كيف تتصرف عندما يأخذ طبيبك النفسي إجازة؟

الطبيب النفسي
(مصدر الصورة: نفسيتي، تصميم: محمد محمود)
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: عندما يغلق الطبيب النفسي عيادته لأخذ إجازته الصيفية، يترك وراءه مرضاه الذين تعلّقوا به وارتبطوا بجلساته العلاجية. فما مدى خطورة هذا الغياب المؤقّت على حالاتهم النفسية؟ يحلّل هذا المقال العلاقة العلاجية بين الطبيب النفسي ومريضه خلال فترة الإجازة، ويبرز أهمّ أبعادها وكيفية التحضير لها جيداً بناء على خبرات المعالجين وشهادات المرضى.

عندما يعلن الطبيب النفسي عن غيابه طيلة فترة الإجازة الصيفية، فغالباً ما يشعر مرضاه بالقلق؛ لكن الانفصال عن الطبيب النفسي قد يكون أيضاً فرصة لهم لاختبار الاستقلالية التي اكتسبوها بفضل العلاج.

الخوف من الفراغ

كلما اقتربت إجازة الصيف، وإذا كان أغلبنا ينتظرها بفارغ الصبر، فإن سمر تتمنى أن يتوقف الزمن! تبلغ سمر من العمر 29 عاماً، وبعد 3 سنوات من العلاج النفسي ما تزال تتخوّف من فترة إجازة الطبيب الذي يتابع حالتها. تقول مستغربة: “إنه يتخلّى عني، لا أقل ولا أكثر. كلّما أخذ إجازته أشعر بتمزّق داخلي. في كلّ مرة أشعر بالخوف من العجز عن العيش دونه أو من فقدانه”. ليست حالة سمر حالة فردية، فالقلق يسيطر على كثيرين من المرضى مثلها بسبب احتمال عدم رؤية أطبائهم النفسيين مدة شهر كامل بعد أن اعتادوا على ملاقاتهم مرّة أو مرّتين في الأسبوع.

يجد المريض نفسه فجأة وحيداً في مواجهة همومه ووساوسه دون إمكانية “البوح بما بداخله”. فما مدى خطورة ذلك؟ تقول المختصة في علاج الغشطالت، بريجيت مارتيل (Brigitte Martel): “يعتمد هذا الشعور على مرحلة العلاج التي يحدث فيها هذا التوقف. عندما يحدث في مرحلة يحتاج فيها المريض إلى دعم كبير، فإن هذا التّوقف الصّيفي يمكن أن يكون خطِراً”.

يحدث ذلك لأن العلاج يؤدي إلى فتح مستوى اللاوعي لدى المريض. يقول زياد الذي يبلغ من العمر 34 عاماً: “استحضار الماضي يعني أن تغمرك عواطف مربِكة. يمكننا استحضار هذه العواطف عندما يكون هناك مَن يستقبلها، ولا سيّما عاطفة الحزن. خلال أول إجازة أخذها طبيبي، وجدت نفسي مثل طفل صغير يبكي في رصيف محطة قطار دون أن يجد من يواسيه”. يوضّح المحلّل النفسي جان ماري جادان (Jean-Marie Jadin) ذلك قائلاً: “إذا كانت طبيعة ردّ الفعل مرتبطة بتجربة كلّ مريض على حدة، فإن الابتعاد عن الطبيب النفسي قد يكون مؤلماً إلى درجة تجعل المريض يستحضر تجارب الانفصال السابقة، ولا سيّما إذا كانت صادمة بسبب سوء استيعابها”.

التحضير للإجازة

يعلن الطبيب جان ماري جادان عن موعد توقّفه عن العمل ليتجنّب إحياء هذه الصدمات في نفوس مرضاه، وينتقد مَن يفعلون ذلك متأخرين: “بعض الأطباء النفسيين لا يعلن عن توقّفه للإجازة إلا في الجلسة الأخيرة، وهذا قاسٍ جداً”. وتهيّئ بريجيت مارتيل أيضاً لإجازتها مع مرضاها: “نحاول إيجاد حلول وفقاً للطريقة التي يتوقع بها المرضى عملية الانفصال”.

ذات مرة، واجهت مارتيل قلقاً حاداً لأحد مرضاها من مفارقتها بإعارته شيئاً من عيادتها باعتباره عنصراً انتقالياً يرمز إلى استمرار العلاقة العلاجية بينهما. وتقترح على مرضاها تنظيم جلسات ذاتية صيفية؛ وهي مواعيد يحدّدها المريض مع نفسه للتعبير بالكتابة أو الرسم عن الأشياء التي يعبّر عنها عادة في حضور المعالج النفسي.

