نتحرّر من وهم الاستغناء عن الآخرين لأنّه يمنعنا من التقدّم في الاتجاه الصحيح. فما أعظم الحرية التي نشعر بها عندما نتحرّر من الضغط المرهق الناجم عن وهم الكمال!
الاعتناء بالنفس بفضل الآخرين
الحكمة الثانية الشهيرة المنسوبة إلى سقراط هي: "اعتنِ بنفسك". أتحدّاكم أن تجدوا فكرة فلسفية أكثر حداثة من هذه الفكرة. يفرض علينا المجتمع اليوم اتّباع معاييره المنطقية، وقد كان هذا الأمر أكثر حدّة خلال فترة سقراط، إذ كان وجود الناس يتمحور كلّه حول "المدينة". لم يكن هناك مجال للتفكير الذاتي لأنّ هذا المستوى من الحرية كان يبدو مزعجاً. ولم يكن التفكير في الذات أمراً ملزماً مثلما هو اليوم، ومع ذلك فقد كانت ممارسة التأمل واليوغا موجودة بأشكال معينة. لقد أُدين سقراط بعقوبة الإعدام لأنّه تجرّأ على بلورة فكرة حاجة البشر إلى التفكير في ذواتهم.
الاعتناء بالذات لا يعني الانفصال عن العالم، بل يعني عكس ذلك، لأنّ سقراط لا يرى أنّ الجحيم هو الآخر مثل الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre). مارس سقراط ما يُسمّى "فنّ توليد الأفكار" من العقول عبر الحوار. الحوار مع الآخرين إذاً هو ما يتيح لنا مفاتيح الوعي بأنّنا لا نعرف شيئاً أو على الأقل أنّنا لا نعرف كلّ شيء.
لذا؛ كان سقراط يحرص على مقابلة الكثير من الناس لتنفيذ هذه المهمة التي فرضها على نفسه، وقادته إلى محاكمة رهيبة انتهت بعقوبة الإعدام. لم يكن هناك أيّ تساهل مع أولئك الذين يرغبون في توليد الحقيقة في اليونان القديمة، لكنّ سقراط كان أوّل من نبّه الإنسان إلى قدرته على التفكير الذاتي من خلال إدراك الطابع اللانهائي لإمكانات العلم. وكان يرى أيضاً أنّ المحادثات هي العنصر المؤسِّس لحيواتنا، لأنّنا نظلّ في حاجة إلى الآخرين لتحقيق التقدّم نحو المعرفة والوصول إلى حقيقتنا الشخصية.
فما العمل إذاً عندما ندرك في كلّ حوار نخوضه أنّنا لا نعرف شيئاً؟ الحل هو الاستمرار في الحوار. عندما يستغرب أبناؤنا مثلاً من أنّنا لا نعرف الكثير على الرغم من أنّنا أكبر سنّاً، فإنّ واجبنا الوحيد حينها هو أن نسألهم عمّا يعتقدون معرفته. عندما تواجه مثلاً وقاحة الابن المراهق فعليك أن تتبنّى الموقف السّقراطي، وتحاول أن تشرح له "بقدميك الحافيتين وشعرك الأشعث" أنّه لا يعرف شيئاً هو أيضاً، وأنّه لا ضير في جهله هذا لأنّه يتيح له الشعور بأنّه حرّ.
التأمل السقراطي في مواجهة القلق الوجودي
ماذا بعد الاعتراف بأنّنا لا نعرف شيئاً؟ يجب أن نتغلّب على الارتباك الذي يسيطر علينا. التّفلسف يعني تعلّم العيش بطريقة مختلفة، وطرحُ الأسئلة أفضل ما يمكن أن تفعله في نظر سقراط، لأنّه يسمح لك بالانتقال إلى مستوى آخر من الوجود الغنيّ بالأفكار. ربّما اختبرت من قبل هذا الارتباك الناجم عن عدم فهم أيّ شيء. عندما تشعر به قد تميل بشدّة إلى تجاهل شكوكك واستئناف حياتك السهلة والروتينية لكن في هذه اللحظة على وجه التحديد قد يداهمك القلق الوجودي. التفكير الذّاتي مربك فعلاً، لكنّ قبول التساؤلات التي تنبثق منه هو الذي يساعدنا على احتضان حريتنا واغتنامها.
لتقبّل هذا الارتباك الناجم عن الجهل كان سقراط يقضي أوقاتاً طويلة في التأمل، ويظلّ ساكناً دون حراك ساعات كاملة في بعض الأحيان وفقاً لما رواه أفلاطون. هذا يعني أنّ سقراط هو الذي اخترع اليوغا وتأمُّل اليقظة الذهنية الكاملة وفنّ العيش وفق الفكر الأكثر تحرّراً.
اقرأ أيضاً: