ملخص: عقدة الناجي هي الشعور بالذنب والندم الذي قد يعذب أشخاصاً نجوا من حوادث كارثية في حين مات العديد من الناس فيها، وهي أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وتشكّل خطراً كبيراً على الصحة النفسية والجسدية.
وعلى الرغم من أنها ليست حالة صحية نفسية محددة؛ لكنها لا تقل خطورة عن غيرها، وإذا ما تُركت دون علاج، فقد تؤدي إلى اضطراب عاطفي طويل الأمد، وقد يصل الشخص إلى التفكير بالانتحار. فما هي عقدة الناجي؟ وما أعراضها وأسباب نشوئها؟ وكيف يمكن التعامل مع المصابين بها؟
اقرأ أيضاً: لماذا تختلف استجابتنا للصدمات النفسية؟ وكيف نعالجها؟
ما هي عقدة الناجي؟
عقدة الناجي، وقد تُسمَّى أيضاً "عقدة الذنب" أو "متلازمة الناجي"، هي شعور الشخص بالذنب أو الندم لأنه نجا من حادث خطِر مثل كارثة طبيعية أو أعمال عنف أو حادث ما في حين مات آخرون أو تضرروا. وتظهر هذه المشاعر على شكل حلقة متكررة؛ بحيث يواجه الشخص صعوبة في تحويل أفكاره نحو أي شيء آخر.
قد تظهر عقدة الناجي أيضاً عند الشخص الذي يحتفظ بوظيفته في حين يسرَّح معظم زملائه، أو عند الشخص الذي يتلقى أحد أفراد أسرته تشخيصاً بحالة وراثية خطِرة، أو عند الأشخاص الذين يعملون في الإطفاء أو طب الطوارئ، أو الذين خاضوا تجربة الحرب والصراع العسكري، وغيرهم.
قد يرتبط الشعور بالذنب ببساطة نتيجة البقاء على قيد الحياة فقط، ومع ذلك، فقد يقضي الشخص الكثير من الوقت في التفكير بالحادث مراراً وتكراراً، ويفكر ملياً في التصرفات التي كان من الممكن أن يفعلها والتي من شأنها حسب اعتقاده أن تغير ما حصل.
وفي الواقع، تؤدي إعادة صياغة الأحداث في عقله إلى تفاقم الشعور بالذنب، وبخاصة إذا شعر أن أفعاله أو تقاعسه عن فعل شيء ما قد فاقم العواقب.
ويتأثر اجترار الأفكار هذا في كثير من الأحيان بما يُعرف بـ "التحيز المعرفي المتأخر" أو "التحيز بعد فوات الأوان" (Hindsight bias)؛ إذ وعندما يفكر الشخص في الماضي، تراه يبالغ في تقدير قدرته على توقُّع نتيجة حادث ما، فيقتنع بأنه كان قادراً على تغيير النتيجة!
وتُعد عقدة الناجي وفقاً للإصدار الأحدث (الخامس) من الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders) الذي صدر عام 2013، أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وقد تُعتبر أحد الأعراض المعرفية والمزاجية لاضطراب ما بعد الصدمة؛ التي تشمل الشعور المشوّه بالذنب والأفكار السلبية عن الذات.
جدير بالذكر إن الشخص قد يُصاب بعقدة الناجي دون الإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، في حين قد يُصاب آخرون باضطراب ما بعد الصدمة دون الشعور بعقدة الذنب.
اقرأ أيضاً: كيف تقي نفسك من الانهيار العصبي؟
أعراض عقدة الناجي
غالباً ما تحاكي أعراض عقدة الناجي أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، وقد تختلف شدة الأعراض من شخص إلى آخر. بشكل عام، من الأعراض النفسية الأكثر شيوعاً التي قد ترافق الشعور بالذنب أو الندم، ما يلي:
- الشعور بالعجز واليأس.
- الذكريات عن الحادث الصادم.
- الانفعال أو الارتباك أو الخوف.
- الأرق والكوابيس ومشكلات النوم الأخرى.
- نوبات الغضب وتقلبات المزاج.
- الأفكار الوسواسية عن الحادث.
- صعوبة التركيز.
- الرغبة المتزايدة في الانعزال عن الآخرين.
- فقدان الاهتمام بالأمور والأنشطة المفضلة عادة.
- فقدان الحافز لفعل أي شيء.
- الأفكار الانتحارية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يعاني الشخص من بعض الأعراض الجسدية على الرغم من عدم وجود أي سبب عضوي لها؛ ومن هذه الأعراض:
- تغيرات الشهية.