لم يسبق لسارة البالغة من العمر 37 عاماً والخاضعة للعلاج منذ 4 سنوات، اللجوء إلى هذه الجلسات الطارئة؛ لكنّها تعلمت بالمقابل وقاية نفسها لتجنّب الشعور بالحزن خلال فترة إجازة طبيبها. تصف ذلك قائلة: “أتوقّف قبل الجلسات الأخيرة عن إثارة القضايا المهمة حتى لا أتركها دون علاج. أحرص على ترتيب كلّ شيء حتّى أقضي الصيف مرتاحة”.

ويدعو جان ماري جادان مرضاه أحياناً إلى اعتماد هذا الأسلوب: “على العكس من ذلك، فإن بعض المرضى يستغلّ الجلسات الأخيرة في إثارة بعض الموضوعات الحساسة كما يفعل بعض المرضى أحياناً في نهاية الجلسة وقد شارف على مغادرة العيادة”. فهل يجب تجنّب ذلك؟ “ليس تماماً. ما يُقلق بعض المرضى قد يكون مفيداً لآخرين؛ لأن العمل العلاجي يستمر في غياب المعالج”.

انفصال بنّاء

عندما غادرَت عيادة المحلل النفسي بعد الجلسة الأخيرة، شعرت أميمة البالغة من العمر 27 عاماً والخاضعة للتحليل النفسي منذ 8 أشهر “بمشاعر غريبة”. شعرت وكأن العالم سينهار فوق رأسها؛ وكأنها تلقي بنفسها في هوّة سحيقة. وتقول عن ذلك: “في الصيف الأول، ارتكبت الكثير من الحماقات حتى أثبت أنني لا أستطيع الابتعاد عن طبيبتي النفسية. أما اليوم، فإنني أرتبك في الأيام الأولى فقط؛ لكنني أدرك أنني قادرة على الصمود”.

تؤكد بريجيت مارتيل ذلك: “تمرّ الأمور بالنسبة إلى المرضى أغليهم على نحو أفضل مما كانوا يتوقعون، فالإجازة تمثل فرصة لاكتشاف الاستقلالية التي اكتسبوها بفضل العلاج”. كلّما التقت سارة بعائلة زوجها في شاطئ البحر تدرك مدى التقدم الذي حققته في علاجها. وتقول عن ذلك: “أدرك أنني أصبحت قادرة أكثر على فرض حدودي، وتجنّب ردود الأفعال المتسرعة. لقد بدأت حقاً ألاحظ ما يزعجني وأتركه جانباً حتى أتحدث عنه مع طبيبتي بعد إجازتها”.

ومع ذلك، فقد اتصلت سارة ذات مرة بطبيبتها خلال إجازتها: “حدث خلاف بيني وبين حماتي. كنت في حالة ارتباك إلى درجة أنني فضلت إزعاج الطبيبة على تأزيم الموقف الذي كنت فيه، وقد ساعدتني بمكالمة هاتفية واحدة على استعادة توازني”.

هكذا يجد المرضى فرص النضج من خلال اضطرارهم المؤقّت إلى مواجهة الصعوبات التي يعيشونها. لهذا؛ لا يفضل المعالجون النفسيون بغالبيتهم إعطاء أرقامهم الهاتفية الخاصة للمرضى. يؤكد جان ماري جادان ذلك: “الانفصال عن الطبيب النفسي يساعد المريض دائماً على إعادة بناء ذاته. إنه ضروري أيضاً للعمل العلاجي كضرورة النقطة بين جملتين”.

لكن لا مجال في نظر جادان لترك المريض المتأزم دون وسيلة إنقاذ: “يمكن أن أعطي رقم هاتفي للمريض عندما أجد صعوبة في بناء العلاقة العلاجية بيننا، ولا سيّما للمرضى الذين يعانون أزمة كبيرة على سبيل المثال. أعرف أنهم لا يبالغون أبداً في الاتصال بي؛ كأنهم يفهمون فائدة محاولة الاستقلالية عن الطبيب. لكن في الحالات معظمها، أفضّل أن أعطي المريض رقم معالج نفسي آخر كي أدمج طرفاً ثالثاً في العلاقة على نحو لا يزيد تعلّق المريض بي بل يؤدي إلى تحسيسه بالمسؤولية”.

أصبح زياد يعيش غياب طبيبه النفسي باعتباره لحظة ارتياح كبيرة بعد أن كان يخشى ذلك مدة طويلة. يوضّح ذلك قائلاً: “خلال فترة غياب الطبيب، أتوقف عن العيش وكأنني مضطر دائماً إلى تقديم الحساب”. يؤكد جان ماري جادان هذا الأمر: “كثيراً ما يضعنا المرضى في موقع الأب المتسلّط الذي يسعى إلى لومهم، وعندما يغيب القط ترقص الفئران”.

قواعد عمل جديدة

في لحظة التحوّل هذه التي يعظّم فيها المريض طبيبه النفسي ويمنحه سلطة مطلقة، التقت جيداء البالغة من العمر 45 عاماً في أحد الشواطئ بالمحللة النفسية المشرفة على حالتها. تحكي عن هذا اللقاء: “كان لقاء مروعاً، شعرت كأنني طفلة ضُبطت متلبّسة بالغياب عن فصلها الدراسي، وكرهت أيضاً رؤية طبيبتي النفسية بملابس السباحة والشعر المستعار على رأسها. وفي لحظة واحدة فقدتْ مكانتها عندي”.

