تطبع خيبة الأمل علاقاتنا بالعمل لأسباب عديدة؛ كعدم الاعتراف بجهودنا، أو التوتر الناتج عن ساعات العمل الطويلة، أو الصراعات التي تنشب داخل المكاتب. فهل هي خيبة أمل عابرة على خلفية الأزمة الاقتصادية، أم رغبة في قطيعة جذرية مع العمل نفسه؟
هل حلمت يوماً أن ينقلب جدول أسبوعك الزمني وينحصر وقت العمل في عطلات نهاية الأسبوع وحدها؟ هل تشعر بانتظام بالحاجة إلى التغيّب عن العمل؟ هل تثير لديك عبارة "إجازة مفتوحة" إحساساً رائعاً؟ إذا كانت إجباتك "نعم" ... فأنت أيضاً لديك هذه الرغبة!
"أنا/ لا /أريد/ أن أعمل، لا أريد ..." بعد أربع سنوات من نجاح هذه الأغنية التي أطلقتها المجموعة الغنائية "بينك مارتيني"، لا يزال لحنها يتردد في أذهان الجميع. ولم تكد الحكومة الفرنسية قبل سنوات تعلن إمكانية رفع سنّ الإحالة إلى التقاعد حتى اندفعت حشود من الموظفين إلى الشوارع للاحتجاج بغضب. "نحن نعيش في مجتمع الكسالى" هكذا عبّر جاك باغو؛ رئيس الفريق البرلماني لحزب التجمع من أجل الجمهورية في الجمعية الوطنية، حينها بتذمر. بل إن رئيس الوزراء الأسبق جان بيير رافاران كان يشعر حينها بالقلق من "تدهور قيمة العمل" في فرنسا، وطلب تقريراً من المجلس الاقتصادي والاجتماعي حول مكانة العمل في المجتمع الفرنسي.
هل يعني هذا أننا فقدنا بشكل نهائي طعم العمل؟ فبين القطيعة والاستقالة ترسّخ الشعور بالضيق من العمل على أي حال، وأكّده العديد من الموظفين والمراقبين.
الإحباط يسود بين كل فئات الموظفين
تروي كوثر البالغة من العمر 33 سنة؛ والتي تنتمي إلى الكوادر العليا، أنها تذهب إلى العمل كل صباح وهي يائسة. تقول عن ذلك: "لقد خصّصت كل وقتي لعملي لسنوات، حتى ترقّيت إلى فئة المسؤولين. كل هذا للحصول على ترقية سخيفة: منصب بساعات عمل سنوية محدّدة، و"معدل تعويض ثابت" (هذا يعني عدم احتساب أي ساعات عمل إضافية...) وبراتب يقلّ عن راتب أمينة الصندوق في مركز تجاري كبير بالأقدمية نفسها! لم يكن المال أبداً دافعاً بالنسبة لي. أنا فقط لدي انطباع بأنه بدلاً عن الحصول على ترقيات؛ أصبحت كسلعة تباع في التخفيضات!".
هذه الشابة؛ التي كانت سابقاً ضحية لإفلاس شركات أخرى، أصبحت اليوم على وشك الانهيار العصبي. تلاحظ الفيلسوفة دومينيك ميدا في كتابها "العمل، قيمة في طريق الانقراض" (Le Travail, une valeur en voie de disparition) أن: "شعور الرضا بالعمل يواجه أكثر فأكثر تعقيد ظروفه على مستوى وتيرته وآجاله وأهدافه التي يزداد تحقيقها صعوبة، وكذلك تزايد أوضاع الهشاشة والتهديد بالتسريح من الوظيفة".
لقد كسر الانتشار الواسع للبطالة عقد الثقة بين العامل والعمل، وقد عاشت جنى هذه التجربة المؤلمة، وتقول عن ذلك: "قبل ثماني سنوات، طُردت من العمل بسبب إفلاس الشركة. كان عمري 45 عاماً حينها، وكنت أعيش بمفردي مع ابني المراهق الذي أرعاه، ويبلغ من العمر 17 عاماً. وسرعان ما أدركت أنه لم تعد لدي فرصة لإيجاد عقد عمل دائم مع شركة أخرى بسبب سِنّي. لذلك اخترت الالتحتاق بالوظيفة العمومية بالمستشفى؛ لكن لم تعد لدي أي آفاق مستقبلية". لم يعد العمل بالنسبة للموظف إذاً ملاذاً آمناً؛ ولكنه أصبح عاملاً مثيراً للقلق. ويكفي أن يلقي المرء نظرة على النجاح الذي تحققه الكتب المتعلقة بالتّوتر والتنمّر داخل العمل حتى يقتنع بذلك.
