“أنت لست وظيفتك”: كيف تستوعب الأبعاد المختلفة لذاتك؟

6 دقيقة
الأبعاد المختلفة لذاتك
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: لنفترض معاً أنك انتهيت من عملك أخيراً بعد يوم طويل وقررت مقابلة أصدقائك، ما الموضوعات التي ستحدثهم عنها؟ هل ستخبرهم عن آخر إنجازاتك في العمل؟ وحين تذهب إلى بيتك، هل ستحكي مع أهلك عن مشروعك الجديد؟ الحقيقة أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يعتقدون أن أعمالهم هي هوياتهم، وهي التي تعكس قيمَهم الذاتية؛ ولكن الحقيقة ليست كذلك، فكيف تستوعب الأبعاد المختلفة لذاتك؟ الإجابة في هذا المقال.

لو سُئلت "مَن أنت؟"، ماذا ستقول؟ غالباً ما يُطرح هذا السؤال في المقابلات، خاصة حين تلتقي بشخص جديد كوسيلة لدعم التواصل. وفي الكثير من الأحيان، نعرّف أنفسنا بناءً على أعمالنا معتقدين أنها تجسد هوياتنا وقيمَنا الذاتية. وعلى الرغم من أن العمل يلعب دوراً مهماً في تشكيل هوياتنا، ففي النهاية لسنا وظائفنا. نحن أكبر من ذلك بكثير؛ ولكن الثقافة العصرية السائدة حالياً ترسخ فكرة أن العمل ليس ضرورياً للإنتاج الاقتصادي فحسب؛ بل هو أيضاً محور هوية الفرد وهدف الحياة، فكيف يمكنك أن تستوعب الأبعاد المختلفة لذاتك وتشعر بقيمتك الذاتية بعيداً عن وظيفتك؟ الإجابة من خلال هذا المقال.

ما القيمة الذاتية؟

وفقاً للجمعية الأميركية للطب النفسي (The American Psychological Association)؛ فإن القيمة الذاتية هي تقييم الفرد لنفسه باعتباره إنساناً قيّماً ومتمكناً يستحق الاحترام والتقدير. وفي الكثير من الأحيان، يتداخل مفهوم القيمة الذاتية مع احترام الذات لكنهما لا يعنيان الشيء نفسه، فوفقاً لما ذكرته المعالجة النفسية أنجيل مينوتو (Angel Minuto)؛ فإن القيمة الذاتية تصف مدى تقديرك لنفسك، وهي تنبع من داخلك؛ أما احترام الذات فإنه ينبع من عوامل خارجية مثل موافقة الآخرين أو كيفية أدائك لمهام معينة. بمعنىً آخر: يمكن القول إن القيمة الذاتية اعتقاد داخلي عميق بأنك تستحق الحب والاحترام، بغض النظر عن إنجازاتك أو قدراتك.

ويُعتقد أن الشخص الذي يتمتع بقيمة ذاتية مرتفعة يكون أكثر استقراراً وإيجابية من الشخص الذي يحظى باحترام الذات؛ وذلك لأن القيمة الذاتية توفر للأفراد الحماية ضد التوتر ويمكن أن تجعل الشخص أكثر سعادة ونجاحاً في الحياة، وإذا كنت شخصاً يملك قيمة ذاتية مرتفعة فمن المرجح أنك:

  1. تؤمن بأنك جيد وجدير بالثقة بغض النظر عما يحدث في حياتك.
  2. تتقبل نفسك وتحبها كما هي الآن، دون شروط أو استثناءات.
  3. تؤمن بقدرتك على النمو والتعلم والتغيير نحو الأفضل.
  4. ترتكب الأخطاء لكنك لا تدع هذا الأمر يؤثر في قيمتك.
  5. تمارس التعاطف مع ذاتك وتعامل نفسك بعناية ولطف.

