لا نكاد نستطيع أن نصف أنفسنا بأننا لسنا قلقين من أمرٍ ما، لذا سنعمل معاً على فهم القلق. كيف يؤثر القلق في صحة القلب؟ ولماذا تربط الدراسات العلمية دائماً بين القلق وصحة القلب والجسد؟ هل القلق يسبب نبضاً في الجسم؟ هل هناك قلق إيجابي؟
يأتي الدافع لفَهم اضطرابات القلق من عدم معرفتنا، نحن البشر، الطريق إلى عدم القلق. ومن الطبيعي أن نجد الكثير من الدراسات والمراجعات العلمية التي أسهبت في الحديث عن اضطرابات القلق، وأنواع اضطرابات القلق، وارتباط القلق بكُلٍّ من الجسد والنفس والروح. وحتى نعي انتشار القلق في الزمن الحالي، يجب علينا أن نستعرض بعض الأرقام ليسهل علينا تصوّر حجم "وباء القلق" - إن صح هذا التعبير، ففي التقرير الصادر عن منظمة الصحة العالمية في العام 2017، نجد أن القلق أصاب ما يزيد عن رُبع مليار إنسان (264 مليون شخص) في العام 2015 بزيادة تصل إلى ما يقرب من خمسة عشر بالمئة (14.9%) مقارنةً بالعام 2005. علاوةً على ذلك؛ وجد الباحثون في دراسة حديثة أن حالات اضطرابات القلق حول العالم زادت بنسبة 50% بين عامّي 1990 و2019. ويُعد القلق -حتى قبل حصول جائحة فيروس "كوفيد-19" المستجد - أحد أهم الاضطرابات النفسية التي تسبب عبئاً عالمياً يهدد الصحة، والرفاهية، وجودة الحياة.
ما هو تعريف القلق؟
عادةً ما يتم تشخيص اضطرابات القلق النفسية عن طريق مشاعر القلق والخوف. وقائمة هذه الاضطرابات -على سبيل المثال لا الحصر- تتضمن اضطراب القلق العام (Generalized Anxiety Disorder)، واضطراب الهلع (Panic Disorder)، واضطراب القلق الاجتماعي (Social Anxiety Disorder) الذي يُعرف أيضاً باسم "الرهاب الاجتماعي“، واضطراب الوسواس القهري (Obsessive-Compulsive Disorder)، واضطراب ما بعد الصدمة (Post-Traumatic Stress Disorder)، وأنواع الرهاب (Phobias) المختلفة التي قد ترتبط بمحفّز (stimuli)؛ مثل رؤية حشرة، أو الوجود في موقف معيّن. وبطبيعة الحال؛ تحدد مُدة وحِدّة اضطرابات القلق النفسية ما إذا كان القلق عَرضياً (Episodic) أو مزمناً (Chronic).
كيف يؤثر القلق على صحة القلب والجسد؟
لتبسيط العلاقة بين القلق وصحة القلب والجسد؛ يجب أن نوضّح أن نبض القلب أو انقباض عضلات القلب وتوسّعها هي الأساس لحركة الدم التي تصل لكل أجزاء الجسم وبها يتم نقل الأكسجين، وثاني أكسيد الكربون، والهرمونات، وعدد من المكونات الغذائية. ويُعتبر القلق ذو تأثير قوي على نبض القلب وعلى عضلات القلب، والدورة الدموية، وصحة الجسد ككل، كما يؤثر على تناغم الأجهزة المختلفة داخل الجسم ويهدد فعاليتها وأداءها لعملها. وبوجهٍ عام؛ تتسبب اضطرابات القلق في سلسلة من التغيرات الجسدية (السلبية في كثير من الأحيان) مثل: الخفقان (تسارع النبض)، وارتفاع ضغط الدم، وسرعة التنفس أو جودة الدم المحمّل بالأكسجين، وضعف التركيز، والإجهاد أو الضعف، الأرق أو سوء جودة النوم، والمعدة أو فعالية الجهاز الهضمي. وعلى المدى الطويل، قد يتسبب القلق بإضعاف الجهاز المناعي، واختلال طبيعة نبضات القلب لدى الأصحاء و الأشخاص المصابين بأمراض القلب.