تضيف جنى: "لقد بلغ بي الإحباط حدَ أنني لم أعد أبذل جهداً ... ولا أشعر بالذنب حيال ذلك! سيكون الحل الوحيد أمامي هو تغيير مساري؛ لكن ذلك لا يمكن تصوره في سنّ الثالثة والخمسين. يجب أن أتقبل الشعور بالضغط مساء كل أحد بسبب تذكّري أنني سأعود إلى العمل في اليوم التالي ..."؛ ولكن عالم الاجتماع مارك لوغيول يلاحظ في كتابه "زمن الإرهاق" ( Le Temps de la fatigue)، أن: "الشكوى من الإرهاق تعبّر عن الشعور بعدم حصول الموظف على الاعتراف بقيمته الحقيقية". وهذا ما توضحه كنانة؛ المسؤولة التنفيذية التي تحصل على راتب متدنٍ، بعد أن تطلّب الأمر عامين من الجلسات العلاجية حتى تعبّر عن إحباطاتها. تتساءل قائلةً: "ما الذي يمكن أن يحفزني على العمل مجدّداً؟ إنه الشعور أخيراً بأنني أستطيع أن أستغلّ عملي من أجل التطور، وأن يتناسب الراتب الذي أحصل عليه في نهاية الشهر مع ما أقدمه فعلاً من ذاتي ووقتي وطاقتي".
الحياة الحقيقية في مكان آخر
لقد بدأ المواطنون ينأون بأنفسهم، وينوعون خياراتهم في مواجهة إحساسهم بالإحباط الناتج عن حالة البطالة المقنّعة، أو العمل فوق طاقتهم؛ حيث يتعرّضون باستمرار لسوء المعاملة داخل الشركات، ويسلّط عليهم سيف التّسريح من العمل دائماً. فبين متابعته لإعلانات الموقع الإلكتروني "Voyagerpascher.com" المتخصص في تخفيضات الرحلات السياحية، وتركيزه على أجندته الخاصة، يبدو أن موظف الألفية الجديدة أصبح مهتمّاً بأمور أخرى أكثر من اهتمامه بوظيفته. لقد بدأت تلك الأحلام والطموحات التي يُشار إليها في نهاية السيرة الذاتية للموظف تتحول إلى حقيقة، وأصبح كل واحد من الموظفين يبحث عن "توازنه"، فتجد البعض يسعى لقضاء عام كامل في أستراليا، أو الانضمام لمنظمة إنسانية دولية، أو على الأقل ممارسة البستنة أو تعلّم الرسم ... لقد أصبحت هذه الرغبات أكثر شرعيةً منذ أن حُددت ساعات العمل بـ 35 ساعة أسبوعياً لأوقات الفراغ اعتبارها (×) إذ يذكر 70% من الكوادر الشابة التوازن بين العمل والحياة الخاصة كمكون أساسي للتحفيز حسب استطلاع للرأي نُشر على مجلة "كوغييه كادر إكسبريس" في مايو/أيار 2003.
يقول بلال؛ مدير مشروعات التسويق، البالغ من العم 33 عاماً، إنه مستعد للانضمام إلى هذا الجيل الجديد من الموظفين الذين سئموا صراعات المكاتب، ولم يعودوا يتخيلون أنفسهم مستعدين للتضحية بوجودهم من أجل العمل: "بعد سنوات طويلة من دراسة تخصص التجارة؛ التحقت قبل 6 سنوات بقسم الابتكار في إحدى شركات الإعلانات الشهيرة. كان عليّ أن أكون سعيداً، ومع ذلك فأنا مكتئب! عليك دائماً العمل لساعات لا محدودة، وأنت مضطر للظهور بشكل جيد أمام العملاء بينما تكون متعباً، مع الشعور دائماً بأن زميلك ينتظر أقلّ فرصة لتجاوزك. كنت أعلم أن كل ذلك جزء من هذه الوظيفة؛ لكن ليس إلى درجة أن تتمحور حياتي كلها حولها! لم أؤسس شيئاً في كل هذه السنوات؛ لا عائلة ولا أي شيء آخر. الحل الوحيد أمامي هو أن أفعل مثل هؤلاء الأشخاص الذين يغيّرون حياتهم ويستقرون في بقعة نائية من هذا العالم للهروب من التّوتر، أو ببساطة من أجل العيش".
الحقّ في الاختيار
في مجتمع أصبح فيه عدد الأشخاص غير النشطين أكبر من عدد المواطنين الذين يعملون، فإن "مدمني العمل" أنفسهم يعبّرون عن امتعاضهم. لماذا سيعمل الإنسان مثل الدابة في عصر التنمية الذاتية؟ فمع تزايد مدّة الدراسة وأمد الحياة وارتفاع الطلب على التقاعد المبكر، "تحتلّ أنشطتنا المهنية اليوم بالكاد 15% من وقتنا مقابل 70% في عصر نابليون الأول"، كما يؤكد عالم الاجتماع جان فيارد مؤلف كتاب "تتويج وقت الفراغ: مجتمع الخمس وثلاثين ساعة" (Le Sacre du temps libre : la société des 35 heures). لقد أصبح الفرنسيون أبطال أوروبا في أوقات الفراغ. وعلى الرغم من ذلك، فقد قال 66% منهم إنهم يريدون إعطاء أهمية أقلّ للعمل، متقدمين بفارق كبير على جميع مواطني دول الاتحاد الأوربي الأخرى حسب مسح حول "قيم الأوروبيين" أًجري في يوليو/تموز - أغسطس/آب 2002؛ بل إن بعض الكوادر أصبحوا يؤكدون أنهم يفضلون الحصول على دخل أقل بدلاً عن التضحية بأيام الإجازة.
