ما الجانب الإيجابي لتجنب مواجهة الحقيقة المؤلمة؟ وكيف يعزز صحتك النفسية؟

5 دقائق
الإنكار
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: إيناس غانم)

ملخص: الإنكار آلية دفاعية تحمينا من الحقائق المؤلمة عن طريق إنكار وجود هذه الحقائق أو التقليل من أهميتها؛ لكن عدم الاعتراف بالمشكلة لا يعني عدم وجودها، فكيف ينبغي التعامل مع هذه الآلية؟

هل سبق ولاحظت بعد موت شخص ما، أن أحد أفراد عائلته يتصرف على نحو طبيعي تماماً دون إظهار أي مشاعر حزن وكأن شيئاً لم يحدث؟ أو لاحظت صديقاً يرفض الاعتراف بمشكلاته الزوجية المتفاقمة وكأنها غير موجودة؟ أو شخصاً يرفض الإقرار بخطورة المشكلة الصحية الذي شُخِّص بها ويرفض العلاج؟ هؤلاء كلهم يعيشون في حالة إنكار.

عندما نتعرض لموقف صعب أو مؤلم، فإن الاستجابة الصحية التي ينبغي أن تحدث عادة هي معالجة الموقف وإيجاد حلول له ومعالجة مشاعرنا المرتبطة به، حتى لو أحدث هذا الموقف ألماً كبيراً أو مشاعر غير مريحة مثل التوتر أو الحزن أو الغضب.

ومع ذلك، فإن عقولنا ماهرة في تجنب الانزعاج وكثيراً ما تستخدم آليات دفاعية مختلفة لتحمينا من هذا الاضطراب العاطفي، والإنكار هو أشهر هذه الآليات. تعرّف في هذا المقال إلى الأسباب التي تدفعنا إلى رفض الاعتراف بحقيقة مُرّة أو عدم قبول عواقبها، ومتى تكون لإنكارنا آثار مفيدة ومتى يتحول إلى حالة مؤذية وخطرة.

اقرأ أيضاً: هل أنا حساس بشكل مفرط؟

ما هو أسلوب الإنكار؟ وما علاماته؟

وفقاً للمختصة النفسية ريما الهويش؛ فإن الإنسان عندما يواجه صراعاً بين مشكلة ما ورغباته، يجد أمامه 3 اختيارات؛ الأول هو أن يبذل الجهد لحل المشكلة حتى لو كلفه ذلك الكثير من التعب النفسي والجسدي والذهني، والثاني أن يترك حل المشكلة للزمن للتكفل بها على الرغم من أن تسويف الحل قد يُفاقم الشعور بالتوتر والضغط النفسي، أما الاختيار الثالث هو أن يريّح نفسه وينكر وجود المشكلة من الأساس، وهذا الإنكار يحدث دون وعي أو تخطيط مسبق.

فالإنكار إذاً آلية دفاع نفسية يستخدمها الأفراد غالباً لحماية أنفسهم من مواجهة الحقائق أو الوقائع غير المريحة أو المؤلمة، وهو استراتيجية تكيّف متجذرة في العقل الباطن؛ إذ غالباً ما يرفض الأفراد دون وعيٍ منهم الإقرار بالحقائق أو قبولها أو تصديقها أو الاعتراف بعواقبها التي من شأنها أن تهدد تصوراتهم الذاتية أو سلامتهم العاطفية أو معتقداتهم الراسخة.

ويُعد عالم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) أول من وصف الإنكار بأنه رفْض الاعتراف بالحقائق المزعجة المتعلقة بالأحداث الخارجية والداخلية؛ بما فيها الذكريات والأفكار والمشاعر. وقد طوّرت آنا فرويد (Anna Freud) بناءً على أعمال والدها مفهوم آليات الدفاع؛ وهي استراتيجيات غير واعية يلجأ إليها الناس لحماية أنفسهم من الأفكار أو المشاعر المؤلمة؛ إذ اعتقدت آنا أن الإنكار يحمي الأنا على نحو غير واعٍ من الانزعاج والضيق، وذلك عبر رفض جوانب الواقع.