- مشكلات النوم.
- الصداع.
- الغثيان أو آلام المعدة.
- تسارع نبضات القلب.
أسباب عقدة الناجي
ليس كل شخص ينجو من حادث صعب مثل كارثة طبيعية أو مجزرة أو غير ذلك سيعاني من الشعور من الذنب، فقد يؤدي مركز السيطرة للشخص دوراً في تحديد ما إذا كان سيعاني من عقدة الناجي أو لا.
ومركز السيطرة هو مكون طبيعي في شخصية الإنسان يشير إلى مدى شعوره بالتحكم في الأحداث التي تؤثر في حياته؛ وهذا يعني ميل الشخص الذي يعاني من عقدة الذنب إلى عزو سبب الحادث إلى الخصائص الشخصية بدلاً من القوى الخارجية.
بالإضافة إلى ذلك، ثمة بعض العوامل الإضافية التي قد تزيد خطر تعرُّض الشخص لعقدة الناجي؛ ومنها:
- المعاناة من صدمات سابقة: أشار بعض الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين تعرضوا للأحداث المؤلمة والصدمات في أثناء الطفولة، كانوا أكثر عرضة للإصابة بعقدة الناجي في مرحلة البلوغ.
- وجود بعض اضطرابات الصحة النفسية: ذكرت إحدى الدراسات أن الأشخاص المصابين بالاكتئاب أو الذين عانوا منه في السابق يكونون أكثر عرضة للشعور بالذنب والقلق بعد الصدمة، وقد يبلغون عن أعراض مرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة أكثر حدةً.
- تدني احترام الذات: قد يتساءل الشخص الذي يعاني من تدني احترام الذات إن كان يستحق أن يبقى على قيد الحياة بعد الحادث الصادم في حين لم ينجُ الآخرون؛ ما قد يؤدي إلى الشعور بالنقص أو الذنب.
- ضعف مهارات التأقلم: قد يكون الشخص أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة إذا كان يميل إلى تجنُّب التعامل مع الإجهاد؛ أي أنه يمتلك آليات مواجهة غير مفيدة قد يستخدمها بوعي أو بغير وعي لتجنُّب معالجة مشكلة صعبة أو مواجهة الأفكار والمشاعر غير المريحة، فيتجنب الضغوط بدلاً من التعامل معها.
- نقص الدعم الاجتماعي: وفقاً لإحدى الدراسات؛ فإن الأشخاص الذين يعانون من نقص الدعم الاجتماعي واضطرابات العلاقات الاجتماعية يكونون أكثر عرضة للإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة والشعور بالذنب.
اقرأ أيضاً: ما علامات عقدتيّ النقص والتفوق؟
كيفية التعامل مع عقدة الناجي
في حال وجدت نفسك تشعر بالذنب بعد مأساة ما، فثمة بعض الاستراتيجيات التي يمكنك القيام بها للتأقلم مع هذه المشاعر والتحكم بها؛ ومنها:
تقبّل ما حدث
قد يكون تقبُّل حادث صادم أو كارثة كبيرة أمراً صعباً جداً. ومع ذلك، عليك أن تقبل الحادث نفسه، وأن تعترف بفقدان أحبائك ونمط حياتك الجديد وأن تتصالح معه، وأن تقرّ بأي شعور نتج بعد تلك الصدمة وتتقبّله؛ سواء كان الشعور بالذنب أو الحزن أو أي مشاعر أخرى.
اسمح لنفسك بأن تحزن وأعطِ نفسك الوقت الكافي لذلك. يمكنك أن تلجأ إلى التأمل لقبول المشاعر المؤلمة أو الصعبة التي تعتريك وتنظيمها، أو تلجأ إلى تدوين مشاعرك هذه في يومياتك. وتذكّر أن محاولة تجنُّب ذكريات الحادث أو إنكارها ليس حلاً طويل الأمد، في حين أن تقبُّل مشاعرك وأخذ الوقت الكافي للتعامل معها، سيسهل عليك قبول جوانب الصدمة جميعها؛ بما فيها حقيقة أنك لم تتسبب في الحادث ولا يمكنك فعل أي شيء لتغيير النتيجة.