اقرأ أيضاً: ما معنى أن تحب نفسك؟ وكيف تطبق ذلك في حياتك؟

5 علامات تحذيرية تدل على عدم امتلاك القيمة الذاتية 

قيمة الذات هي الأساس الذي ينطلق من خلاله قبول الذات واحترامها، ودون الشعور بإحساس قوي بالقيمة، يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن تشعر بأنك تستحق الحب أو القبول من الآخرين. ويمكن القول إن الآثار المترتبة على افتقار القيمة الذاتية كبيرة، فأولئك الذين لديهم تقدير ذاتي محدود عادة ما ينخرطون في العلاقات السامة والسلوكيات المضرّة التي تشمل الحديث السلبي عن النفس وتخريب العلاقات بسبب الشعور بعدم استحقاقهم لها. وهناك بعض العلامات التحذيرية التي تدل على عدم امتلاك القيمة الذاتية؛ مثل:

  1. تجنب الأماكن أو العلاقات أو المواقف الجديدة.
  2. الحاجة الدائمة إلى موافقة الآخرين.
  3. الشعور العميق بالخجل من الذات.
  4. الحساسية الشديد للنقد.
  5. عدم القدرة على قبول مجاملات الآخرين.

لماذا يربط بعض الناس قيَمهم الذاتية بالعمل؟

تؤكد أستاذة علم النفس بجامعة ويلفريد لوريير (Wilfrid Laurier University)، آن ويلسون (Anne Wilson)، إن معظم الناس قديماً لم يتمكنوا من اختيار وظائفهم؛ حيث كان الأمر عادة يمتد عبر الأجيال؛ إذا كان والدك نجاراً فسوف تصبح نجاراً أيضاً! ولكن مع مرور الوقت وانتشار التعليم، ظهرت وظائف أكثر تنوعاً ومصادر دخل أكثر ارتفاعاً؛ ولذلك أصبحت الوظائف تجسد جزءاً مهماً من الهوية. إذا كنت جراحاً على سبيل المثال، فهذا يعني أنك تتمتع بتعليم قوي ودخل مرتفع وهما مقياسان مهمان يمكن أن يحددا مكانة الشخص في المجتمع ويؤثرا في كيفية حكم الناس عليك. والحقيقة أن هناك الكثير من الأفراد الذين يفضلون ربط قيَمهم الذاتية بوظائفهم وذلك لأنهم يرغبون في ربط أنفسهم بالثروة والإنجازات التي تنطوي عليها ألقابهم المهنية.

وفي سياق متصل، توضح أستاذة علم النفس السريري، سابرينا رومانوف (Sabrina Romanoff)، إن الثقافة العصرية السائدة تركز على أهمية الإنجاز الوظيفي أو الوظائف ذات المكانة العالية التي توفر لأصحابها مكاناً في أعلى الهرم الاجتماعي. وبالنسبة إلى الكثيرين، يرتبط الإنجاز الوظيفي بالحصول على القبول من الوالدين أو الزملاء أو الأشخاص المقربين؛ ولهذا غالباً ما يُشجع النجاح الوظيفي ليكون هو الهدف الأول في الحياة. بعد ذلك، يصبح العمل محورياً للغاية في حياة الأفراد إلى درجة أن بعض الأفراد قد يخشون الفشل أو الرفض من أسرهم أو مجتمعهم إذا لم يحققوا إنجازات كبيرة في العمل. وتضيف رومانوف إن المفارقة تكمن في أن هذا الخوف الشديد يدفعهم إلى الانخراط بشدة في العمل؛ ما يعزلهم عن أسرهم والأشخاص الذين يهتمون لأمرهم؛ ومن ثَمَّ يعمل الأفراد كثيراً من أجل آخرين لن يكون لديهم الوقت الكافي لمقابلتهم.

كيف يمكن أن يضرك ربط قيمتك وهويتك بالعمل؟ 

إن ربط قيمتك الذاتية بوظيفتك ليس مثل إيجاد المعنى في العمل والاستمتاع بأدائه. بالطبع يمكنك الاستمتاع بعملك ولكن دون أن تفقد ذاتك في المقابل؛ حيث إن ربط قيمتك بالعمل يمكن أن يضرك على النحو التالي:

