ملخص: في اليوم العالمي للغة العربية، اكتشف معنا كيف ينظر العلماء والباحثون إلى اللغة بوصفها ظاهرة ثقافية واجتماعية ونفسية، واطّلع على مدى تأثير اللغة التي نتحدّثها في إدراكنا للعواطف والتجارب العاطفية.
محتويات المقال
تتجاوز اللغة كونها مجرّد أداةٍ للتعبير؛ إنها تشكّل طريقتنا في فهم العواطف وإدراكها وتنظيمها. ويوضّح المفكر السوري، أحمد برقاوي، إن اللغة ليست مجرّد كلمات؛ لأنها مرتبطة بالسياق والشعور والواقع، وبالتأكيد هي مرتبطةٌ بالتفكير؛ بل إنها انعكاسٌ له، ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يخبرنا بأن اللغة تنتمي إلى الواقع القديم الذي أنتج الكلمات.
لا يطال تأثير الكلمات التي نستخدمها طرائق تفكيرنا فحسب؛ بل تواصلنا مع المشاعر، وطبيعة تجاربنا العاطفية وإدراكنا لها. يتعمّق هذا المقال في العلاقة المعقدة بين اللغة والعاطفة والتفكير، ويبيّن من خلال استنتاجات الباحثين أن الإدراك لا يعمل على نحو مستقلٍّ عن اللغة. تعرّف إلى المزيد من التفاصيل المشوّقة في هذا المقال.
بأكثر من طريقة غير مُتوقّعة: هكذا تؤثّر اللغة في جوانب حيواتنا المختلفة
تعزّز اللغة الصور النمطية والمعتقدات المتحيّزة
قد نعتقد أن أهمية اللغة تقتصر على تمكيننا من التحدّث والكتابة والقراءة؛ أيّ إنها أداتنا الأساسية للتعبير والتواصل؛ لكنّ علماء اللغويات يرونها ظاهرة ثقافية واجتماعية ونفسية كذلك. مع وجود قُرابة 7,000 لغة على مستوى العالم، تؤثّر اللغة على نحو كبير ودون وعيٍ منّا، في كيفية إدراكنا لمحيطنا والعالم، وتعكس البنية الفريدة وثقافة المتحدثين بها.
يدرس اللغويون وعلماء النفس في جامعة ستانفورد (Stanford University) الجوانب المختلفة للغة؛ مثل الدلالات (Semantics)، والنحو، وعلم الصوتيات، وأبعادها الاجتماعية والنفسية. حيث تُظهر أبحاثهم أن الاختلافات اللغوية الدقيقة يمكن أن تتماشى مع المعتقدات المتحيّزة؛ ما يؤدّي إلى إدامة الصور النمطية.
فعلى سبيل المثال؛ يمكن لجملة تبدو غير مضرّة مثل: "الفتيات ماهراتٌ في الرياضيات مثل الأولاد" أن تعزّز الصور النمطية بسبب بنيتها النحوية؛ لأنها تشير ضمنياً إلى ميل الذكور الطبيعي إلى التفوّق في الرياضيات.
ويؤكد أستاذ اللغويات، دان جورافسكي (Dan Jurafsky)، إن تحليل أنماط الكلام وارتباطها بالسلوكيات؛ مثل تأثيرها في قرارات الشراء أو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يساعد على فهم أسس التواصل البشري.
تؤثّر اللغة في إدراك الزمان والمكان، والسلوك، ونمط العيش
من المثير للدهشة أن اللغة التي نتحدّثها تؤثّر في طرائق تفكيرنا، وخصوصاً في إدراكنا للزمان والمكان. على سبيل المثال؛ يرى المتحدثون باللغة الإنجليزية الوقت كخطٍّ أفقي؛ بينما قد يتصورّه المتحدثّون باللغة الصينية عمودياً؛ في حين يمكن للأفراد ثنائيّي اللغة تبديل تصوّراتهم بناءً على سياق اللغة.
وتؤثّر اللغة كذلك في كيفية توجيه أنفسنا؛ إذ يستخدم بعض سكان أستراليا الأصليين الاتجاهات الأساسية مثل الشمال والجنوب والشرق والغرب، للحديث حتّى عن الأشياء العادية مثل: "الكأس في جنوبك الغربي"؛ وهذا ما يُسمَّى بـ "الإطار المرجعي المطلق" (Absolute Reference Frame). بينما يعتمد متحدّثو العديد من اللغات؛ بما فيها اللغة الإنجليزية، مصطلحات نسبية، وخرقاء إلى حدّ ما، للتوجيه المكاني؛ مثل "إلى جانب" أو "يسار" أو "خلف" أو "فوق".
بالإضافة إلى ذلك، تؤثر اللغة في السلوكيات الصحية والأنشطة التي تركّز على المستقبل؛ إذ يستثمر المتحدثون باللغات "اللامستقبلية" (Futureless) مثل الألمانية والصينية واليابانية والهولندية والاسكندنافية، أموالهم فيها، ويميلون إلى جمع ثروة أكبر عند التقاعد، ويكونون أقلّ عرضةً إلى التدخين والسمنة لممارستهم النشاط البدني أكثر من متحدّثي لغات أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واليونانية؛ وهي لغات تشجّع المتحدثين على رؤية المستقبل بوصفه منفصلاً عن الحاضر، وهي بذلك عكس ما يُشار إليه بـ "اللغات اللامستقبلية" التي لا تتطلّب من المتحدّثين بها التمييز نحوياً بين الحاضر والمستقبل.
