الطريق نحو السعادة: بين المعقول والمأمول
السعادة هي طمأنينة وراحة النفس، واتزان العواطف، ووفاء المشاعر. والفارق الجلي الذي يميّز السعادة عن اللذة، والفرح، والمتعة، هو ذلك الشعور المستمر - أي أنه لا يمكن اختزال السعادة في تحقيق نزوات اللذة البائدة، أو مشاعر الفرح المؤقتة، أو مشاعر المتعة اللحظية. ويثبت لنا العلم الحديث باستمرار تفرّد السعادة من خلال أثرها على الصحة وطول العمر. إذاً؛ كيف نجد السعادة في حياتنا؟ وكيف يجب أن نسعى وراء السعادة؟
ماهية السعادة
على الرغم من كثرة الباحثين عن السعادة؛ من الغريب أن نخفق في معرفة الطريق نحوها. ولعّل الذي يصعّب علينا أن نجد السعادة في حياتنا هو تساؤلنا غير المنقطع، وسعينا الحثيث عن أمرٍ قد يُقال عنه أنه بأيدينا. وأن نجد السعادة في حياتنا يعني أن نعيش في راحة لامتناهية لا ينغّصها كدر - ربما هذه الفكرة خاطئة. دانييل غيلبرت؛ أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، في حديثه عن ”السعي وراء السعادة“ أوضح أن السعادة لم تكن شيئاً يجدر التفكير به أو الحديث عنه لدى الإنسانية في قديم الزمان - أي أن السعادة لم تكن موضع الاهتمام مقارنةً مع أبسط الاحتياجات التي تتمثل في الغذاء، والماء، والمسكن، والأمان. وهذه الفكرة تتخلص في أنه ”ليس من المهم أن تعيش سعيداً؛ بل المهم أن تعيش“. ومن الممكن الفَهم أيضاً أن السعادة لم تكن أولويةً، أو غايةً، أو هدفاً. وفي نفس السياق؛ إحدى الأفكار الفلسفية المطروحة والمرتبطة بعلم النفس؛ والتي تحدّث بها محمد الحاجي؛ حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السلوكية والاجتماعية، عند سؤاله عن ماهية السعادة قائلاً: ”السعادة هي هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية مغلف بقيمة الامتنان“.
ومن هذا المنطلق؛ يصح القول أن المعقول في أمر السعادة هو وفرة الفرص والأوقات التي تمكّننا من أن نجد السعادة في حياتنا. وذلك ما يفسر سعينا في الوقت الحالي؛ حيث نحشد المال والعقول لفَهم كيف نجد السعادة في حياتنا من خلال أبحاث علمية تُنتج أرقاماً تُبنى عليها تحليلات منطقية. وأمّا المأمول فهو التصوّر الشخصي المحض للسعادة - الخاطئ في أغلب الأحيان. فعلى سبيل المثال: يعتقد دانييل غيلبرت أن استخدامنا لمخيلتنا، وتجاربنا، وما نستشعره ممن حولنا لماهية السعادة، هو ما يقودنا للتفكير أن السعادة سر يجدر بنا البحث عنه. وهذه الفكرة في معظمها خاطئة، وبما لا يدع مجالاً للشك، فالدراسات في حديث دانييل غيلبرت عن ”السعي وراء السعادة“ تخبرنا بأن خبراتنا المبنية على التجارب، وما يُقال لنا، وأدمغتنا التي لا تعلم مقدار مرونتها - أي قدرتها على التحمل - وحقيقة أن عقولنا حبيسة اللحظة الحالية؛ ما يؤدي بنا إلى تصوّر غير صائب عن السعادة.
اقرأ أيضا: تمارين الاسترخاء المناسبة للتوتر.