  1. سيحدد لك العمل شكل أيامك: إذا كانت وظيفتك هي محور حياتك فسوف تحدد لك شكل أيامك؛ فعندما تسير الأمور على ما يرام في العمل، تكون حياتك جيدة؛ لكن عندما تسير الأمور على نحو سيئ في العمل، فإن حياتك تصبح سيئة. حين تكون مرتبطاً بوظيفتك، فإن سعادتك وإحساسك بالأمان وشعورك بالرضا سوف يتحددون بناء على نجاحاتك وإخفاقاتك في مهنتك.
  2. لن تتطور في العمل: قد يبدو هذا الأمر صادماً بعض الشيء ولكنك حين تربط هويتك بوظيفتك ستخاف بشدة من فقدانها حتى لا تفقد ذاتك، وبسبب هذا الخوف لن تكون قادراً أبداً على المخاطرة أو ارتكاب الأخطاء أو التعامل بشجاعة؛ سوف تحرص فقط على البقاء في مكتبك بأمان وهذا لن يجعلك تتطور أبداً.
  3. ستُصاب بالإرهاق والتوتر: طالما هويتك وقيمتك الذاتية متشابكة مع إنتاجيتك لن تكون حراً أبداً، وسوف تقضي ساعات طويلة في العمل وحتى حين تكون خارج العمل سوف تفكر في الوظيفة، وفي نهاية المطاف ستُصاب بالإرهاق والتوتر.
  4. تدني احترام الذات: حين تتعرض إلى الانتقاد في عملك، سوف تتعامل معه باعتباره انتقاداً لك كشخص ومن ثَمَّ ستشعر بالإحباط. وبدلاً من تلقي التعليقات ومحاولة التطور والتعلم والتحسن، سوف تصبح دفاعياً ومكتئباً وتنظر إلى الأمر على أنه فشل شخصي، ومع مرور الوقت ستفقد احترامك لذاتك. ولهذا السبب؛ ينصح المختص النفسي منصور العسيري بضرورة عدم ربط القيمة الذاتية بالإنجازات؛ لأنك في حال لم تحقق هذه الإنجازات سشعر أنك بلا قيمة، ويضيف العسيري إن قيمة الشخص تحددها مبادئه وقيمه ومسؤوليته تجاه الآخرين.
  5. تدهور الحياة الاجتماعية: عندما تكون وظيفتك أهم ما تمتلك، فإنك ستقدم نفسك في المقام الأول من خلال العمل. على سبيل المثال؛ عند مقابلة أصدقاء جدد فإنك تتحدث عن العمل، وفي وقت الفراغ تفكر في العمل، وتضع خططك الأسبوعية بناء على التزامات العمل، وكل ليلة قبل النوم، تتصفح البريد الإلكتروني للعمل، ومع مرور الوقت، ستسطّح علاقاتك الاجتماعية كلّها وتهمل الأشخاص المهمين في حياتك من أجل التركيز على العمل.

كيف تعرف أن حياتك المهنية تهيمن على باقي أبعاد حياتك؟

تعتقد المختصة النفسية جنا كورتيز (Janna Koretz) إن بناء هوية الفرد حول الحياة المهنية يُعد أمراً محفوفاً بالمخاطر، ففي بعض الأحيان قد تنهار الشركات وتتوقف عن العمل. وبغض النظر عن كيفية حدوث ذلك، فإن انفصالك عن المهنة التي تشكل أساس هويتك وقيمتك يمكن أن يؤدي إلى مشكلات أكبر مثل الاكتئاب والقلق وتعاطي المخدرات والشعور بالوحدة. وتضع كورتيز بعض الأسئلة المهمة التي يمكن أن تعرف من خلالها أن هويتك مشتبكة مع حياتك المهنية؛ ولهذا فكر في الأسئلة التالية:

  1. كيف تصف نفسك؟ ما مدى سرعة إخبار الأشخاص الذين قابلتهم للتو عن وظيفتك؟
  2. أين تقضي معظم وقتك؟ هل سبق أن اشتكى أحد من كثرة وجودك في المكتب؟
  3. هل لديك هوايات خارج العمل لا تتعلق مباشرة بمهاراتك وقدراتك المتعلقة بالعمل؟
  4. هل تجد صعوبة في التحدث إلى الآخرين حول موضوعات لا تتعلق بالعمل؟

إذا كانت إجابات هذه الأسئلة تسبب لك القلق، واتضح أنك تفكر في العمل باستمرار، فيجب عليك التفكير في بدء التغيير. يمكنك تحقيق الأمر بنفسك أو حتى الاستعانة بمعالج نفسي متخصص يفهم التحديات التي تواجهها ويقدم لك المساعدة.

