ملخص: كتبت ليلى البالغة من العمر 60 عاماً، على صفحتها على الفيسبوك: "أردت أن أصبح طبيبة لكنني اضطررتُ إلى التخلي عن هذا الحلم بعد عامي الأول بكلية الطب. وأردتُ أن أقتحم مجال العمل السياسي لكنني مُنيت بالهزيمة 3 مرات في الانتخابات البلدية. وأردتُ أن أنجح في عملي لكنني فُصلتُ 4 مرات بسبب التعبير عن اختلافي في الرأي مع رؤسائي. لقد جربت عشرات الأشياء وفشلتُ فيها كلها تقريباً، باستثناء شيء واحد؛ وهو حياتي، لأنني تجرأت على كل شيء وجربتُ كل شيء، وقد جعلني هذا سعيدة جداً. إذاً، كيف نتغلب على إخفاقات الحياة؟ بقبول سُنَّة الحياة!
نطمح جميعاً إلى إثبات جدارتنا؛ لكن تتخلل مساراتنا فرصٌ ضائعة وقرارات مؤسفة، وأحياناً أخطاء لا تُغتفَر، فكيف نتغلب على إخفاقات الحياة؟ بقبول سُنَّة الحياة!
كتبت ليلى البالغة من العمر 60 عاماً، على صفحتها على الفيسبوك: "أردت أن أصبح طبيبة لكنني اضطررتُ إلى التخلي عن هذا الحلم بعد عامي الأول بكلية الطب. وأردتُ أن أقتحم مجال العمل السياسي لكنني مُنيت بالهزيمة 3 مرات في الانتخابات البلدية. وأردتُ أن أنجح في عملي لكنني فُصلتُ 4 مرات بسبب التعبير عن اختلافي في الرأي مع رؤسائي. لقد جربت عشرات الأشياء وفشلتُ فيها كلها تقريباً، باستثناء شيء واحد؛ وهو حياتي، لأنني تجرأت على كل شيء وجربتُ كل شيء، وقد جعلني هذا سعيدة جداً. هذه هي سُنَّة الحياة، فنحن مبرمَجون على النجاح لكن لا شيء يسير كما نخطط له. وإذا لم يحدث شيء يشكّل خطراً داهماً علينا، فإن هذه الإخفاقات، وليس نجاحاتنا، هي التي تُضفي طابع الإثارة على حياتنا".
عاشت ليلى حياة باريسية بمعنى الكلمة؛ لكنها قرّرت في النهاية أن تكون مزارعة في منطقة لِمُزَان الريفية. وكانت ترى أن الوقت وحده كفيل ببيان فشلها أو نجاحها في كل تجربة تخوضها؛ إذ تقول: "في الماضي غادرنا الريف إلى المدينة؛ لكن الكثيرين يعيدون اليوم تغيير وجهتهم في الاتجاه المعاكس لأن الحياة ترغمنا على تغيير اتجاهاتنا في ظل تغيُّر معاييرها الحاكمة. وقد نتساءل إثر وقوع الكوارث البيئية وأزمات المهاجرين وارتفاع معدلات البطالة والحوادث الإرهابية: ما الأخطاء التي ارتكبناها؟ في مواجهة الفوضى التي تتفشى في حياتنا، نعيد تقييم خياراتنا كلها بدايةً من الأولويات الأكثر أهمية إلى أقلها أهمية، متسائلين عما إذا كنا نطارد أحلاماً مستحيلة، وما إذا كنا نسير في الاتجاه الخاطئ الذي يقودنا إلى فشل محتوم.
