كيف تتصالح مع طفلك الداخلي وتمنعه من التأثير سلباً في حاضرك ومستقبلك؟

6 دقائق
الطفل الداخلي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: البشر كائنات قابلة للتعود، فما نفعله يوماً بعد يوم يصبح عادةً تلقائية، وحتى استجاباتنا العاطفية إلى المواقف نعيد تكرارها، وحين نمر بصدمات نفسية في الصغر، نظل نكرر استجابتنا إلى الأحداث وفقاً لما حدث في الطفولة فيما يُعرف باسم "الطفل الداخلي"، فهل يشكّل ماضينا حاضرنا؟ الإجابة في هذا المقال.

"أولئك الذين لا يستطيعون تذكُّر الماضي محكوم عليهم بتكراره."

                                                                                    الفيلسوف والشاعر الإسباني جورج سانتايانا

تخيّل أنّ عمرك 6 سنوات؛ أنت في المدرسة تلعب مع الأطفال الآخرين، وفي أثناء الركض في الملعب، تتعثر وتسقط، ويضحك الأطفال الآخرون عليك. تمر السنوات وقد لا تتذكر حتى مَن كان هناك أو كم كان عمرك؛ لكن ما تتذكره جيداً هو الشعور بالخجل والدموع في عينيك، وعلى الرغم من أن ألم قدمك قد زال تماماً، فإن هناك ألماً آخرَ ظل يرافقك حتى كبرت.

وبعد مرور 20 عاماً، ما زال هذا الطفل الصغير هو الذي يشكّل حياتك الحاضرة، فحين يحتاج عملك إلى بعض المخاطرة لن يسمح لك الطفل الداخلي أن تفعل ذلك أبداً حتى لا يضحك الآخرون عليك مثلما حدث في الملعب، فما قصة الطفل الداخلي؟ وهل يشكّل ماضيك حاضرك؟ الإجابة من خلال هذا المقال.

مَن هو الطفل الداخلي؟

غالباً ما يُستخدم مصطلح "الطفل الداخلي" لوصف العلاقة التي تربطك بنفسك في الماضي، وقد استُخدم هذا المصطلح للمرة الأولى على يد الطبيب النفسي كارل يونغ (Carl Jung)، وتجدر الإشارة إلى أن الطفل الداخلي ليس "شخصية طفولية" تعيش في داخلك؛ لكنه جزء من عقلك الباطن الذي شهد وما يزال يتذكر لحظات طفولتك وعواطفك، سواء أكانت جيدة أم سيئة. غالباً ما تظل التجارب السيئة معك حتى مرحلة البلوغ، وقد تشعر بأنك عالق في الماضي وغير قادر على المضي قدماً، وفي هذه الحالة، غير قادر على أن تسمح للماضي أن يشكّل حياتك الحاضرة.

لماذا يُعد الطفل الداخلي مهماً في تشكيل حاضرك؟

تؤكد أستاذة علم النفس، ديانا راب (Diana Raab)، إن كل واحد منا لديه طفل داخلي، وتوضح إن الطفل الداخلي السليم يبدو مرحاً وممتعاً؛ في حين أن الطفل الداخلي المصاب بصدمة نفسية قد يواجه تحديات عندما يصبح شخصاً بالغاً، وبخاصة عندما تُثار ذكريات جروح الماضي، فنحن، بوصفنا بالغين، نتجول حاملين جروح الطفولة بداية من الإهمال العاطفي وحتى الإيذاء الجسدي، وحين نشعر بأننا وحيدون مع تلك المشاعر والآلام نحاول إخفاءَها ولكنها لا تختفي.

تلك الصدمات التي حدثت في الماضي ولم تُحلّ تظهر بصورة جليّة في الحاضر، فعندما تجد نفسك تتصرف على نحو لا يتوافق مع شخصيتك أو تشعر بمشاعر لا تُمكن السيطرة عليها، فأنت تتصرف وفقاً  لهذا الجزء الأصغر منك الذي أُصيب في الماضي. 

على سبيل المثال؛ حين تتأخر على عملك، فمن الطبيعي أن تشعر ببعض القلق والتوتر؛ ولكن حين يداهمك الإحساس بالعار على الرغم من التزامك الدائم في العمل، فهذا معناه أنك قد عشت في بيئة منزلية كنت تتعرض فيها إلى التوبيخ على أقل خطأ وباستمرار، وحين تظهر هذه الأنماط السلوكية في الحاضر، فإننا غالباً ما نكرر أنماط السلوك التي حدثت في الماضي نفسها.

