يعد سلوك مقارنة النفس بالآخرين "سم" تقدير الذات، وأصل مشاعر الحسد، والغيرة؛ لكنه من جهة أخرى، وفي ظل ظروف معينة؛ يمكن أن يكون مصدراً للمتعة والمعرفة، وطريقة للتحقيق في السلوك المنتقَد.
- منعكس طبيعي
- تأثير السمكة الكبيرة
- المقارنة هي ضرورة للتقدم
يشير موقع "ويكاموس" إلى أن المقارنة في حد ذاتها ليست سوى عملية ذهنية بسيطة، تتكون من "وضع عنصرين متوازيين من أجل فهم أوجه التشابه والاختلاف بينهما". يقول بول إيلوار في مجموعته الشعرية "قصائد الحب": "الأرض زرقاء كبرتقالة". وكانت عبارة: "إنه جيد كما يُقال!" شعاراً مشهوراً لإعلان طبق الكسكس المطبوخ من شركة "غاربيت"، يعود تاريخه إلى عام 1978، وكان غرض الشركة من هذه المقارنة آنذاك هو طمأنة المستهلك حول أصالة المنتج.
تنطوي مقارنة النفس بالآخرين على تقييم ما لديك، أو ما لدى الآخر. قد تتساءل امرأة تعرضت للهجر بقلق عن وضع امرأة أخرى متعجبة: "بماذا هي أفضل مني؟" وقد يتساءل كاتب يعاني من ركود مبيعات كتبه: "ما الذي يجعل رواية (الأشقاء بوجدانوف) أنجح من روايتي؟".
لماذا نستسلم "لسم" المقارنة؟ (قلنا السم، لأن معظم المعالجين النفسيين يرون أن المقارنة هي بالضرورة "سامة" لتقدير الذات). وإذا كان دأب مجتمعنا، المولع بسلوكيات المنافسة والتقييم، هو تغذية سلوك المقارنة، فإن هذا السؤال ليس جديداً. يُعرب الفيلسوف سبينوزا في كتابه "علم الأخلاق"، عن أسفه لهذا المنعكس الذي لا يولّد سوى "المشاعر الحزينة" مثل الحسد، والكراهية، والحزن، والشعور بالنقص، ويوصي بشدة بالاستفادة مما سماه "متعة الأعمى" الذي طالما يمتنع عن قياس نفسه بمن يُبصر، فلن يشعر بالنقص إطلاقاً.
منعكس طبيعي
بعد قرون على كتاب سبينوزا، لا يزال منعكس المقارنة هذا مرجعاً في النهج اليومي للعلاقات الإنسانية. فهل هذا المنعكس هو حالة فطرية طبيعية لجنسنا مثل غريزة الفرار أو الخوف من الثعابين؟ من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، معرفة ذلك لأننا نمتص آثار هذا السلوك منذ الطفولة المبكرة، من خلال كلمات الوالدين عند إجراء هذه المقارنات، التي لا تكون في صالحنا غالباً. "انظر إلى أخيك، إنه حكيم، يجب أن تتخذ منه قدوة"، "عندما كنت في سنك كان يمكنني السباحة!"، وغيرها الكثير. تحث فرانسواز دولتو المختصة في التحليل النفسي، والمهتمة بقضايا الأطفال، الآباء على التخلي عن هذا السلوك مع أبنائهم، لتوعيتهم بخصوصية كل إنسان وأهمية اكتساب صورة جيدة عن الذات. ولكن من الواضح أن الرسالة لم تُمرر بالكامل، وكأنه يستحيل على الآباء الامتناع عن هذا النشاط التربوي غير المنتج.
لكن اللوم لا يقع على عاتق الآباء وحدهم. فنحن وخلال سعينا لبناء ذاتنا وشخصيتنا، نقيس أنفسنا بالآخرين، ونختار نماذج معينة لذلك. كما أن هذه المُثُل العزيزة علينا هي نفسها مستعارة من الأشخاص الذين نقدرهم. وتنطوي الرغبة البشرية، في جوهرها، على التقليد، يقول الفيلسوف رينيه جيرارد: "نحن نعتمد على الآخرين لمعرفة ما هو مرغوب أو مكروه. نحن نريد أن نكون مثل أولئك الذين نعجب بهم وأن يكون لدينا ما يتمتع به إخواننا من البشر. وفي الوقت ذاته، ننظر إلى الآخر الذي نقلده كمنافس لنا، لذا فإن الروح العدوانية والتنافسية هي التي تكمن وراء العلاقات الإنسانية".
