دراسة علمية: تهديد الأطفال في الصغر يؤذيهم نفسياً عند الكبر

5 دقيقة
نمط التربية
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: العلاقة بين أسلوب التربية والصحة النفسية للأبناء علاقة وثيقة، فممارسات التربية أو نمط التربية الذي يشمل القسوة أو الوعيد والتهديد، قد يسهم في حدوث الأذى النفسي عند الأبناء، ويزيد احتمالية الإصابة بالعديد من حالات الصحة النفسية.

ما يُزرَع اليوم يُحصد غداً. ينطبق هذا المثل على الصحة النفسية للأشخاص أيضاً؛ إذ تؤثر أنماط التربية التي يتّبعها الآباء والأمهات تأثيراً كبيراً في الصحة النفسية لأبنائهم؛ سواءٌ أكان في كيفية تصوراتهم عن أنفسهم، أم قدراتهم على مواجهة تحديات الحياة، أم احتمالية إصابتهم ببعض الاضطرابات النفسية. هذا ما تبينه الأبحاث الحديثة المذكورة في هذا المقال، وإليك التفاصيل.

اقرأ أيضاً: هل يؤثر العنف في التربية في دماغ طفلي؟

كيف يؤدي التهديد في الصغر إلى اضطرابات نفسية عند الكبر؟

في دراسة منشورة في دورية علم النفس السريري (Journal of Clinical Psychology) في مارس/آذار عام 2023، وجدت مجموعة من الباحثين بقيادة إريكا ترينت (Erika Trent) في جامعة هيوستن الأميركية (University of Houston)، أن الأفراد الذين يتعرضون إلى سلوكيات التهديد من أمهاتهم وآبائهم في أثناء الطفولة، يكونون أكثر عرضة إلى معاناة ارتفاع مشاعر العجز (عدم القدرة على التغلب على المشكلات أو سرعة فقدان السيطرة)، وانخفاض الكفاءة الذاتية (الثقة في قدرة الفرد على إدارة الضغوط) عند البلوغ.

وبينت النتائج وجود ارتباط غير مباشر بين التعرض الأكبر إلى سلوكيات التهديد التي تمارسها الأمهات، وحدّة أعراض القلق في مرحلة البلوغ؛ في حين لم يكن لتعرض الأطفال إلى سلوكيات التهديد الأبوي ارتباط مباشر ولا غير مباشر بحدّة القلق.

لكن في الواقع، لا يمكن القول إن نتائج هذه الدراسة مفاجئة، فالعديد من الدراسات الأُخرى قد توصلت إلى نتائج مشابهة. على سبيل المثال؛ أشارت دراسة منشورة في المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة (International Journal of Environmental research and Public Health) عام 2023، إلى أن أساليب التربية التي يتّبعها الوالدان لها تأثير مباشر وغير مباشر في الصحة النفسية لذريتهم، فأساليب التربية غير الفعالة؛ مثل ضعف المراقبة والإجراءات التأديبية غير المناسبة والعقاب البدني، ستؤدي إلى انخفاض تقدير الذات واعتقاد الفرد أن والديه لا يقبلانه ولا يدعمانه وليسا متاحَين عاطفياً له؛ ما يؤدي بدوره إلى ضعف الصحة النفسية عند الكبر.

كما توصلت دراسة أخرى منشورة في دورية فرونتيرز إن سايكولوجي (Frontiers in Psychology) عام 2021، أن أساليب التربية الرافضة؛ مثل عدم تقديم الدعم العاطفي أو تجاهل احتياجات الطفل أو حجب المودة، والأساليب المفرِطة في الحماية يضران بالصحة النفسية للمراهقين.