اقرأ أيضاً: أثر صدمات مرحلة الطفولة في الصحة النفسية

7 علامات تخبرك بأن طفلك الداخلي يتحكم في حياتك

عندما تتجاهل طفلك الداخلي، فأنت تسمح للماضي أن يشكّل حاضرك وتُلحق بنفسك ضرراً كبيراً، وبخاصة إذا كان لديك تاريخ من الصدمات النفسية، وهذه أهم العلامات التي يمكن أن تخبرك بأن طفلك الداخلي يشكّل حياتك الحالية:

  • المبالغة في رد الفعل: توضح الطبيبة النفسية وأستاذة علم النفس السريري، تريش فيليبس (Trish Phillips)، إن المبالغة في رد الفعل بالانزعاج أو الغضب الشديد تؤكد أن طفلك الداخلي يتجلى بوضوح في حياتك اليومية؛ حيث إن نَفْسك المبالغة في رد فعلها تحاول التحكم في الخارج لأنها تشعر بعدم الارتياح داخلياً.
  • التقدير الزائد للاستقلال: يرفع الأشخاص المحملون بجراح الماضي شعاراً مفاده  أنهم ليسوا في حاجة إلى أحد؛ ولهذا فهم يعزفون دائماً عن طلب المساعدة من الآخرين.
  • سلوكيات التدمير الذاتي: مثل تناول الطعام بشراهة والتسوق والمماطلة المزمنة؛ حيث يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى تأجيل أغلب القرارات المهمة في حيواتهم بسبب الخوف من أشباح الماضي.
  • تدهور الصحة النفسية والعاطفية: ويمكن أن يظهر ذلك من خلال:
  1. الشعور بالاكتئاب.
  2. فقدان الحافز.
  3. ظهور سلوكيات التجنب الاجتماعي والرغبة في قضاء الوقت منفرداً.
  4. معاناة اضطرابات النوم.
  5. اضطرابات الشهية.
  6. زيادة الشعور بالقلق في مجالات الحياة المختلفة.
  7. ضعف الإنتاجية في العمل.
  • تكرار الأنماط في العلاقات: يميل هؤلاء الأشخاص إلى تكرار أنماط الماضي، فعلى سبيل المثال؛ الذين يعانون جروح التعلق، يعيدون إنشاء أنماط التعلق التي عاشوها عندما كانوا أطفالاً في علاقاتهم البالغة دون وعي، سواء أكانت رومانسية أم لا؛ وهذا يعني أنهم في الأساس يكررون أنماط صدمة الطفولة. ووفقاً لما ذكرته فيليبس؛ فإن تكرار أنماط العلاقات يتجسد في السلوكيات الآتية:
  1. تجنب الصراعات والمشكلات في العلاقات.
  2. تجاهل احتياجات الشريك.
  3. خداع نفسك بالاعتقاد بأنه لا توجد مشكلات عندما تكون موجودة، أو العكس.
  4. الشعور بالقلق أو الخوف في العلاقة؛ ومن ثَمّ محاولة إرضاء الشريك قبل كل شيء.
  5. وجود خوف عميق وغير منطقي من أن يتخلى عنك شريكك أو يرفضك.
  • تدني احترام الذات: في أثناء نموك، تختبر العالم من خلال والديك؛ ولهذا إذا استخدما لغة قاسية أو مسيئة، ستعتمد هذا الصوت الناقد في داخلك حتى الكبر، وسيوجهك هذا الصوت ويشكّل قراراتك الحاضرة.
  • السعي إلى الكمال: قد ينبع السعي الحثيث إلى الكمال في مرحلة النضوج من الرغبة في إبقاء الأهل سعداء، أو تلقي الثناء منهم كما كان يحدث في الماضي؛ ولكن من المهم فصل ما نجح سابقاً في مرحلة الطفولة عما يحدث في الوقت الحاضر، ففي كثير من الأحيان، السلوكيات التي نحملها معنا منذ الطفولة ليست فعالة في حياة الكبار.

اقرأ أيضاً: لماذا تتوقف حياة البعض عند الصدمات النفسية بينما ينجو منها البعض الآخر؟

كيف تتعامل مع طفلك الداخلي؟

لا تُمكننا العودة بالزمن من أجل تغيير الماضي؛ ولكن يمكن تخفيف قبضة الماضي علينا وسطوته على سلوكياتنا من خلال الطرائق التالية:

  • استمع إلى صوت طفلك الداخلي: عندما تحس بالانزعاج الشديد أو الإحباط أو الألم العاطفي دون داعٍ، فتأكد أن هذا صوت طفلك الداخلي. استمع إليه واسمح لهذه المشاعر القوية مثل الألم والذنب والقلق والرفض والعار،  أن تخرج، وإذا تمكنت من تتبع هذه المشاعر إلى أحداث معينة في مرحلة الطفولة، فقد تدرك أن المواقف المماثلة في حياتك الحاضرة تؤدي إلى الاستجابات نفسها، وبهذه الطريقة فإن الاستماع إلى مشاعر طفلك الداخلي والسماح لنفسك بتجربتها بدلاً من دفعها بعيداً وتخبئتها يمكن أن يساعدك على تحديد الضيق الذي مررت به والتحقق من صحته؛ وهي خطوة أولى أساسية نحو التغلب عليه.
  • احتضن طفلك الداخلي: حتى لو لم تكن لدى العقل الواعي الكلمات للحديث عنها، فإن الجسم يتذكر الصدمة. ولذلك؛ يمكن أن تساعدك اللمسة الجسدية الداعمة على تهدئة طفلك الداخلي. تُمكنك أيضاً تجربة عناق الفراشة؛ وهو تمرين مهدئ للذات مصمم لمساعدة الأشخاص على معالجة الصدمات، ويستخدم معالجو الصدمات هذه التقنية في علاج إزالة حساسية حركة العين وإعادة برمجتها (EMDR). وللتدرب على عناق الفراشة، قم بالآتي:
  1. ضع ذراعيك على صدرك.
  2. ضع أطراف أصابعك أسفل عظام الترقوة مباشرة.
  3. ربّت على صدرك بلطف.
  4. خذ أنفاساً بطيئة وعميقة وراقب أفكارك ومشاعرك بلطف دون إصدار الأحكام.
  • اكتب رسالة إلى طفلك الداخلي: وفقاً لما ذكرته المعالجة النفسية سلمى المفتي؛ فإن الذين يمرون بصدمات نفسية غالباً ما يلجؤون إلى الهروب وعدم المواجهة. ولكن الآن، حان موعد المواجهة: اكتب رسالة إلى طفلك الداخلي ولا تتهرب من مشاعرك بعد الآن؛ يمكنك الكتابة عن ذكريات طفولتك من وجهة نظرك بوصفك شخصاً بالغاً، وتقديم رؤية أو تفسيرات للظروف المؤلمة التي لم تفهمها في ذلك الوقت.
  • حدد محفزاتك العاطفية: ما الذي يجعلك منزعجاً أو غاضباً أو خائفاً؟ هل يمكنك تذكر التجارب السلبية في مرحلة الطفولة؟ ربما لم يستمع إليك والدك أبداً؛ لذا تشعر الآن بالرفض عندما يكون شريكك مشغولاً بحيث لا يستطيع الاهتمام. عندما تحدد مصدر هذا الألم، طَمْئن طفلك الداخلي بأنه آمن ومحبوب ومسموع.
  • مارس اليقظة الذهنية: إن ممارسة اليقظة الذهنية تدور حول تعليم أنفسنا كيفية البقاء في الحاضر وتهدئة أذهاننا عند تجربة المحفزات العاطفية. وكما هي الحال مع أي مهارة جديدة؛ سوف يستغرق تعلُّم اليقظة الذهنية بعض الوقت، فكن لطيفاً مع نفسك إذا أخطأت أو وجدت نفسك تعود إلى أنماط السلوك القديمة.
  • تقبّل ما حدث في الماضي: شئت أو أبيت، لا يمكنك أبداً تغيير الماضي، وإن بقاءَك عالقاً هناك سوف يؤدي حتماً إلى تدمير حاضرك. ولذلك؛ عليك قبول فكرة أن الماضي انتهى ويجب عليك التخلص من الألم الذي تحمله معك دائماً. المهم أن تكون صادقاً مع نفسك في قبول الماضي، وتأخذ الوقت الذي تحتاج إليه في الحزن.
  • مارس التأمل: للتأمل فوائد كثيرة؛ ولكن من أقوى هذه الفوائد أنه يعلمك الجلوس بصحبة مشاعر صعبة؛ حيث إن تعلم كيفية العيش مع مشاعرك هو أفضل طريقة لتطوير مهارات التنظيم العاطفي وإدارة مستويات التوتر لديك.
  • تحمل مسؤولية شفائك النفسي: بالنسبة إلى الأشخاص الذين عانوا الصدمات في الماضي، فإنهم في بعض الأحيان قد ينتظرون اعتذراً من الأشخاص الذين سببوا لهم الأذى؛ ولكن هذا لن يحدث! لن يقدم لك أحد اعتذراً، وشفاؤك من آلام الماضي هو مسؤوليتك وحدك، فإذا كنت ما تزال تنتظر اعتذراً حتى الآن فهذا يعني أن طفلك الداخلي ما زال يتحكم بك.

في النهاية، تذكّر دائماً أن الماضي يمكن أن يعيد تشكيل الحاضر إذا سمحت له بذلك، وإذا تركت طفلك الداخلي يتولى زمام الأمور في حياتك الحالية. ربما تكون مررت بصدمة قوية تحتاج إلى بعض الوقت؛ ولكن تأكد أن أوان الشفاء لم يفت بعد. إذا وجدت أنك محبط أو غاضب أو تشعر بأنك عالق، فقد يكون طفلك بداخلك هو الذي يطلب الدعم؛ ولهذا يمكنك الذهاب إلى مختص نفسي يساعدك على اجتياز هذه الرحلة.

المحتوى محمي