وعلى الرغم من دحض العديد من أفكار فرويد، فإن علماء النفس ما زالوا يعتقدون اليوم أن الإنكار مفهوم صحيح. بالإضافة إلى ما ذُكر، ثمة بعض العلامات التي تشير إلى أن شخصاً ما يستخدم الإنكار آليةً للدفاع عن نفسه؛ ومنها:

  • رفض الحديث عن المشكلة أو التفكير فيها.
  • الإصرار على اتباع سلوك التجنب على الرغم من عواقبه السلبية الواضحة.
  • إيجاد طرائق مختلفة لتبرير هذا السلوك.
  • لوم أشخاص آخرين أو قوة خارجية على التسبب بالمشكلات.
  • إطلاق الوعود بشأن معالجة المشكلة يوماً ما في المستقبل دون أخذ أي خطوات عملية.
  • تجاهل مخاوف الآخرين من خلال التظاهر بالموافقة أو طلب عدم تدخلهم.

اقرأ أيضاً: الأنا العليا: رقيب أم طاغية؟

متى يكون الإنكار مفيداً؟ ومتى يصبح مؤذياً؟ 

إن ما ذُكر أعلاه يجعل الإنكار يبدو سيئاً، ويوحي بأن رفض قبول الحقيقة أمر غير صحي على الإطلاق. لكن دعونا نرأف بحالنا قليلاً، فالإنكار الأولي على المدى القصير قد يكون صحياً فعلاً؛ إذ يساعد الدماغ على استيعاب المعلومات بالسرعة التي تناسبه، فقد تحتاج إلى بعض الوقت بعد صدمة ما لمعالجة ما حدَثَ على نحو يساعد على قبوله والتأقلم معه والمضي قدماً. ولاحقاً، وعندما يستوعب الدماغ الموقف، سيبدأ في التعامل مع المشكلة على نحو أكثر عقلانية؛ ما سيساعدك على اتخاذ القرار المناسب حينها.

لكنّ الإنكار سلاح ذو حدّين؛ إذ من المهم أن تدرك أن الإنكار يجب أن يكون مؤقتاً فقط، ولا ينبغي أن يطول أكثر من اللازم؛ لأن استخدامه على نحو مفرط أو مستمر يمكن أن يعوق عملية النمو الشخصي، خصوصاً إذا كان يمنع معالجة مشكلة ما أو إجراء تغيير مطلوب.

في الواقع، قد يمنع الإنكار الشخص من قبول المساعدة أو الحصول على العلاج الذي يحتاج إليه، سواء كان علاجاً طبياً أو إحدى خدمات الصحة النفسية؛ ما يجعل الشخص يواصل الانخراط في السلوك المدمر. ففي كثير من الحالات، يؤدي الإنكار إلى الرضا على المدى القصير وإلى الألم على المدى الطويل، وإذا ما تجاهله الفرد، فقد يسهم في نشوء مشكلات تتعلق بالصحة النفسية مثل القلق وتردي الحالة المزاجية والتوتر.

اقرأ أيضاً: 9 نصائح لتتجاوز الأيام الثقال وتخفف وطأتها

كيف تتصرف في حال أدركت أنك تعيش حالة إنكار؟

لا يدرك الكثير من الناس أنهم في حالة إنكار حتى يخرج الوضع عن السيطرة. على سبيل المثال؛ قد يعاني شخص ما أعراضاً صحية متكررة بسبب التدخين؛ لكنه ينسب أعراضه إلى أسباب أخرى تجنباً لمواجهة مشكلته الرئيسة. في الأحوال جميعها، إذا كنت تشك أن الإنكار قد يكون آلية تكيف وتأقلم تمنعك من مواجهة مشكلة ما، فثمة بعض النصائح التي عليك اتباعها للتغلب على ذلك؛ مثل:

