إن عدم الثقة؛ الذي يمارَس بجرعات صغيرة وبحكمة، يحمينا من العديد من المضايقات؛ لكن من دون الثقة، لا يمكن إقامة أي علاقة- سواء كانت صداقة أو علاقة رومانسية أو علاقة مهنية. فلماذا يجد بعض الناس صعوبة في الثقة بالآخرين؟
"لتبسيط المعنى؛ يمكننا القول إن هناك نوعين من الأشخاص: أولئك الذين يثقون مسبقاً وأولئك الذين يرتابون مسبقاً" كما يشير كريستوف أندريه؛ المختص في الأمراض العقلية المعرفية (الاضطرابات العقلية المعرفية). يكفي القول إن عدم الثقة ليس مَرَضياً في حد ذاته؛ ولكن إذا ما مورس بإفراط وبشكل مستمر، فإنه يحكم على من يعانون منه بالعزلة والوحدة. وفقاً للمختص، فإن "هذا الرهاب الاجتماعي يظهر على الأشخاص الذين يعانون من مزاج شديد الحساسية". كونهم يشعرون بالضعف والهشاشة، فإنهم يستخدمون انعدام الثقة بوصفه آليةً للحماية والدفاع عن أنفسهم.
عدم الثقة الوراثية
بالنسبة للمحللين النفسيين، فغالباً ما تورَّث هذه النزعة من الطفولة. في الواقع؛ يعيش الأطفال الصغار في وضع متناقض إذا كانوا يثقون في البالغين، نظراً لأن بقاءهم ورفاهيتهم يعتمدان عليهم، فإنهم مع ذلك بعيدون عن تجاهل انعدام الثقة. تنشأ استجابة للأحاسيس المؤلمة التي قد تهاجمه عندما لا تتدخل والدته بالسرعة الكافية لرعايته: بغير وعي، يرى فيها ما يُعرف بـ "الثدي السيئ" الذي يضطهده. يتألم وينسب ذلك تلقائياً إلى والدته التي يرى في عينيها القويتين، رغبةً في إلحاق الأذى به.
وفقاً للمحللة النفسية ميلاني كلاين (1882-1960)؛ وهي أول من اكتشف هذا الجانب من التطور الطفولي، فإن هذا رد فعل طبيعي إذا لم يستحوذ على المجال العاطفي بأكمله. لاحقاً؛ سيصبح هذا المزيج المتناقض من الحنان وانعدام الثقة أمراً شائعاً في العلاقات الإنسانية. ومع ذلك، فإن هذا الميل النفسي لعدم الثقة يمكن أن يعززه خوف الوالدين اللذين يتملكهما القلق المفرط تجاه العالم الخارجي. "حذارِ من الناس"، "لا تنسَق وراء أي شخص": هذه التحذيرات ضرورية لسلامة الطفل الذي يميل إلى السذاجة تجاه أي شخص يشبه شخصية الأب، "يجب أن يظل معتدلاً"، كما تشير المعالجة النفسية أغنيس باين دي لا غارانديري. مخنوقاً من قبل الوالدين المفرطين في الحماية، قد ينظر الطفل إلى العالم الخارجي على أنه غابة مرعبة يسكنها المعتدون المحتملون.
الكثير من المثالية
عندما لا يكون الوالدان هم من ينقلون عدم الثقة، فإن الحياة نفسها هي التي تحرص على ذلك: زميل يخوننا، صديق يستغل كرمنا، شريك يخدعنا… يعلق كريستوف أندريه على أن الأشخاص الذين يشعرون بعدم الثقة بشكل مبالغ فيه "هم الأشخاص الذين لديهم رؤية وهمية، لأنهم مثاليون فيما يتعلق بالعلاقات". إنهم متطلبون بشدة تجاه الطرف الآخر، فهم يفسرون أدنى تقصير من جانبه على أنه خيانة. في بعض الحالات؛ يتطور هذا الشعور إلى شكل من أشكال جنون العظمة: "لا أحد يستحق ثقتي، إذاً فالجميع يريد أن يؤذيني".
وفي حالات أخرى؛ سخرية مفرطة: "هذا الرجل تركني دون أن يهمس ببنت شفة، إذاً فكل الناس جبناء". إما أنك تشك في قدراتك، أو تتوقع الكثير من الآخرين.
تشير أغنيس باين دي لا غارانديري إلى أن "إقامة علاقة مع الآخرين هي دائماً مجازفة". يجب أن نكون مستعدين لاختبار انطباعاتنا الأولى عنها لفترة من الوقت، حتى نتمكن من اختبار موثوقيتها. ومع ذلك، فإن هذه المجازفة ممكنة فقط لأولئك الذين- في الأصل- لديهم ما يكفي من الثقة بالنفس حتى لا يتصرفوا بعنف في حالة خيبة الأمل. وبالتالي، فإن انعدام الثقة بالآخرين هو دائماً علامة على عدم الثقة بالنفس.
نصائح للأهل والأصدقاء
يجب تجنب عقبتين. إن تقديم دليل على مصداقيتنا باستمرار أمر لا طائل من ورائه؛ إذ إن أقل زلة تقلل منا في تقدير الأشخاص الذين يعانون من عدم الثقة وتضعنا في موقف ضعف. وعلى العكس من ذلك، فإن تجاهل فرط الحساسية ومضاعفة "الخيانات الصغيرة" هو بمثابة تغذية لوجهة نظره السلبية عن الجنس البشري. الحل: كن أكثر وضوحاً مما قد تكون عليه مع شخص أقل حساسيةً، واشرح وجهة نظرك؛ اجعله يفهم أنه إذا كنا نفتقر أحياناً إلى الرقة، فهذا ليس مقصوداً.
نصائح للأشخاص الذين يعانون من عدم الثقة
تحديد أصل المشكلة
غالباً ما يرتبط رفض منح الثقة بتجربة سيئة. من خلال تحديد هذا الحدث؛ يمكننا إظهار المزيد من التسامح والمرونة في أحكامنا تجاه الآخرين: يصبح من الواضح أن التهديد يأتي فقط من الشخص الذي استغل ثقتنا في الماضي.
كن واقعياً
لا، لا يفكر كل الرجال في الجنس، ولا تهتم كل النساء بالمال، ولا يسعى كل الرؤساء لاستغلال موظفيهم… عليك التخلص من تحيزاتك والموافقة على منح فرصة للآخر، وبالتالي فإن الشخص غير القادر على الحفاظ على سر قد يثبت فعاليته في العمل أو في إسداء النصائح للأصدقاء.
تذكر التجارب الإيجابية
لقد عشنا حتماً لقاءات تصرف فيها الآخر كحليف حقيقي. من خلال تذكر التجارب الإيجابية؛ نتعلم وضع الأشياء في نصابها، فليس كل الرجال خبيثين، ولسنا محكومين بدور الضحية.
تجنب لوم الآخر
أحياناً يخون الطرف الآخر الثقة التي وُضعت فيه؛ لكن هل يدرك مدى الضرر الذي سببه بتصرفه هذا؟ فبدلاً عن تحميله المسؤولية؛ عليك أن تشرح له وجهة نظرك. هل خان السر عن قصد؟ هل يدرك أن تأخيراته المتكررة يمكن أن تزعجك؟ في أي علاقة، تُكتسب الثقة أيضاً من خلال الحوار.
اختبر نفسك...