كيف نحفظ أجمل ذكرياتنا من النسيان؟

5 دقيقة
أنواع الذاكرة
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)

ملخص: ما قيمة الإنسان من دون ذاكرته؟ إنها أداة رئيسة وحيوية لا يمكنه الاستغناء عنها، لكنّه في حاجة أكبر إلى فهمها واستيعاب قدراتها وإمكانات تطويرها. يقدم المقال التالي معلومات مهمّة عن أنواع الذاكرة وأسلوب عملها وكيفية تقويتها وتعزيز قدراتها. إليك التفاصيل.

هل تتّجه الإعلانات نحو السيطرة على أدمغتنا؟ هل تعلم مثلاً أن الإعلان الذي يُذاع مرّة في الأسبوع على مدار 5 أسابيع متتالية يترسّخ في الذاكرة أكثر من الإعلان الذي يتكرّر 5 مرّات متتالية خلال 5 أيام؟ لقد شكّل هذا الاكتشاف مكسباً غير متوقع للمعلنين، عندما اكتشفوا من خلال أبحاث حديثة حول آليات الذاكرة الوسائل التي تساعدهم على الترسيخ الدائم لصورة علامة تجارية أو منتج معين في أدمغتنا.

هذه الفكرة التي تشكّل موضوع دراسة منذ سنوات في العديد من مختبرات علوم الأعصاب طوّرتها شركة أمباكت ميموار (Impact Mémoire) الفرنسية التي أنشأها خبير الإعلانات برنارد بوييت (Bernard Poyet)، وأستاذ العلوم المعرفية أوليفييه كونيغ (Olivier Kœnig) وطبيب الأعصاب برنارد كروازيل (Bernard Croisile). لقد بلور هؤلاء الخبراء شبكة تحليل تضم أكثر من 30 معياراً، وتسمح بتحديد الآثار التي تتركها رسالة ما في الذاكرة.

توتّر القلق من الغد

تبدو هذه الاكتشافات مخيفة في عصرنا هذا الذي تتزايد فيه شكاوى الناس من عجز الذاكرة، ويعجز فيه الأطفال عن التركيز داخل الفصول الدراسية. تقول الدكتورة المختصّة في العلوم ومؤسِّسة أحد مراكز الاستشارة ومؤلفة كتاب "تقوية الذكاء" (Gym intelligence) مونيك لوبونسان (Monique Le Poncin): "بدلاً من ترك الآخرين يستغلون مواردك الذاتية لمصلحتهم، يمكن أن تتدرّب على استخدام ذاكرتك لمصلحتك الشخصية".

تضيف الخبيرة: "يتزايد اهتمام الكثيرين بقدراتهم الفكرية وقلقهم بشأن أداء ذاكراتهم، إنّه قلق مبرّر، فحياتنا العصرية لا تشجع أبداً على التركيز، والسبب الأول هو التّوتر النّاجم عن الخوف من الغد، وهو خوف يغذيه سيل الأنباء غير السارّة، في ظل هذا الواقع يستحيل أن ينجو دماغك من اجترار الأفكار باستمرار. والسبب الثاني هو أننا نعيش في زمن نتّكل فيه على الدعم والمساعدة، مثلاً نستخدم بكثرة المفكّرات الإلكترونية وقوائم الأرقام الهاتفية المسجّلة وأوراق التذكير اللاصقة، لقد أصبحنا ندوّن أيّ شيء. نحن نسهّل حياتنا من خلال هذه الأدوات لكنّنا نعقّدها في المقابل عندما تحلّ التكنولوجيا محلّ الذاكرة ونتوقف عن تشغيلها إرادياً".

مراكز علاج الذاكرة

ظهرت مراكز العلاج المختصة في مشكلات الذاكرة في مستشفيات فرنسا قبل 10 سنوات، وكان يتردّد عليها في البداية المسنّون المصابون ببعض الأمراض المعروفة، لكنّها أضحت تستقبل رجالاً ونساء تتراوح أعمارهم ما بين 25 و45 عاماً يشعرون بالقلق بسبب حالات النسيان المتكررة. إذا كانت هناك مشكلات دماغية لا مجال لليأس من علاجها فهي مشكلات الذاكرة، باستثناء تلك المتعلقة بالأمراض التنكّسية. فالدماغ عضو مرن، لذا يمكن تدريبه أو إعادة تدريبه. وقد أصبحت تمارين "اللياقة الذهنية" ظاهرة اجتماعية شائعة في الولايات المتحدة الأميركية، كما أنها أصبحت تجارة رائجة تُسوّق فيها كتب وتدريبات وحبوب لتقوية قدرات الدماغ. ولتقييم فعالية هذه الأساليب عليك أن تعرف بعض المعلومات الضرورية حول كيفية عمل الذاكرة.