  • فكِّر في سبب خوفك من مواجهة المشكلة.
  • احصر عواقب تجنب التعامل مع المشكلة.
  • حاوِل التحدث إلى صديق مقرب أو شخص عزيز، فقد يكون قادراً على تقديم وجهة نظر صادقة وموضوعية.
  • حدِّد الأفكار المشوهة التي قد تسهم في قلقك.
  • اعترِف بوجود المشكلة واعمل على تطوير مهارات تأقلم تسمح لك بمواجهة مخاوفك بطرائق صحية ومثمرة.

اقرأ أيضاً: الهولوتروبيك: ممارسة ستأخذك في رحلة إلى أعماق النفس

كيف تتجنب الوقوع في الإنكار؟

القدرة على الاعتراف بالمشكلات ومعالجة المواقف غير المريحة أمر بالغ الأهمية لقدرتنا على تحقيق الأهداف ورعاية العلاقات وتعزيز الصحة النفسية والجسدية. وفيما يلي بعض النصائح لتجنب استخدام الإنكار آليةَ دفاع في حياتك:

  • لاحظ الأنماط المتكررة: قد يكون الصعب تمييز حالة الإنكار التي تنغمس بها بسبب طبيعتها؛ لذلك ابحث عن سيناريوهات أو أنماط تتكرر على الدوام. على سبيل المثال؛ هل غالباً ما تسمح للمواقف الصعبة بالتفاقم قبل معالجتها؟ هل تواجه صعوبة في قبول الواقع كما هو؟ قد يساعدك تحديد الأنماط على اتخاذ خطوات صحيحة نحو مواجهة التحديات وتطوير آليات تأقلم صحية.
  • اطلب الدعم الاجتماعي: قد يكون من الصعب تجنب استخدام الإنكار حتى بعد تحديد المواقف المحتملة التي تنطوي على هذا السلوك؛ لأننا غالباً ما نرغب في حماية مشاعرنا. ولكسر هذه الحلقة، أجرِ محادثة صادقة ومفتوحة مع أحد الأصدقاء أو المقربين الذين تثق بهم؛ أولئك الذين يتحدون تفكيرك ويساعدونك على النظر إلى المشكلة من وجهة نظر مختلفة ويساندونك في مواجهة المواقف الصعبة. بالإضافة إلى ذلك، فكِّر في الانضمام إلى بعض مجموعات الدعم التي تعاني مشكلةً مشابهة لمشكلتك، سواء كانت فقدان عزيز أو مشكلة إدمان أو أياً يكن.
  • طوِّر تقنيات صحيحة لإدارة التوتر: غالباً ما نلجأ إلى الإنكار تجنباً للشعور بالقلق والتوتر. لذلك؛ فإن معرفة كيفية التعامل مع التوتر على نحو فعال قد تساعدك على التعامل مع هذه المواقف بثقة أكبر، ومن أهم تقنيات التعامل مع التوتر أن تمارس التمارين الرياضية وتتبع نظاماً غذائياً صحياً ومتوازناً، وأن تتعلم أساليب التنفس العميق وتمارين اليقظة الذهنية والتأمل وغيرها من الأساليب التي يمكن أن تعزز ثقتك في مواجهة تحديات الحياة.

ختاماً، فكر في طلب مشورة المختص النفسي عندما تشعر بأنك لا تستطيع أن تتعامل مع حالة الإنكار الخاصة بك. سيساعدك المعالج على التغلب على هذه الحالة والمضي قدماً، سواء كنت تعاني الحزن أو حالة نفسية معينة مثل اضطراب الوسواس القهري أو غيرها؛ كما سيساعدك على تطوير سلوكيات صحية، وإعادة صياغة الأفكار السلبية، وتطوير آليات تكيف مناسبة لمعالجة ظروف حياتك.

المحتوى محمي