وعليك أن تعلم أن المشاعر السلبية أمر شائع الحدوث، فالشعور بالذنب لا يعني أنك مذنب بارتكاب أي خطأ، فالحزن والخوف والقلق والشعور بالذنب ردود فعل طبيعية تماماً قد تحدث في أعقاب أي حادث مأساوي، ولا بأس أن تشعر بالامتنان لنجاتك في الوقت نفسه الذي تشعر فيه بالحداد على مصير الآخرين.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع شريك العمر في حال أصيب بانفصام الشخصية؟
جرِّب تقنيات اليقظة
يمكن لتقنيات اليقظة أن تعزز التركيز على اللحظة الحالية؛ ما قد يسهل التخلص من الأفكار المزعجة. ومن هذه التقنيات: المشي مع تركيز الانتباه على ما تراه وتسمعه وتشعر به، أو أن ترسم أو تلون أو تخربش حتى، أو أن تقوم بأي تأملات بسيطة أخرى.
تحدَّث إلى أحبائك
يمكن للدعم العاطفي من العائلة أو الأصدقاء أن يُحدث فرقاً كبيراً بعد الحادث الصادم، وذلك من خلال الاستماع إلى ضغوطك، وتذكيرك بأنه لا حاجة إلى الشعور بالحرج من سلامتك، وأنك لست المسؤول عما حدث.
أما وفي حال كنت تجد صعوبة في الانفتاح على الأشخاص المقربين منك، فيمكنك أن تطلب المساعدة من مجموعات الدعم الشخصي عبر الإنترنت أو الواقع، أو أن تتواصل مع الأشخاص الذين نجوا من مواقف مماثلة.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع الانفصال العاطفي وتحرّر مشاعرك الدفينة؟
ساعِد وافعل شيئاً إيجابياً
وجِّه مشاعرك نحو إحداث تغيير في المكان المحيط بك، فيمكنك مثلاً أن تساعد المتضررين من الحادث، أو أن تجمع التبرعات، أو أن تقوم بأي شيء مهماً كان بسيطاً لمساعدة شخص آخر؛ وهو ما قد يساعدك بدوره على تخفيف الشعور بالذنب.
فكِّر في الأسباب الحقيقية للحادث
ما ذنبك إن حدث زلزال في منطقة ما ونجوت منه؟ وما ذنبك إن قام متمردون بإطلاق النار على مجموعة من الناس دون أن تُصاب؟! لا تلم نفسك على شيء لا ذنب لك فيه. حاول أن تحوّل تركيزك على الظروف الخارجية التي سببت الموقف، فهذا من شأنه أن يساعدك على التوقف عن لوم الذات وتقليل الشعور بالذنب.
تدرَّب على مسامحة النفس
حتى ولو كان إهمالك أو أفعالك مسؤولة بشكل أو بآخر عن إيذاء شخص ما، تعلّم كيف تسامح نفسك فهذا قد يساعدك على المضي قدماً واستعادة النظرة الإيجابية إلى الحياة.
اقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع اضطرابات الطفل الناتجة عن المصاعب الأسرية الخفية؟
اطلب المساعدة
في حال كانت أعراض عقدة الناجي شديدة ويصعب عليك التحكم فيها، أو تتعارض مع قدرتك على العمل أو الحياة على نحوٍ طبيعي، فينبغي لك طلب المساعدة من المختصين لمعالجة مشاعر الذنب المفرطة هذه.
من المهم الحصول على العلاج المناسب بالنسبة إلى الشخص الذي يعاني من الأعراض الآنفة الذِّكر لعقدة الناجي، لأنها لا تقلل من الصحة النفسية ونوعية الحياة فحسب؛ بل يمكن أن تشكل مخاطر جسيمة على صحة الإنسان، وخصوصاً في حال وجود الأعراض الأخرى لاضطراب ما بعد الصدمة.
وفي الواقع، قد وجد بعض الباحثين أن الشعور بالذنب بعد الصدمات يرتبط ارتباطاً وثيقا بالأفكار الانتحارية عند قدامى المحاربين.
ويُعد العلاج السلوكي المعرفي من الأساليب العلاجية التي قد تكون فعالة في التعامل مع عقدة الناجي على نحوٍ خاص؛ حيث يعمل المعالج على استكشاف الأفكار السلبية التي تسهم في الشعور بالذنب ويساعد على استبدالها بأفكار أكثر واقعيةً لتخفيف هذا الشعور ولوم الذات، بالإضافة الى أن الأنواع الأخرى من العلاج النفسي والعلاج الجماعي ومجموعات الدعم والأدوية، قد تكون مفيدة في علاج أعراض عقدة الذنب لدى الناجين.