فرصة للارتجال
أين الخطأ؟ من أين جاء؟ ما الصنيع الذي جانبني فيه الصواب؟ وأي قرار أسأت اتخاذه؟ يقول الفيلسوف والروائي الفرنسي تشارلز بيبان (Charles Pépin): "لا توجد نغمة موسيقية خاطئة في المطلق، لأن أي نغمة تتيح للملحّن حرية صنع تنافر بديع باستخدامها وإعادة دمجها في السياق العام للمعزوفة والقصة التي يرويها لحنه، وما حياتنا إلا كمعزوفة موسيقية". ولكن لماذا ينظر البعض إلى الحدث نفسه باعتباره خطأ لا يمكن إصلاحه، بينما يعتبره البعض الآخر فرصة للارتجال؟ تقول عالمة النفس والمستشارة المهنية دينا الطيب (Dina Taïeb)، إنها ترافق مرضاها للخروج من "عنق الزجاجة" الذي يتساءلون فيه عمّا إذا كانوا قد أهدروا فرص النجاح في حياتهم؛ مثلما يحدث حينما تكون أمامهم طريق واعدة كان ينبغي لهم أن يسلكوها ولكنهم ضلوها وسلكوا طريقاً أخرى. وتشير إلى أن علاقتنا بالعمل هي السبب الرئيسي لشعورنا بالضعف؛ إذ تقول: "يضع الكثيرون العمل في صميم هويتهم ويحددون قيمتهم على أساسه؛ لكن الشباب يضعونه في حجمه المناسب نوعاً ما، ويستثمرون المزيد من جهودهم في توطيد علاقاتهم بأصدقائهم وممارسة هواياتهم. فبعدما شاهدوا والديهم يعانون آلاماً مبرحة نتيجة الطلاق أو البطالة، لم يعودوا مستعدين لوضع طاقتهم كلها في مكان واحد؛ وبالتالي يحتفظون لأنفسهم بمزيد من المرونة في مواجهة الفشل وكذلك النجاح".
وتضيف عالمة النفس: "لكن ما يقودنا إلى اعتبار مساراتنا جيدة أو سيئة يتوقف إلى حدٍّ كبير على تاريخ الأُسرة؛ كالوظائف التي عمل بها آباؤنا وأجدادنا وحياتهم العاطفية وصراعاتهم وآلامهم. فنحن نرث منهم علاقتهم بالحياة، ونتشرّب نجاحاتهم أو إخفاقاتهم؛ مخاوفهم أو إقدامهم. وحينما نشعر بالضياع وبأننا قد ضللنا طريقنا، يمكننا استلهام دروس قيّمة من علم الأنساب حول مضمون المعتقدات الراسخة في نفوسنا؛ كالأوامر التي يوعز لنا بها كبار السن والأفكار المستمَدة من محيطنا الاجتماعي (الأنا العليا) والنماذج التي نقتدي بها لبناء هويتنا (الأنا المثالية) وتخيلاتنا البطولية (مثالية الأنا). تلقي هذه الدروس الضوء على ردود أفعالنا عند مواجهة الروتين وتجعلنا نتساءل: "ما المهمة التي تم تكليفنا بها؟ وهل نجحنا أم فشلنا في تقليد أسلافنا؛ في إثبات جدارتنا بتضحيات والدينا؟ وما الحكم الذي نخاف منه"؟ وعندئذ تكون إخفاقاتنا فرصة للتعرف إلى هذه التأثيرات وتحديد معاييرنا الخاصة للنجاح.
معاودة النهوض مجدداً بعد كل كبوة
ما النجاحات التي نهدف إلى تحقيقها؟ هل نريد الاستزادة من شيء ما، أو أن نفعل المزيد منه؟ وهل سنصل يوماً إلى التشبُّع الذي يجعلنا نكف عن محاولة السعي إلى المزيد؟ في الواقع، تقول عالمة النفس واختصاصية العلاج النفسي، جين سيو فاكشان (Jeanne Siaud-Facchin): "لا توجد غاية نهائية يمكن أن يصل إليها المرء قبل منافسيه ليعلن فوزه عليهم"، فالحياة أشبه برحلة مستمرة نحاول فيها معاودة النهوض مجدداً بعد كل كبوة؛ سلسلة من الانتصارات والهزائم التي عليك أن تعرف كيف تتقبلها بصدر رحب". وترى أن هذا هو جوهر "القصة الحقيقية" والتسلسل المنطقي لحياتنا الذي يسير على النحو التالي: "النشأة والمصير، الحب ومواجهة العقبات، التغلب على المخاوف والمضي قدماً، السقوط والنهوض مجدداً، الالتزام، النجاح والفشل، التعلق بالآخرين ونيل محبتهم، الشعور بالانتماء والإحساس بالوحدة، نيل القبول والشعور بالأمان، الشغف ونيل الاحترام والتقدير، القلق والفرح، ثم توهُّم الوصول إلى الغاية النهائية؛ ولكن هل وصلنا إليها فعلاً؟ فالإنسان يسعى دائماً إلى وجهة غير واضحة المعالم. ومتى يمكنه أن يقول: ها قد فعلتها ووصلتُ إلى غايتي؟". إنه مجرد وهم، ولا يستطيع أحد أن يدّعي نجاحه في تحقيقه لأن النجاح، على حد وصفها، ليس هدفاً في حد ذاته ولكنه عملية مستمرة؛ أي أنه القدرة على المضي قدماً وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه.