تأثير السمكة الكبيرة
يخضع منعكس المقارنة لقواعد معينة. على سبيل المثال، لمعرفة ما إذا كنتُ لاعب تنس جيد فأنا لن أتحدى عجوزاً طريح الفراش، إنما شخصاً بقدرات بدنية قريبة من قدراتي. كذلك إذا كنتُ أرغب في اختبار ذكائي، فلن أتنافس مع شخص يعتبر محدود الذكاء. عندما يتعلق الأمر بمقارنة أنفسنا بالآخرين، فنحن "نسبح" في "تأثير السمكة الكبيرة في البركة الصغيرة". وهو يعني أن نفس السمكة ستبدو ضخمة في بركة صغيرة، بينما ستبدو صغيرة جداً في عرض المحيط. فالسياق هو الذي يعطينا سبباً للابتهاج حول وضعنا أو الشكوى منه، ويوضح هربرت دبليو مارش، المختص بعلم النفس التربوي، ومبتكر تأثير "السمكة الكبيرة في البركة الصغيرة" (BFLPE): "إذا كان متوسط الدرجة للفصل الدراسي في تمرين الرياضيات هو 8 درجات، سيشعر الطالب الذي أحرز 12 درجة بالفخر وسيزداد إحساسه بتقدير الذات. بينما إذا كان متوسط الدرجات حوالي 17 درجة فسيعتقد هذا الطالب نفسه أنه لم يؤد أداءً جيداً.
ويؤكد عالم الاجتماع إرفينغ جوفمان في إحدى مقالاته الأولى، "مسرح الحياة اليومية، عرض الذات"، إن الحياة في المجتمع هي التي تجبرنا على إجراء مقارنات من هذا النوع. ووفقاً له، فإن العالم الاجتماعي هو عبارة عن مسرح شاسع مقيد بالمعايير والقيم والأهداف القيمة التي يجب تحقيقها. ويسعى الفرد سعياً مستمراً لتحقيق أهدافه، كرجل أو امرأة وضمن أدوارٍ متعددة مثل: الزوج أو الزوجة أو الوالد أو الحبيب أو العامل، لإرضاء الآخرين، وإثارة إعجابهم، وجعلهم يعتقدون أنه سعيد، وأن كل شيء يسير في صالحه، أو على العكس من ذلك، أنه ضحية لمصير قاس. فنحن نقارن أنفسنا بالآخرين لمعرفة "المعسكر" الذي ننتمي إليه، معسكر الأشخاص الذين يغار منهم الآخرون، أو معسكر الفاشلين.
المقارنة هي ضرورة للتقدم
تكمل نظرية المقارنة الاجتماعية التي وضعها عالم الاجتماع الأمريكي ليون فيستينغر في الخمسينيات هذا التحليل. ووفقاً له، فإن سلوك مقارنة الذات بالآخرين هو أيضاً ضرورة للتعرف عليها ولتقدم الفرد. فمحاولة التوافق مع الشخص الذي يُعتقد أنه متفوق (المقارنة التصاعدية) يغذي الطموح، كما يغذي تحقيق هذا التوافق احترام الذات. أما مقارنة الذات بالأشخاص الأكثر تعاسة (المقارنة من أعلى إلى أسفل) فهي تعمل على جعل إخفاقاتنا نسبية، وتمنحنا الراحة عند التفكير في أن هنالك من يعاني وضعاً أسوأ من وضعنا بكثير، وفي بعض الأحيان تمنحنا شعوراً سادياً بالفرح.
يرى الباحثون المعاصرون والمتخصصون في شبكات التواصل الاجتماعي، أن لحظات السعادة التي يشاركها أصدقاؤنا على فيسبوك (إجازات الأحلام، أو حفلات الزفاف الجميلة، أو الإعلان عن نجاح أطفالهم في منافسة صعبة ...) هي أمر محبط للبعض، بينما يرى فيستنغر أن الاطلاع على سعادة الآخرين هو أيضاً مصدر لسعادتنا إذا عرفنا كيفية إظهار التعاطف والإيثار. ليست مقارنة النفس بالآخرين ضارة في حد ذاتها، إنما ما يضر هو التفكير "العصابي" إلى حد ما بأنه إذا لم نكن في القمة، فنحن لا شيء. وإذا كانت سعادة الآخرين تزعجنا حقاً، فربما يعود ذلك إلى مرحلة من حياتنا لم نتمكن من تخطيها، مثل الوقت الذي شعرنا فيه بالغيرة من أشقائنا الأصغر سناً، والذين من المفترض أنهم كانوا أنهم أكثر حظاً منا. ومع ذلك، لا أحد على هذه الأرض، ما لم يكن رجلاً خارقاً، يمكنه التباهي بأنه خالٍ تماماً من مشاعر الحسد والغيرة.