ويتجلى ذلك في قلة احترام الذات وانخفاض المرونة النفسية؛ ما يسهم في نشوء مشكلات الصحة النفسية في المراحل اللاحقة من الحياة. وقد بينت الدراسة أن المراهقين الذين يعانون الرفض يطورون معتقدات سلبية عن أنفسهم ما يؤدي إلى تدني احترام الذات؛ في حين أن الرقابة الأبوية المفرطة تحدّ من الاستقلالية ما يعوق تطوير آليات التكيف السليمة.

اقرأ أيضاً: 3 قواعد للاهتمام بالصحة النفسية للأطفال

ما أساليب التربية؟ وكيف تؤثر في الصحة النفسية للأبناء؟

لا يخفى على أحد أن أسلوب التربية يؤثر في كل ما يخص الأبناء من صحتهم النفسية والبدنية، واحترامهم لذواتهم، وكيفية تعاملهم مع الآخرين؛ حيث يؤكد استشاري العلاقات الأسرية جاسم المطوع إن ثمة 5 ممارسات تميز أسلوب التربية غير الصحي ينبغي الابتعاد عنها؛ وهي: الشتم، التهديد، العنف الجسدي، التمييز في المعاملة، العصبية والغضب.

وعموماً حدد الباحثون 4 أنماط رئيسة للتربية تساعد الناس على التعرف إلى أسلوب التربية الذي يتبعونه، ولكل أسلوب منها منهجه الخاص وآثاره. وعلى الرغم من عدم وجود طريقة صحيحة مثلى للتربية، فإن أسلوب التربية الذي توصي به الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال (The American Academy of Pediatrics) هو الأسلوب المتوازن. وإليك ما يميز هذه الأنماط وتأثيرها في الصحة النفسية للأبناء.

اقرأ أيضاً: 3 نصائح عملية لتتواصل مع طفلك بفعالية

نمط التربية الاستبدادي أو السلطوي (Authoritarian)

يؤمن الآباء المستبدون بأن على الأطفال الالتزام التام بالقواعد، ويعطون الأولوية للطاعة، ويرفضون مشاركة الأطفال في حل المشكلات أو التحديات، ولا يُبدون الاهتمام بآرائهم. وغالباً ما يجيبون بـ "لأنني قلت ذلك" أو "لا تناقش" أو "نفِّذ دون اعتراض"، وذلك عندما يتساءل الطفل عن الأسباب الكامنة وراء القواعد التي تُطبَق عليه.

بالإضافة إلى ما سبق، يستخدمون العقوبات بدلاً من تعليم الطفل الانضباط وكيفية التصرف؛ ما يدفع الأبناء إلى الشعور بالندم على الأخطاء عوضاً عن التعلم منها. وعلى الرغم من أن ذريّة الآباء المستبدين تُظهر قدرة عالية على الالتزام بالقواعد، فإن ذلك يكون على حساب مهارات محدودة في اتخاذ القرار وغياب الحوار الهادف.

قد يؤثر نمط التربية المرتكز على السيطرة والعقاب سلباً في قدرة الأبناء على تطوير التفكير المستقل وقدرات حل المشكلات، ويجعلهم أكثر عرضة إلى الشعور بتدني احترام الذات وضعف الثقة بالنفس، وأكثر عدائية نتيجة شعورهم بالغضب الدائم تجاه أهاليهم أو أنفسهم التي لم ترقَ إلى مستوى تطلعات آبائهم، وغالباً ما يكونون بارعين في الكذب الذي طوروه في محاولة لتجنب العقاب.

اقرأ أيضاً: 6 إرشادات عملية لتنجح في التعامل مع والدين مستبدين

نمط التربية المتوازن (Authoritative)

يجمع هؤلاء الآباء بين القواعد والعواقب ومراعاة آراء أطفالهم وتفهُّم مشاعرهم واحترامها؛ لكنهم يؤكدون أنهم المسؤولون أولاً وآخراً؛ إذ يوضحون الحدود، ويفرضون القواعد مع شرح أسبابها وعواقب تخطيها، جنباً إلى جنب مع مراعاة مشاعر أبنائهم.