حفظ المعلومات في 3 مراحل

ليس هناك مركز واحد مسؤول في الدماغ عن حفظ المعلومات الخارجية وترتيبها وتخزينها وتذكّرها. نحن نمتلك مركّباً عصبياً نحفز من خلاله الوظائف الرئيسة كلّها مثل الإدراك واللغة والعواطف والتفكير، بينما تشكّل ذكرياتنا ثمرة عملية حفظ يمكن تلخيصها في 3 مراحل.

أولاً مرحلة الذاكرة الحسّية: تستمر بضع ثوانٍ وربّما أقلّ في بعض الأحيان. تنقل الحواسّ الخمس خلال هذه المرحلة المعلومات الخارجية إلى الدماغ، وتشكل ما يشبه "بوابة" ذكرياتنا.

تأتي بعد ذلك مرحلة الذاكرة الفورية التي تُسمّى أيضاً "الذاكرة القصيرة المدى" أو "ذاكرة العمل" التي تستمر ما بين بضع ثوانٍ وبضع دقائق. تتميّز الذكريات في هذه المرحلة بقصر عمرها. على سبيل المثال: عندما تفكّر في الاتصال بشخص ما، تبحث عن رقمه في القائمة ثم تسجّله في ذاكرتك، وإذا لم يكن هناك ما يشوش ذهنك يمكنك أن الاتصال به دون أن تخطئ في رقمه. لكن إذا وجدت هاتف صديقك مشغولاً مثلاً وأردت أن تعيد الكرّة بعد دقيقة فمن المحتمل أن تكون قد نسيت الرقم.

ثم هناك مرحلة الذاكرة الطويلة المدى التي تستمر ساعات أو أياماً وإذا اعتنينا بها فقد تستمر سنوات. ترتبط هذه الذاكرة بمواضيع التعلّم والتّجارب الشخصية. وفي هذه المرحلة يظهر بعض مشكلاتنا. توضّح مونيك لوبونسان ذلك: "هناك فرق كبير بين تحفيز الذاكرة وتنشيطها، نحن نحفز الذاكرة عندما نستقبل معلومة ما وننشّطه عندما نستجيب لها، هذا هو الفرق بين الاستجابة السلبية والاستجابة الفعّالة، فسيل المعلومات الذي نستقبله قد يكون إيجابياً، لكن يجب أن نكون قادرين على ترتيب هذه المعلومات والاحتفاظ بما نحتاج إليه ونسيان ما لا جدوى منه".

تمرين الحفظ المفيد

إن العملية أبسط مما يبدو. تبّرر مونيك لوبونسان نصائح الوصفات السهلة التي تقدّمها قائلة: "لا يتعلّق الأمر بتقوية الخلايا العصبية من خلال تمارين الذاكرة، بل يجب أن نتدرّب على الحفظ المفيد وبأسلوب جيد، على سبيل المثال إذا أردت أن تحفظ اسم شخص قابلته لا تكتف بملاحظة وجهه، بل ركّز على طريقة نطق اسمه واطلب منه أن يكرّره".

علينا إذاً أن نبدأ بالانتباه إلى حاسّتَي البصر والسمع. إذا كانت "مداخل" الذاكرة لا تعمل جيداً، فمن المستبعد أن نستقبل المعلومات وفقاً لما هو مطلوب، علاوة على ضرورة أخذ الوقت الكافي للعملية. فكّر على الأقل 3 مرّات في المعلومة التي تريد حفظها، فهذا الأمر سيتيح لدماغك المدّة الكافية لتنشيط الشبكات العصبية وهي 20 ثانية.