استخلاص العبرة من التجارب السيئة
"لقد عاشا حياة سعيدة أنجبا خلالها العديد من الأطفال". ربما كان هذا مقطعاً من قصة خيالية لأمير وأميرة لكن من المؤكد أنه لا يعبّر بحال من الأحوال عن حياة سلوى البالغة من العمر 42 عاماً، فقد أَقدَم أميرها على محاولة إذلالها، واعتدى عليها أكثر من مرة، وجعلها تفقد ثقتها بنفسها تماماً. وحينما أرادت أن تتركه، اضطرت إلى الاستعانة بطبيب نفسي حتى تقف على قدميها من جديد. أرادت أيضاً أن تُدلي بشهادتها في هذا الخصوص قائلة: "يمكنني إخبارك بخطأ واحد لكنه خطأ فادح؛ خطأ جعلني أستمر في علاقة كهذه لمدة 20 عاماً. كان هذا الخطأ هو أنني أحببت هذا الرجل وتوقعت أن يبادلني مشاعر الحب. حسناً، لم يحدث أي من هذا"! وذكرت لنا أن خطأها الأكبر كان الاستسلام للخوف لفترة طويلة من الزمن. وقد أخبرتنا أيضاً بالدروس المستفادة من هذه القصة وكيف أنها خرجت من هذه التجربة السيئة بالعلاج الحاسم في الوقت نفسه. لا شك أنه كان عليها أن تذهب إلى هذا الحد لاكتشاف الازدراء العميق الذي كانت تكنه لنفسها، والاعتقاد بأنه كان عليها التكفير عن خطأ ما، وهو ما لم تستطع الشكوى منه لأن الآخرين قبلها عانوا تجارب أسوأ بكثير. كان عليها أن تصل إلى الحضيض حتى تعاود النهوض مجدداً وتعثر على مصدر القوة داخلها وتستعيد ثقتها بنفسها وتتعلم كيف تطلب المساعدة والمواساة من الآخرين. "والسؤال الذي يطرح نفسه بعد أن حددت خطئي كان: كيف أتمكن من مسامحته، وأشجّعه على أن يسامحني"؟
لا يسعنا أن نُعيد تشكيل الماضي لكن يمكننا بناء المستقبل، فانتصاراتنا تخفي هزائمنا والعكس صحيح. وهناك نجاحات كبيرة وُلدت من رحم مِحَن عميقة، ومن ثم فإن الإخفاقات الجسيمة التي تساعدنا على اكتشاف أنفسنا، حتى وراء قضبان السجن أو في مستشفى للأمراض النفسية والعقلية أو في مركز لإزالة السموم. الحياة تتأرجح هنا وهناك ما بين نجاح وفشل؛ لذا يدعونا المحلل النفسي ميغيل بينازياغ (Miguel Benasayag) إلى السماح لأنفسنا بخوض غمارها وعدم الخوف من الغرق وبحث كل إنسان بلا كلل عن ضالته. "ولن يصيبك إلا ما قُدِّر لك، شئت أو أبيت. وإذا أردت أن تعيش حياة حقيقية، فعليك أن تدفع تكاليفها في النهاية، أياً كان ما يحدث" (من مقالة "الانغماس في الحياة يوجب عليك خوض غمارها" (S'engager, c'est être happé par la vie)، مجلة "الفلسفة" (Philosophy)، فبراير/شباط 2014)".