ملخص: يتسبّب الاكتئاب في شعورنا بـ "آلام جسدية محسوسة" كما أنه يحفّز منطقة الألم الجسدي في الدماغ التي تم تحفيزها؛ لكن الاكتئاب أكثر شيوعاً لدى أولئك الذين عانوا العديد من تجارب الانفصال العاطفي في أثناء الطفولة كما لو أن دائرة الألم قد أصبحت أكثر ضعفاً بسبب هذه التجارب المبكرة. تعرف أكثر عن علاقة الآلام النفسية بشعورنا بآلام جسدية محسوسة في أثناء تجربة قام بها علماء أعصاب.
استلقى جمال داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي وكان في الوقت نفسه يشارك بعضاً من الطلاب الآخرين بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس لعبة إلكترونية كما لو كانوا يلعبون كرة القدم فوق ملعب عشبي؛ حيث يستخدم كلٌ منهم مهارته في ركل كرة رقمية وتمريرها إلى أحد المشاركين الذي يختاره بدوره.
أخذ جمال يتساءل عن مغزى هذه التجربة وفائدتها لعلماء الأعصاب الذين دعوه للمشاركة فيها. وبعد فترة، لاحظ أن اللاعبين الآخرين يمررون له الكرة بمعدلات أقل فأقل، إلى أن امتنعوا في النهاية عن تمريرها له مطلقاً. مكث ينتظر دوره. من المؤكَّد أنهم لم ينسوه لأن شخصيته الافتراضية ما تزال ظاهرة على الشاشة، ولا بد أن الآخرين يلاحظون أنه ينتظر دوره.
بعد بضع دقائق، استنتج جمال أنهم ببساطة لا يريدون مواصلة اللعب معه. انتابه شعور بالحرج الشديد، وغلى الدم في عروقه. أراد أن يتململ داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي لكن الحركة كانت ممنوعة منعاً باتاً، وعلى الرغم من أنه لم يقابل هؤلاء الطلاب الآخرين أبداً فقد شعر بالانزعاج، بيد أنه لم يشأ الاعتراف بذلك. لماذا استبعدوه وأسقطوه من حساباتهم؟ ما الخطأ الذي ارتكبه؟
لا شيء! في الواقع، لم يكن الطلاب الآخرون الذين اعتقد أنهم زملاؤه في الجامعة، سوى شخصيات افتراضية تمت محاكاتها بواسطة برنامج إلكتروني، وتم إعطاؤها تعليمات لاستبعاد جمال من اللعبة، بغض النظر عن طريقته في اللعب، لكي تستثير شعوره بالحنق.
وقد شعر المشاركون في هذه الدراسة جميعهم تقريباً بالحنق الذي كان يجيش في صدر جمال، وأظهرت هذه التجربة لأول مرة ما يحدث في أدمغتنا عندما نشعر بالرفض. وتوصّل الباحثون من خلالها إلى أننا عندما نتعرّض لرفض المجموعة، فإن هذا يجعل مناطق معينة في الدماغ "تومض"، والمثير في الأمر أن هذه هي المناطق نفسها التي تومض عندما نشعر بألم جسدي! فقد تصوّر دماغ جمال أن تجاهله بهذا الشكل لا يختلف من قريب أو بعيد عن تعرُّضه للقرص أو اللدغ، فهو شعور مؤلم نفسياً وجسدياً، وهذا الألم محسوس فعلاً في الجسد.
لقد ورثنا أدمغتنا، وبخاصة الشق العاطفي منها، من أسلافنا القدماء. وحينما كان أسلافنا يعيشون في غابات السافانا، كان انفصالهم عن المجموعة يعني الموت المؤكَّد. وهكذا فإن الآلية الفطرية لألم الانفصال تجعلنا نبدو كأننا نقترب بشدة من النار كوسيلة لحماية أنفسنا، لذا يبدو من الطبيعي أن يستخدم دماغنا الآلية نفسها لتجنب حالات الانفصال التي تعرّض سلامتنا الجسدية للخطر أيضاً.
ويتم في واقع الأمر تنشيط منطقة الدماغ المسؤولة عن الإحساس بهذا الألم عندما ينفصل الطفل عن أمه كما يتم تنشيط المنطقة ذاتها لدى الأم عندما تسمع صرخات طفلها المعبّرة عن الحزن، وهو شعور مؤلم جداً نفسياً، وموجع جسدياً.
ويمكن بالتالي اعتبار هذا بمثابة تأكيد لحقيقة هذه الآلام كلها، هذه الأحاسيس الغريبة في أجسادنا من غُصة في الحلق وثِقَل في الصدر والشعور بأن قلوبنا "مكسورة"؛ التي نشعر بها عندما ننفصل عن أولئك الذين يشكلون محيطنا الاجتماعي ويغذون علاقاتنا العاطفية. نشعر بالألم عندما يغادرنا أحباؤنا ويتركوننا وحيدين على رصيف المحطة؛ إذ تتوجَّع الأم حقاً عندما يبتعد عنها ابنها ولا تتلقى منه أخباراً تسرها، وتشعر المرأة بالألم عندما تجد نفسها وحيدة بعد الطلاق. ويختلف مقدار هذه الآلام كلها من شخص إلى آخر؛ كما لو أن كل جسد يضيف لمسته الخاصة إلى تجربة المعاناة. ولا ينطق الجميع الكلمات نفسها إثر تعرّضه لحالات الانفصال أو الرفض، ولا يختبر المشاعر ذاتها التي يختبرها الآخرون كذلك.
ويتسبّب الاكتئاب في شعورنا بآلام جسدية محسوسة أيضاً كما أنه يحفّز منطقة الألم الجسدي في الدماغ التي تم تحفيزها في أثناء تجربة جامعة كاليفورنيا (القشرة الدماغية الأمامية)؛ لكن الاكتئاب أكثر شيوعاً لدى أولئك الذين عانوا العديد من تجارب الانفصال العاطفي في أثناء الطفولة كما لو أن دائرة الألم قد أصبحت أكثر ضعفاً بسبب هذه التجارب المبكرة.
وقد لخّص المحلل النفسي الإنجليزي المعروف جون بولبي (John Bowlby)؛ وهو أول من ربط الحياة العاطفية البشرية والاضطرابات النفسية بالسلوك الاجتماعي للحيوانات وردود أفعالها تجاه الانفصال، الأفكار الرئيسية الكامنة وراء معاناة الرئيسيات جميعها في سلسلة كتبه عن "الارتباط والفقدان" (Attachment and Loss) التي صدرت تحت 3 عناوين: "الارتباط" (Attachment)، "الانفصال" (Separation)، "الفقدان" (Loss). وبفضل التقدم في تقنيات تصوير الدماغ التي نشهدها اليوم؛ بدأنا نرى كيف أن هذه الآلام التي ننسبها دائماً إلى المجال العقلي يتم تسجيلها في دماغنا كآلام جسدية، وهو ما يمكن اعتباره منطقة أخرى تتصف فيها الحدود بين الجسد والعقل بالغموض وعدم الوضوح.