اقرأ أيضاً: لماذا نحن هنا؟ إليك طريقة إيجاد المعنى لحياتك وتأثيره في صحتك النفسية

أنت لست وظيفتك: كيف تفصل قيمتك الذاتية عن عملك؟

في العصر الحالي الذي نعيش فيه، هناك العديد من الأشخاص يتعاملون مع التزامات العمل كما لو كانت وسام شرف يرتدونه كل صباح، فإذا كنت تستيقظ مبكراً عن أقرانك، وتعمل لساعات أطول منهم، وتتولى عملاً أكثر، فأنت تظن أنك أفضل وأكثر نجاحاً أليس كذلك؟

الحقيقة أن ثمة خطأ في تلك الفكرة المترسخة بقوة، فنحن نحتاج إلى الراحة، وإلى النوم وإلى ممارسة الهوايات ومقابلة الأصدقاء. لا يمكنك أن تبقى في العمل طوال الوقت، وإليك بعض الإرشادات التي يمكن أن تساعدك على فصل قيمتك الذاتية عن عملك:

  1. رتب أولوياتك وراجع قيمك مرة أخرى: في البداية اسأل نفسك: "ما الأكثر أهمية بالنسبة إليّ؟ ما الأشياء التي تهمني حقاً في هذه الحياة؟". ضع الأولويات ثم اتركها ترشدك نحو الخطوة التالية. تشير المختصة النفسية جنا كورتيز إلى أن المعالجين النفسيين يستخدمون تقنية شبيهة تُسمى "توضيح القيم" لمساعدة عملائهم على التفكير في الأمور الأكثر أهمية بالنسبة إليهم، وتتضمن هذه العملية التفكير في الاتجاه الذي يريده الشخص في مجالات مثل العلاقات والمجتمع والهوايات والأسرة، ثم ترتيبها من حيث الأهمية بالنسبة إليه.
  2. أعد بناء شبكة علاقاتك: وذلك من خلال التواصل مع الأصدقاء والعائلة لتنشيط دوائرك الاجتماعية، فإذا لم تكن تتحدث إلى أصدقائك بسبب العمل، في البداية يمكنك التحدث إليهم عبر الرسائل النصية ثم الانتقال إلى المكالمات الهاتفية وبعدها يأتي دور المقابلات، وتأكد أن وجود الأصدقاء المقربين يرتبط بإحساس الرضا عن الحياة.
  3. جرب هوايات جديدة وأنشطة مختلفة: بعد أن تتأكد تماماً أنك تملك حياة خارج نطاق العمل، فكر في ممارسة هوايات جديدة أو أنشطة مختلفة، وابدأ بتجربة شيء صغير. ليس عليك الالتزام بأي شيء على المدى الطويل؛ الفكرة هي البدء في استكشاف أشياء جديدة قد ترغب في دمجها في حياتك وهويتك. على سبيل المثال؛ إذا كنت تحب ممارسة الرياضة فليس عليك الذهاب مباشرة إلى صالة الألعاب الرياضية؛ تُمكنك في البداية تجربة المشي إلى العمل.
  4. تحدَّ الأفكار السلبية: في الكثير من الأحيان نربط هوياتنا وقيَمنا بالعمل لأننا نشعر بالهشاشة النفسية، ونظن أننا لا نملك أي قيمة بعيداً عن العمل، والحقيقة أن هذه مجرد أفكار سلبية؛ ولهذا عليك تحدي هذه الأفكار لأنها في نهاية الأمر ليست حقائق؛ إنها مجرد تشوهات بسبب الانتقادات الداخلية والضغط النفسي ومتطلبات المجتمع. وفي المرة القادمة التي تراودك فكرة سلبية عن نفسك، خذ نفساً عميقاً واستبدل بها أخرى إيجابية.

المحتوى محمي