هل أصبح الموظفون الجدد إذاً كسالى حقيقيين؟ يحلّل بيغناغ لُوميه؛ مدير الموارد البشرية في بنك "بي إن بي باريبا" (BNP Paribas) هذا الوضع، وهو الذي يقترح على موظفيه أكثر من 1,300 جدول زمني على المقاس!: "إن هؤلاء الموظفين لا يعملون بجهد أقل؛ وإنما يرغبون في تنظيم وقتهم بالشكل الذي يرونه مناسباً لهم". وفي إطار هذا السعي وراء السعادة المعمّمة على الموظفين؛ لا يزال يتعين علينا ابتكار أنماط جديدة من العلاقات بين الموظف والعمل. ولهذا يدعونا بِغْناغ غازييه؛ مؤلف كتاب "كلنا موظفون سامون" (Tous sublimes, Flammarion) والمختص في اقتصاد العمل وسياسات التشغيل، إلى البحث عن ذلك لدى الموظفين "السّامين" الذين كانوا مؤهلين تأهيلاً عالياً، ومفضّلين جدّاً في حقبة نهاية الإمبراطورية الفرنسية الثانية؛ حيث كانوا يناوبون بين العمل والترفيه حسب ما يناسبهم...
لقد استطاع العصر الحديث أن يحرّر الإنسان من خلال العمل، فهل ستتمكن الحقبة المعاصرة من تحريره من خلال الترفيه؟
معاناة الموظفين من أبناء الثلاثين
تعاني كوادر الموظفين من أبناء الثلاثين بسبب سوق العمل الراكد؛ حيث يقول 30% منهم إنهم "محبطون"، بينما تصل هذه النسبة إلى 24% في أوساط الكوادر من مختلف الأعمار. وقبل حصولهم على أول وظيفة، عانى 42% منهم من البطالة، كما أن ولوج الحياة المهنية بهذا الثمن الباهظ لم يضع حداً لخيبات آمالهم؛ حيث شعر 30% منهم بخيبة أمل من أهمية العمل الذي حصلوا عليه، و27% منهم بسبب مستوى المسؤوليات التي أُسندت لهم، بينما شعر 25% بهذه الخيبة بسبب مجال العمل الذي التحقوا به. وبما أنهم أكثر إلحاحاً من أسلافهم من الموظفين، فإن 68% من هؤلاء الكوادر الشابّة يعتقدون أن آراء الموظفين لا تؤخذ في الحسبان بشكل كافٍ في الشركات.
(المصدر: مسح أجرته مؤسسة "لويس هاريس" في الفترة من 9 إلى 24 مايو/أيار 2003).
انبعاث الأمل
على الرغم من اعتراف الكثير من الفرنسيين بضعف الحافز للعمل؛ فإن 54% منهم مستعدّون -وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة "إيفوب" (Ifop)- للعمل في يوم إجازة وطنية لمساعدة كبار السن.
وتفسّر أخصائية التحليل النفسي هيلين فيكيالي ذلك بالقول: "هناك بالتأكيد إحساس عام بالذنب بخصوص هذه الوفيات التي تحدث لكبار السن في باريس دون أن يأتي أحد ليسأل عن جثامينهم. ويمثل المسنّون في اللّاوعي الجماعي جذورنا وحكمة البلد وشرفه، وهناك أيضاً إسقاط ذاتي يحدث هنا، فالجميع يعلمون أنهم سيتقدّمون في السن يوماً ما. ومن هنا ظهر هذا الإجراء "كدواء" يسمح لنا بتحرير أنفسنا من الشعور بالذنب".
لكن موجة التضامن هذه لها حدود، فأصحاب المهن الذين لا يستفيدون أصلاً من إجازات الأعياد الوطنية؛ كالمزارعين والمتقاعدين والتجار، يطالبون بتنفيذ هذا الاقتراح، بينما يعارضه تماماً المعنيّون به؛ مثل العمال والموظفين.
(المصدر: مسح أجرته مؤسسة "إيفوب" (Ifop) في 28 و29 أغسطس/آب 2003 لفائدة جريدة "لوجوغنال دو ديمانش" الفرنسية (Le Journal du dimanche).