السعادة في حياتنا من خلال الامتنان
الامتنان هو التقدير المملوء بمشاعر الشُكر، سواءً تجاه أشياء محسوسة أو غير محسوسة. وهنا نفهم فلسفة تغليف هرم ماسلو بالامتنان؛ حيث أننا نجد السعادة في حياتنا تتحقق نتيجة إدراكنا للأشياء المميزة التي نحظى بها، ومن خلال الامتنان يمكننا إدراك صلتنا مع منابع الخير من حولنا - سواءً الإله، أو الأشخاص، أو الطبيعة. والامتنان يمكّننا من استحضار السعادة - سواءً أكان ذلك بالرجوع إلى ذكريات سعيدة من الماضي، أو التلذذ بلحظات أو أشياء مميزة نعايشها في الحاضر، أو استشراف تفاؤلي للمستقبل. وفي أبحاث علم النفس الإيجابي، عادةً يتم الربط بقوة بين السعادة والامتنان؛ حيث يحقق الامتنان سعادةً أكبر للأشخاص الذين يستطيعون التعبير عن امتنانهم. والامتنان يقود الناس إلى التمتع بمشاعر أكثر إيجابيةً، والبقاء بصحة جيّدة أو تحسين حالتهم الصحية، والقدرة على الاستمتاع بالتجارب الجيدة ويعزز القدرة على مواجهة المحن، والأهم أن الامتنان يساعدنا على بناء علاقات اجتماعية قوية.
على سبيل المثال: أظهرت نتائج إحدى الأبحاث، أن المشاركين الذين عبروا عن لحظات الامتنان شعروا بسعادة أكبر مقارنةً بمن لم يعبروا عن لحظات الانزعاج. والجدير بالذكر أن الباحثين خلال فترة المتابعة، لاحظوا أن أفراد المجموعة الذين عبّروا عن الامتنان استطاعوا زيادة نشاطهم البدني، وقلّت زيارتهم للأطباء مقارنةً بمن عبروا عن لحظات الانزعاج. وفي دراسة أخرى، أظهرت النتائج أن الأزواج الذين عبروا عن لحظات الامتنان لشركائهم بيّنوا إيجابيةً أكثر، وكانوا أكثر انفتاحاً للحديث مع شركائهم عمّا قد يعكر صفو علاقتهم الزوجية. أيضاً؛ الامتنان الذي يأتي من المدراء لموظفيهم قد يؤول إلى تحفيزهم لبذل المزيد من الجهد.
ويمكن التدرّب على الامتنان من خلال الممارسة المستمرة -على سبيل المثال- توجيه شكرنا لشخص ممتنين لوجوده معنا وفي حياتنا. أيضاً من الممكن تدوين امتناننا للأشياء المميزة التي حظينا بها خلال يومنا، أو أن نتفرّغ دقائق لعدّ تلك الأشياء المميزة - النِعم، أو أن نمارس صلواتنا وشكرنا لمن يمنحنا تلك الأشياء المميزة. بالامتنان يسْهل علينا كثيراً أن ندرك الأشياء اليومية البسيطة بكل حواسنا، ثم نستشعرها ونستغرق فيها حقاً؛ كأن نمارس التأمل ومن خلاله نستلهم الامتنان لنغمة شجيّة عند سماعها، أو استنشاق رائحة عطر مميزة أو كوب قهوة، أو شروق الشمس وغروبها، أو بزوغ القمر عند مشاهدتنا لهم.
السعادة في حياتنا من خلال العلاقات
هل هناك أشخاص في حياتنا يمكننا الاعتماد عليهم؟ العلاقات الاجتماعية -أو الدعم الاجتماعي- هي أكثر ما يؤثر فينا، ويمكننا من خلالها أن نجد السعادة كما ذكر دانييل غيلبرت. في أطول دراسة متعلقة بالسعادة، بدأت في عام 1938، وقام بها فريق بحثي من جامعة هارفارد، توصّل الباحثون من خلالها إلى ثلاث دروس لا تمكن الاستهانة بها:
- أولاً؛ وجد الباحثون أن الأشخاص الذين لديهم علاقات اجتماعية قوية يكونون أكثر سعادةً، وأفضل صحةً، وأطول عمراً مقارنةً مع الأشخاص الذين كانوا يعيشون في عُزلة.