ووجدت الدراسات العلمية أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين اضطرابات القلق النفسية وإفراز ”هرمونات القلق“ كالأدرينالين والكورتيزول؛ ما يتسبب في بدء سلسلة من التغيرات الجسدية والعصبية؛ والتي بدورها تؤثر على صحة القلب وأدائه لوظائفه بكفاءة واتزان. ومن هذه التغيرات الجسدية تنشأ حالة تأهب داخل الجسم تُعرف باستجابة الكر والفر (Fight-or-Flight Response)؛ ما يفاقم مشاكل القلب لدى الأشخاص المصابين بأمراض القلب، فيؤثر القلق خلالها على حجم الأوعية الدموية وأدائها لوظائفها (الأوردة والشرايين) إمّا ببطء وصول الدم للأعضاء الحيوية المهمة كالدماغ، أو تسهيل حدوث تجلطّات دموية أو نوبات قلبية بسبب تغير حجم الأوعية الدموية. فعلى سبيل المثال: لدى الأصحاء تزيد اضطرابات القلق النفسية من فرص حدوث أحد الأمراض القلبية للمرة الأولى بنسبة تفوق 50% حسب دراسة حديثة قامت بمراجعة العلاقة الوثيقة بين القلق وصحة القلب.
هل القلق يسبب نبضاً في الجسم؟
بناءً على ما سبق، فمن الممكن إحساس نبض في الجسم في أماكن مختلفة من الجسم نتيجة توسّع وانقباض عدد من الأوعية الدموية (الضخمة بشكل خاص)؛ والتي تحاكي حركة عضلات القبض - على سبيل المثال: إحساس نبض في الجسم كمنطقة الرسغ، والإبهام، والمعدة. وقد يكون هناك إحساس نبض في الجسم نتيجة التغيرات العديدة التي يسببها القلق؛ مثل ارتفاع ضغط الدم أو بعض المشاكل الصحية الأخرى، لذا يُنصح بزيارة الطبيب وإجراء الكشوفات الصحية اللازمة عند الإحساس بنبض في الجسم لمعرفة سبب هذه المشكلة والتعامل معها بشكل صحيح.
هل هناك قلق جيّد؟
كوننا لا نعرف طريق للشعور بعدم القلق، فيمكننا استخدام القلق غير المرضي وتسخير تلك التجارب العابرة في تدريب الجسم على تصحيح الاستجابة للقلق المرضي حتى نحصل على صحة أفضل. جديرٌ بالذكر أن عدداً من العلماء يرى في القلق (أو التوتر الذي لا يُصنّف على أنه اضطراب نفسي) فرصاً عظيمةً لتدريب النفس على خلق استجابة إيجابية.
مثال على ذلك ما عرضته الدكتورة كيلي ماكغونيغال عالمة النفس بجامعة ستانفورد في حديثها خلال TEDGlobal 2013 أن التعامل مع التغيرات التي يسببها القلق؛ كزيادة نبضات القلب، على أنها استجابة طبيعية في الجسم تستخدم كرد فعل على مجابهة المخاطر. وبذلك أدّى التصوّر المغاير للمتغيرات التي يسببها القلق؛ مثل الإحساس بزيادة في النبض، إلى نتائجَ أفضل من حيث حجم الأوعية الدموية التي لم تنكمش أو تتغير بل بقيت كما هيـ وتسخير القلق وتحويله إلى شيء جيّد. وهذا التوجّه في التعامل مع القلق يتضّح أكثر في كتاب ”القلق الجيّد: تسخير قوة الشعور المُسَاء فَهمه“ الذي يتناول القلق ”الجيّد أو المحمود“؛ وهو ذلك الذي يدفعنا للاستعداد بشكل أفضل ويدفعنا للإنجاز، ومن حياتنا الشخصية -على سبيل المثال- هو القلق الذي يدفعنا للاستعداد لإلقاء كلمة أمام جمهور غفير، أو إنجاز المهام اليومية وعدم المماطلة في تنفيذها، أو تسليم المهام المتطلبة منّا قبل حلول موعدها.
ختاماً، القلق المرضي هو الذي يجب علينا جميعاً أن نتعامل معه بجدية نظراً لأثره المثبت علمياً على صحة القلب والجسم. كما يجب التنويه أيضاً على أهمية إدارة القلق غير المرضي والإستفادة منه في سبيل تحسين استجابة أجسادنا وعقولنا حينما تتعرض للقلق المرضي.