اقرأ أيضاً: ما لغات الحب الخمس لدى الأطفال؟ وكيف تتعرف إلى اللغة التي يستخدمها طفلك؟
ما العلاقة بين اللغة والعواطف؟
في عددٍ خاصٍ من مجلة العلوم العاطفية (Affective Science)، نُشر عام 2021، وتناول جوانب متنوّعة من العلاقة بين اللغة والعاطفة، يشير الباحثون إلى وجود سياقٍ مشتركٍ للغة والعواطف أسهم في تطوّر الإنسان؛ إذ يقتضي فهم هذه العلاقة أيضاً فهم كيف تنقل اللغة المعلومات العاطفية.
فكلّ جانب من جوانب اللغة تقريباً ينقل المشاعر ويعبّر عن التجارب؛ ما يجعل اللغة المنطوقة أداةً قيّمة لدراسة العواطف. وانطلاقاً من تحليل قواعد البيانات اللغوية على نطاق واسعٍ، واستخدام اللغويات الحاسوبية (Computational Linguistics) لدراسة مفاهيم العاطفة عبر لغات العالم مثل الغضب، والحزن، والخوف، والحب، والحداد، والفرح، توصّل الباحثون إلى أن فهم لغةٍ ما قد يعتمد على معرفة تأثيرها في عواطف المتحدّثين بها.
هل يمنحك التحدّث بعدّة لغات وعياً عاطفياً أكبر؟
على الرغم من أن التحدّث بعدّة لغات قد لا يجعلك عبقرياً، فإنه يقدّم وجهات نظر متنوّعة، وقدرةً على التكيّف. ووفقاً للباحثين من مجلة العلوم العاطفية؛ تؤدي اللغة دوراً مهمّاً في التعبير عن المشاعر للأفراد ثنائيي اللغة (Bilingual)، وتؤثّر في إدراكهم للمشاعر خلال مراحل مبكرة من نموّهم. ويتيح التعرّض اللحظي إلى كلمات عاطفية عبر قراءة القصص الخيالية على سبيل المثال، بناء مفاهيم جديدة للمشاعر وإدراكها؛ وذلك لأن القصص الخيالية تحتوي معلومات لغوية تتعلّق بعقول الآخرين وثقافاتهم؛ ما يزيل الغموض عن سلوكياتهم العاطفية وسياقاتها المختلفة.
فإذا كان التعرّض إلى الكلمات العاطفية في مرحلة الطفولة يعزّز فهم المشاعر، ذلك يعني أن التعرّض إلى المحتوى الخيالي قد يعزّز إدراك المشاعر، ويثري التجارب العاطفية للأفراد ثنائيي اللغة على مدار حيواتهم.
كيف تتفاعل اللغة مع التجربة العاطفية وتنظيم العواطف؟
لا تؤثّر اللغة فقط في كيفية توصيل مشاعرنا؛ ولكن أيضاً في كيفية شعورنا بها، وطريقتنا في التعامل معها. إذ يمكن أن يؤثّر استخدام الكلمات العاطفية في أثناء تجربةٍ ما في السلوك، ووظائف الأعضاء، ونشاط الدماغ. فالأشخاص الذين يستخدمون الكلمات العاطفية ويصنّفونها على نحو أكثر دقة، يكونون أقلّ عدوانية، ويميلون إلى التمتّع بصحة نفسية أفضل.
كما يساعد تصنيف المشاعر جيّداً على تنظيم حالاتنا العاطفية؛ إذ يشير بعض دراسات تصوير الأعصاب (Neuroimaging) إلى أن ربط تعبيرات الوجه بالكلمات يخفّف استجابة اللوزة الدماغية (Amygdala) لتلك المحفزّات؛ وهو تأثير يتمّ بوساطة الاتصال بين مناطق الدماغ ما قبل الجبهية (Prefrontal) المُشاركة في استرجاع الدلالات اللغوية واللوزة الدماغية.
ويشير الباحثون إلى أن حتى الوجود العابر للتسميات العاطفية يزيد نشاط الدماغ المرتبط بفهم العواطف، ويهدئ نشاط اللوزة الدماغية؛ ومن ثَمَّ يحافظ على حالة نفسية وعاطفية مستقرّة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن الحفاظ على هويتنا من خلال الحفاظ على اللغة الأم؟
قد يفسّر كلّ ما توصّل له الباحثون لِمَ يمكن أن يساعد وصف مشاعرنا على تخفيف حدّتها، ولماذا تُعد الكتابة عن العواطف ذات تأثيرات علاجية. ومع ذلك، يدعو الباحثون إلى إجراء مزيدٍ من الأبحاث لفهم كيفية ارتباط اللغة والعاطفة بالكامل، فهم يعتقدون مثلاً أن استخدام لغة ثانية لتصنيف المشاعر قد لا يكون له التأثير نفسه في الدماغ كما عند استخدام اللغة الأم التي تعلمناها لفهم المشاعر.