- ثانياً؛ جودة العلاقات الاجتماعية أو الدعم الاجتماعي التي يمكن للشخص الاعتماد عليها تساهم في تعزيز الصحة، وتسمح لنا أن نجد السعادة، والجودة هنا لا تعني العدد؛ وإنما تعني العلاقات المتّسمة بالدعم والإيجابية والمساعدة، بالإضافة إلى قلة الخلافات أو المشاكل وعدم العزلة. فعلى سبيل المثال: مقدار رضا الأشخاص عن علاقاتهم في عمر الخمسينات كان عاملاً مهماً لتمتعهم بالصحة في عمر الثمانينات.
- ثالثاً؛ الأشخاص الذين لديهم علاقات اجتماعية قوية بقيت أدمغتهم تعمل بشكل أفضل من حيث قدرتهم على التذكر مقارنةً بمن عاشوا في عزلة أو ضمن علاقات ذات جودة سيئة.
المال أو الاستهلاك المادي والسعادة
لا يمكن تجاهل حقيقة أن إعطاء مبلغ بسيط، يمكن أن يُحدث فرقاً في مستوى السعادة لدى شخص مُعدم؛ ولكنه لن يحرّك مستوى السعادة لدى شخص ثري. أيضاً لا يمكن إغفال حقيقة أخرى تتعلق بكيفية صرف المال - أي تحوّل عادة الإنفاق غالباً لمجرد الاستهلاك التفاخري فقط. استعرض دانييل غيلبرت منحنىً رياضياً توصّل له الباحثون عند ربط المال أو الاستهلاك المادي مع السعادة. المنحنى يمكن تصوّره بوضع الكمية ”Quantity“ -أي المال أو الاستهلاك المادي- في المحور الأفقي (من اليسار إلى اليمين)، ووضع المنفعة ”Utility“ أو السعادة في المحور الرأسي (من الأسفل إلى الأعلى). سوف نلاحظ أن المنحنى يصعد باستمرار عند إنفاق المال، خاصةً في بداية المنحنى؛ كإعطاء مبلغ بسيط لشخص محتاج أو معدم؛ ولكن ما إن يصل المنحنى إلى نقطة التشبع أو الذروة، يبدأ بالتناقص ببطء وبشكل تدريجي - بمعنى أن المال أو الاستهلاك المادي لم يعد يؤثر في كمية السعادة التي يمكن تحقيقها. ولذا فإن المال أو الاستهلاك المادي لمجرد الاستهلاك التفاخري فقط، ليس طريقاً عملياً يمكن أن نصل من خلاله للسعادة، فاقتناء الكماليات أو اللهث وراء المال، وإن حصلنا من خلاله على لذة مؤقتة أو متعة لحظية، فالمنحنى يخبرنا أن التحفيز المستمر مصيره التشبّع؛ ما يحول دون تحقيق السعادة.
كيف نجد السعادة في حياتنا؟
السعادة ليست سراً، ويجب علينا جميعاً إعادة التفكير في كيفية تصورّها في عقولنا وفي مجتمعاتنا. يجب علينا التذكّر دائماً أن أدمغتنا قد لا تعي قدرتها على التحمّل، وحقيقة أنها حبيسة اللحظة الحالية؛ ما قد يقودنا إلى تصوّر غير واقعي عن السعادة. لنتدرب على الامتنان ونتعلم أن نمارسه في شتى أنحاء حياتنا، والامتنان من أقصر الطرق الفعّالة التي يمكن من خلالها أن نجد السعادة في حياتنا. بالإضافة أن الامتنان يجعل من السهل علينا أن ندرك حقيقة الأشياء المميزة التي نحظى بها، وبالامتنان نجد السعادة في حياتنا نابعةً من ذواتنا، ويمتد تأثيرها ليشمل علاقاتنا وما نعايشه من حولنا، وهذا شيءٌ لا يمكن أن نغفل عنه؛ حيث أن الامتنان يعزز فرص حصولنا على علاقات اجتماعية قوية في دوائرنا الاجتماعية المختلفة؛ كدائرة الأهل، ودائرة الأصدقاء، ودائرة الزملاء والعمل، ودائرة المجتمع الصغير والكبير. وفيما يتعلق بالمال والاستهلاك المادي، فيمكن أن نسخّر المال للعطاء والتعبير عن الامتنان للآخرين، أو أن نشتري به لحظات مميزةً ننقشها في الذاكرة ونكتشف من خلالها العالم من حولنا.