هذه التجارب تسمح للمريض باكتشاف القضايا التي يمكن أن يعمل على علاجها بعد استئناف الجلسات. تلاحظ سارة: “عندما نُحرم من الجلسات العلاجية ندرك مدى التقدم الذي حقّقناه والطريق المتبقي أمامنا”.

وهكذا ينطلق العمل العلاجي بعد الإجازة على أسس جديدة. تشير بريجيت مارتيل إلى ذلك: “عندما ألتقي بمرضاي بعد الإجازة في شهر سبتمبر/ أيلول، أشعر أنهم تغيّروا، فبعضهم يصبح أكثر ثقة في نفسه؛ بينما تسوء أحوال آخرين”. تصف سمر هذا الموقف: “أشعر كأنّ عليّ ترويض نفسي من جديد. عندما كان والدي يعود من رحلات العمل، كنت أجعله يدفع ثمن غياباته بالطريقة نفسها”.

كلّ صيف تراجع هذه الفتاة الشابة جدياً مدى تحمّسها لمواصلة التحليل النفسي الذي تخضع له؛ لكنّها تستأنفه في كلّ مرة بقدر أكبر من الوعي. تقول: “كان على طبيبي النفسي أن يغيب كي أفهم إلى أيّ حدّ أسترجع معه علاقتي بوالدي”. وغالباً ما تكون وقفة التأمل خلال الصيف الفترة التي يتخذ فيها المرضى قرارات مهمة، كتغيير جانب من جوانب حيواتهم أو إنهاء علاجاتهم النفسية.

بعيداً عن مرضاهم

ماذا عن الأطباء النفسيين؟ بماذا يشعرون خلال إجازاتهم؟ هذه اعترافات بعض الأطباء الذين رفضوا الإفصاح عن هوياتهم:

  • “أنا لا أتطلّع أبداً إلى التخلّي عن مرضاي بل أنا فقط محتاج إلى الراحة؛ إذ من المرهق الإصغاء بانتباه لمدة 10 ساعات في اليوم. أواصل خلال الإجازة التفكير في تصريحات المرضى، وزوجتي تلومني على عدم التركيز عندما أكون معها لأنني أظل باستمرار منشغلاً بهم”.
  • “عندما أبتعد عن عيادتي أستمتع بالتخلص من واجب التحفظ الذي تفرضه عليّ مهنتي، وأنغمس في العيش على طبيعتي. سأنزعج من رؤية المرضى لي في هذا الموقف، وسأشعر أنهم يقتحمون مجال حريتي وخصوصيتي. قلبي منشغل بهم لكنّ لي حياة معهم وحياة من دونهم”.
  • “يروي لي مريض حلمه قائلاً: نجلس معاً في غرفة واحدة، يستلقي كلّ منّا على أريكة. انتهى الحلم. بعد يومين أحجز “سريراً بالقطار” في رحلة لقضاء الإجازة. وفجأة ألتقي في المقطورة التي أسافر فيها بأحد مرضاي. يا للصدمة! لحسن الحظ أنه رفع عنّي الحرج وهو يقول ضاحكاً: أنبّهك إلى أننا لسنا في جلسة العلاج”.

ماذا عن فاتورة الجلسات؟

يتساءل العديد من المرضى عن أداء فاتورة الجلسات خلال الإجازة، والقاعدة السائدة في هذا المجال أن المرضى يؤدون فقط ثمن الجلسات التي يتغيّبون عنها. يوضح المحلل النفسي ورئيس جمعية الحركة الفرويدية الفرنسية جان بيير وينتر (Jean-Pierre Winter): “لا يتّبع المهنيون جميعاً القواعد نفسها. لقد تبنّيت القاعدة التالية بناء على خبرتي: توجد جلسة عندما يوجد المحلل النفسي، ولا جلسة عندما يغيب. هذا يعني أن المريض يدفع مقابل الجلسات التي يفوّتها، وليس تلك التي لا أحضرها؛ لأن العلاج يجب أن يكون أهم شيء بالنسبة إلى المريض، وليس من حقّ المحلّل النفسي أن يقرّر إن كان مبرّر غياب المريض عن الجلسة مقبولاً أو لا. من جهة أخرى، يجب ألّا يكون هناك سوء فهم للمقابل الذي يدفعه المريض. إذا كنّا نعتقد أنه يدفع ثمن الوقت الذي نخصّصه له فنحن مخطئون. ما يدفعه هو مقابل الإصغاء؛ أنا أفتح عيادتي النفسية لمرضاي منذ عدة سنوات وما يدفعونه لي مقابل ذلك يعادل في نظري ثمن الإيجار”.