يستخدم كل منّا جزءاً من دماغه أكثر من الجزء الآخر، ولا ينطوي ذلك على أي خطورة باستثناء أن جهلنا بالجهة التي "نفضل" استخدامها يحرمنا من معلومات مهمّة عن أنفسنا. هذه بعض الاختبارات والنصائح لمعرفة كل شيء عن نصف الكرة المهيمن من أدمغتنا.
العصر الذهبي للدماغ الأيسر
لنكن واضحين. ليس لدينا دماغان؛ بل دماغ واحد يتكون من نصفيّ كرة مخّية، ويتواصلان مع بعضهما البعض باستمرار، ولا غِنى لنا عنهما معاً.
ومع ذلك فمثلما نستخدم إحدى يدينا بسهولة أكثر من الأخرى، فإننا نستخدم بشكل أكثر تلقائيةً أحد نصفيّ الكرة المخية أكثر من الآخر، ويتعلق الأمر بالنسبة للغالبية العظمى منا بالنصف الأيسر من الدماغ. ويُعتبر ذلك أمراً طبيعياً جدّاً، أليست هذه الجهة اليسرى هي منطقة تميّزنا البشري؛ أي اللغة - كما أثبت ذلك الفرنسي بول بروكا؛ أحد أوائل أطباء الأعصاب في ستينيات القرن التاسع عشر؟ لقد أدى اكتشافه هذا بسرعة إلى استنتاج مفاده أن هذه المنطقة من الدماغ هي المسؤولة عن المنطق والاستدلال والذكاء. باختصار إنها المنطقة التي تميّزنا عن الحيوان، بينما كانت المنطقة المقابلة؛ التي تُعتبر ثانويةً، إن لم نقل عديمة الفائدة، مسؤولةً عن الغريزة والعواطف والبديهيات الأخرى ...
كان النصف المخي الأيسر يعيش عصره الذهبي، واستمر ذلك أكثر من قرن حتى ظهور أعمال عالم الفيزيولوجيا العصبية الأميركي روجر دبليو سبيري (www.rogersperry.org)؛ والتي حصل بفضلها على جائزة نوبل في الطب عام 1981 بعد إثباته أن كلّاً من النصفين الدماغيين يتمتعان بالقدر نفسه من الذكاء، غير أن منطق عملهما يختلف.
الدماغ الأيمن واختراقه الصعب
عندما نستخدم دماغنا الأيسر، فإننا نفكر بشكل متسلسل وتحليلي، نقطة بنقطة، بينما يرى النصف الأيمن الأمور بشكل عامّ، فهو يعالج المعلومات بشكل كلّي. هذا هو الفرق بين معاينة أرضية الملعب وبين الشعور بالأجواء فيه ... وليس اعتباطاً أننا نبدأ غالباً باستكشاف الأجواء.
في الواقع؛ يُعتبر النصف المخي الأيمن بمقاربته الكلّية، مسؤولاً عن إدارة كل ما هو جديد وكل التّعلّمات، كما أوضح ذلك إلخونون غولدبرغ أستاذ علم الأعصاب في كلية الطب بجامعة نيويورك في كتابه "معجزات الدماغ" الصادر عام 2007. تمرّ إذاً جميع المعلومات الجديدة عبر النصف المخي الأيمن، بينما يتم استخدام النصف الأيسر للتخزين والتنظيم الدقيق جدّاً والمنهجي لمعارفنا وغير ذلك، وهذا الاكتشاف هو الذي أسكت أولئك الذين تسرّعوا في إقصاء دور النصف الأيمن من الدماغ.
بل زيادةً على ذلك، فإن النصف الأيمن من الدماغ هو الذي يُبهر اليوم علماء المخ والأعصاب المنكبّين على دراسة صور الرنين المغناطيسي (MRI). كما يبدو أن المستقبل "للأدمغة اليُمنى" حسب ما يدّعيه الصحفي دانيال بينك؛ مؤلف الكتاب الأكثر مبيعاً حول هذا الموضوع "الإنسان ذو الدماغين" الصادر سنة 2007. ويوضح لوك دو بغابانديغ المختص في الابتكار بشركة "بوسطن كونسلتينغ غروب" (Boston Consulting Group) العاملة في ميدان الاستشارات الدولية في مجال الاستراتيجيات والإدارة، ومؤلِّف كتاب "التفكير المنطقي"، أن "التفكير الخطي والعقلاني يصلح في عالم اليقين؛ حيث يمكننا فيه التخطيط لمستقبلنا؛ ولكن ذلك انتهى في عالم بلا يقين ومعقد ومتقلّب مثل عالمنا.. وما يصنع الفارق حالياً هو الجرأة على الانفتاح على الجديد والخيال، وقدرة المرء على الخروج من إطار كفاءاته، قبل الرجوع إليه مجدّداً، وتطبيق أفكاره الجديدة فيه بشكل عقلاني"؛ وهو الأمر الذي لا يتمّ إلا بفضل النصف المخّي الأيسر.
وإذا بدا أخيراً أنه تم الاعتراف علمياً بدماغينا "الاثنين" من حيث اختلافاتهما وترابطهما، فإن هذا الاعتراف لم يتحقّق بعد من طرف المجتمع الذي لا يزال يفضّل النصف المخّي الأيسر. وأكبر دليل على ذلك هو البرامج المدرسية التي تفرض علينا المعالجة التحليلية والمنطقية للمعرفة بدلاً من المعالجة الكلّية أو الإبداعية، علماً أن الجزء المفضّل لدينا من أدمغتنا يعتمد بشكل أساسي على تعليمنا. وفي هذا الإطار تشير بياتريس ميلِتر التي تؤطر جلسات لفائدة الشباب "المبدعين والمنفتحين المتعثرين في دراستهم": "إذا كانت المدارس في الولايات المتحدة الأميركية قد شرعت في تقديم برامج مكيّفة مع "النصف المخّي الأيمن"، فإننا في فرنسا لا نزال بعيدين عن ذلك، ويجهل أغلب الناس هذا التمييز بين نصفي الكرة المخّية؛ ولا يفكرون بالتالي في عزو صعوبات التكيّف إليه".
ماذا لو كانت مخاوفك الصغيرة - أو الكبيرة - من مسألة التكيّف مع بيئتك الفكرية، متوقفةً إذاً على استخدامك المبكر لنصف الكرة المخّية الأيمن؟