أخيراً درّب ذاكرتك يومياً من خلال معلومات مفيدة مثل قوائم المشتريات والمواعيد ومقادير الوصفات الغذائية إلى غير ذلك. ثم واظب على كتابة مذكرات شخصية ومفيدة تبذل من خلالها جهداً في تخيّل الصور والأحداث والأحاسيس، لأن ذلك سيساعدك على تنشيط ذاكرة العمل. لكنّ لوبونسان تستدرك قائلة: "ليست ممارسة التمارين غاية في حدّ ذاتها، فالمطلوب هو أن تخصّص الوقت الكافي لتطوير قدراتك ومعالجة أسباب القلق التي تُضعف الذاكرة كثيراً، وأخيراً يجب أن تبادر إلى تبنّي نهج فعّال من خلال الانضمام إلى دورة تدريبية أو الاستفادة من متابعة فردية وتطبّق هذا النهج في حياتك اليومية، وهذا ما يتطلّب ما بين 6 و8 أشهر من التعلّم، فهذه الطريقة في تطوير الذات تُعدّ إحدى أفضل وسائل التعلّم باستقلالية" والحلّ المناسب للإفلات من المعالجين المحتالين والأدعياء.

لكلّ ذاكرة مهمّتها

حدّد علم وظائف الأعصاب قائمة أنواع الذاكرة المختلفة والضرورية لحياتنا اليومية:

  • الذاكرة المعجمية: تتضمن الكلمات والأسماء لكن دون دلالات أو معانٍ.
  • الذاكرة الدلالية: إنها ذاكرة قوية جداً، وتتضمن معاني الأشياء والكلمات ودلالاتها. قد تشعر أحياناً أنّ هناك كلمة ما على طرف لسانك لكنّك لا تستطيع تذكّرها. تعدّ هذه الظاهرة "عجزاً عن الاسترجاع" وفشلاً في الوصول إلى المعلومة، وهي تحدث عندما تعجز الذاكرة الدلالية عن العثور على الكلمة التي تبحث عنها في الذاكرة المعجمية.
  • الذاكرة العاطفية: إنها مخزن العواطف. ترتبط غالباً بشعور الخوف الذي ينتابك إذا عشت تجربة مزعجة مرة ثانية.
  • الذاكرة الجسدية: يتعلّق الأمر بالأحاسيس الجسدية التي تذكّرنا على سبيل المثال أن النّار تحرق وأن الجليد بارد.
  • الذاكرة الإجرائية: يتحكّم فيها المخيخ وتساعدنا على تعلّم الحركات، مثل الكتابة على لوحة المفاتيح.

لا ننسى أيضاً أنواع الذاكرة الأخرى المرتبطة ببعض الأنشطة مثل الذاكرة الموسيقية وذاكرة الوجوه وذاكرة الحكايات إلى غير ذلك.

تمارين تدريب الذاكرة

لتدريب الذاكرة يومياً بطريقة مفيدة وممتعة في الوقت نفسه تقترح مونيك لوبونسان تمرين حفظ الأرقام الهاتفية. لنأخذ على سبيل المثال رقم: 01.97.74.26.69. كلّما كان عليك تركيب رقم لا تحفظه عن ظهر قلب فاستخدم هذه الطريقة:

  • مرّر إصبعك على رقم الهاتف بتركيز، محترماً ترتيب أرقامه. في المثال الذي قدّمناه يمكنك أن ترسم بإصبعك دائرة على رقم 7 المكرّر مرتين.
  • كرّر التمرير 3 مرات كي تنشّط الذاكرة الإجرائية (ذاكرة تعلّم قيادة الدرّاجة!) التي تسجّل المعلومة على نحو دائم.
  • في المرة الثانية أغمض عينيك ثم تصوّر الأرقام وحركة الإصبع. فالصورة يمكن أن تخزَّن مدة أطول لأن 95% من "مداخل" الذاكرة بصرية.
  • يمكنك أيضاً رسم مسار حركة إصبعك على ورقة كي ترسّخه في ذاكرتك، بالاعتماد مثلاً على طريقة "التفكيك والمطابقة" والمقصود بها تفكيك معلومة ما وربط كلّ جزء من أجزائها بصورة معينة ليسهل حفظها، ويمكنك في هذه الحالة أن تربط مكونات الرقم الهاتفي بصورة منزل مثلاً.
  • التصور البصري مبدأ عالمي يساعد على اكتساب المعارف، لذا؛ من السهل حفظ قصيدة شعرية مثلاً من خلال محاكاتها وتشخيصها بدلاً من ترديدها.

اقرأ أيضاً:

المحتوى محمي