يستثمر هؤلاء الآباء الوقت والجهد في منع المشكلات السلوكية قبل أن تظهر، ويستخدمون استراتيجيات الانضباط الإيجابي مثل الثناء والمكافآت لتعزيز السلوكيات الإيجابية. يُعد هذا النهج الأكثر صحة وفعالية من الناحية التنموية؛ إذ غالباً ما يصبح الأطفال الذين تربوا على هذا النمط أشخاصاً سعداء وناجحين، وقادرين على التمتع بالمسؤولية والدفاع عن آرائهم ومشاعرهم، وجيدين في اتخاذ القرارات وتحمل العواقب.

اقرأ أيضاً: هل يجب أن تأخذ بآراء أطفالك حول طريقة تربيتك؟ وكيف تستفيد منها؟.

نمط التربية المتساهل (Permissive)

يتبنى هؤلاء الآباء مبدأ أن "الأطفال يبقون أطفالاً"؛ لذلك فهم يضعون القواعد لكنهم نادراً ما يطبقونها، ولا يولون العواقب الكثير من الاهتمام، ويعتقدون أن الأبناء سيتعلمون بأنفسهم دون تدخل كبير منهم. يلعب هؤلاء الآباء دور الأصدقاء مع أبنائهم؛ إذ على الرغم من أنهم يشجعونهم على مشاركة مشكلاتهم، فهم لا يبذلون الجهد لمنع السلوك السلبي أو الاختيارات السيئة.

أما الأبناء الذي يكبرون في كنف آباء متساهلين، فغالباً ما يعانون في التحصيل الأكاديمي، ويُظهرون مشكلات سلوكية نتيجة عدم تقدير السلطة والقواعد، ويعانون تدني احترام الذات والكثير من الحزن. علاوة على أنهم يكونون أكثر عرضة إلى المشكلات الصحية مثل السمنة وتسوس الأسنان؛ نتيجة عدم قدرة آبائهم على فرض العادات الصحية الجيدة عليهم.

اقرأ أيضاً: كيف تعاقب ابنك بطريقة صحيحة؟

نمط التربية غير المهتم أو غير المشارك (Uninvolved)

ليس بالضرورة أن يكون الآباء الذين يتبعون نمط التربية غير المهتم آباء مهملين؛ إذ قد لا يتمكن بعض الآباء من تقديم الرعاية الكافية نتيجة معاناته مشكلات صحية أو جسدية أو عاطفية، أو نتيجة نقص المعرفة الخاصة بنمو الطفل وتربيته، أو نتيجة الانشغال بموضوعات أخرى مثل العمل أو مشكلات الأسرة وما إلى ذلك.

في الأحوال جميعها، ما يميز هذا النمط من التربية أن الآباء يعرفون القليل عن أبنائهم، وغالباً ما يفرضون القليل من القواعد كما يقدمون القليل من التوجيه والرعاية والاهتمام، فلا يسألون أبناءهم عن المدرسة أو الواجبات المنزلية ولا يقضون الكثير من الوقت معهم. ومن المرجح أن يعاني هؤلاء الأبناء مشكلات تخص احترام الذات، ويميلون إلى التحصيل الأكاديمي السيئ، وقد يُظهرون مشكلات سلوكية متكررة، ويتمتعون بمقدار منخفض من السعادة.

جدير بالذكر أنه قد يصعب على الآباء تصنيف أنفسهم ضمن فئة واحدة، فقد يكونون متساهلين في بعض الأحيان، أو أقل اهتماماً، أو أكثر استبداداً في أحيان أخرى؛ لكن من المهم معرفة أن الموازنة ما بين الحياة والأمومة أو الأبوة أمر صعب. لذلك؛ فإن شعور الوالدين بالذنب أو العار لن يكون مفيداً على الإطلاق؛ وإنما ينبغي اتخاذ بعض الخطوات نحو الالتزام بنمط التربية المتوازن قدر الإمكان.

المحتوى محمي